أحمد غانم عبد الجليل - أوكار البريّة.. ـ قصة ـ

مرحبًا، اسمي آدم، سأكون في خدمتكم طيلة فترة إقامتكم هنا، أرجو كما ترجون ألا تطول، لتعقبكم وجبة إثر أخرى في دروب الرحيل، أما أنا فحياتي هنا، في هذه القرية الجبلية النائية، ذاكرتي لا تتسع لأي مكانٍ آخر، وعيت وكبرت وأنالا أعرف شيئًا عنعائلتي، ولا أدري إلى أي جنسية أو قومية أنتمي، بين أناس ألفت لغتهم، من قبل لغات أخرى أقبلت مع المهاجرين من هنا وهناك، من الجنوب والشرق والغرب، كما رضعت من حلمات العديد من النساء، رسمحليبهنَّ ملامح وجهي الحيادية، فلا تسألوا طيرًا يجول في عرض السماء من أي وطنٍ يكون، أعمامي وأمهاتي وأخواتي الكبريات في الرضاعة أخبروني إني من سقط متاع قافلة مهاجرين من أعراقٍ مختلفة، تعرضت للملاحقة من حرس الحدود فتشتتوا في كل اتجاه وظللت أنا مرميًا في ظل صخرة كبيرة على أطراف القرية، وما فطن إلى بكائي سوى رجل كهل كادت عصاه تسحقني، فقد كان كليل النظر، لكنه استطاع حملي وأنا ملفوفًا بدثارٍ قذر حتى سلَّمني إلى صاحب أول بيت وصله، ومنذ ذلك اليوم ظلت أتنقل من بيت لآخر كتميمة حظ، لأنني أقبلت عليهم مع رذاذ أولى زخات المطر، استمرت لأيام من بعد طول جفاف أعياهم وخراف وماعز الرعي على أطراف الحدود التي تجمعنا مع أكثر من بلد يكون عادة مبعث تدفق عابري سبل الهرب، لذا تجدون إن المكان هنا لا يعاني من العزلة أبدًا، بل لعله أكثر مقصدًا من أي بلد سياحي سافرتم إليه أو سمعتم عنه، غير أن الإقبال إلى هنا لا يقل مع نشوب الحروب أو اندلاع الثورات أو تصاعد وتيرة الصراعات، بل العكس تمامًا، تجارتنا مزدهرة على الدوام، وفي الأعوام الأخيرة أخذت تتوسع وتتنوع، ما بين نقل الناس والبضائع، يتم تصنيف كل قسم إلى درجات، لكل منها مسالكها ومداخلها، شعابها وطرقها، ورجالها الذين يعرفون اختصاصاتهم جيدًا، فلا تحاول أي مجموعة التجاوز أو التدخل في شؤون مجموعة أخرى إلا وفق أصول وقواعد وأعراف، كما ليس لأي أحد تخطي رئيسه الأقدم منه والأكثر خبرة لئلا يختل توازن كل شيء وتعم الفوضى في صفوف الجميع، ومن ثم تلحق الخسارة بأولئك الذين يدعمون ويتابعون عن بعد، من هذا الصوب أو ذاك، لعل هذا يطمئنكم أكثر إلى أمن ترحالكموفق نظام لا يسمح بسقط متاع جديد لا تُعرف له هوية، فليس هناك في هذه البقاع سوى آدم واحد، لا يخطئني أي وافد يبدأ بسماع اسمي، الذي اكتسبته غربة الوليد منذ نحوعشرين عاماً، من قبل عبوره حدود أتنزه بالتنقل بين خطوطها التي قامت لأجلها حروب فيما مضى، عندما تتوقف الحركة حسب أوامر مسؤولينا لسبب أو لآخر، ليس لي أن أسأل عنه، وعلى كل حال فالأمر لا يستمر طويلًا، وإلا لواجهنا أزمة (اختناق مروري) مع سيل العابرين من منافذ التهريب الأخرى، لأن ما يحدث في بلاد الشرق خاصة لا يهبنا متعة الاسترخاء أكثر من عدة أيام، لكنني حقًا أستمتع بالعمل أكثر، إذ أصير بمثابة المرشد السياحي، مع امتيازات أكبر بالتأكيد، فأناممن يقررون مصائركم، هنا على الأقل،حيث لم يعد من سلطانٍ لدولكم وحكوماتها ووحشية عصاباتها وتخلف متطرفيها عليكم، لقد نجيتم من كل ذلكالتسلط على أعماركم ومستقبل أولادكم، مبارك لكم الحرية الوليدة في بريتنا الرحبة، بنيت فيها بيتي الخاص، وبالتحديد عند الصخرة التي وجدني العجوز في ظلها، بعد أن قررت لملمة ثيابي من كل ييت آوى تشردي، ساعدني في بنائه كل أصدقائي في القرية والبلدات المجاورة، كي يصير ملجأ العديد منهم من حين لآخر، خاصة عندما يجتاز أحدهم حدود بلده، بينما لا يستطيع مطاردوه ذلك، ولا تحاولوا معرفة التفاصيل مني لأني لن أجيب، أو على الأرجح لا أعرف بالتحديد، المهم أن بيت آدم يبقى ملجأ أمان لأصدقائي وعائلتي من المهربين، مختلفي اللغات واللهجاتواللكنات، قد لا يصدِق أحد إن منهم من كانوا شخصيات عامة ومرموقة في زمن بعيد، مثلالثوري الهائم في دروب النضال عهدًا تلو آخر، رجل الأمن الذي اعتاد رصد طرائده عن بعد،السياسي أو العسكري ذي المنصب السيادي الكبير، الداعية الدينية، الفنانوالرياضي المعتزلين، الرسام، الكاتب والشاعر...
دولة كبيرة متكاملة، أقوى من كل دولة محيطة، وأوسع نشاطًا ومعلومات، علاقاتنا متوغلة في كل مكان، ولا أبالغ إن قلت إن وجودنا له أهمية كبيرة في حفظ أمن وسلام المنطقة، وإننا مدعومون لحفظ توازن سياسات ومصالح متداخلة... نعم. هذا ما فهمته من فحوىأحاديث دارت أكثر من مرة بين أصدقاء أمامي، لكني مع ذلك أنفر من كل كلام في السياسة من هول ما أرى من مآسٍ مرتسمة على وجوه العابرين البؤساء، أولئك المتضورين حوعًا من سكنة الخيام المرتجفة بضربات الصقيع في ليالٍ أخاف ألا تمضي ساعاتها رغم اعتياد سنواتي عليها منذ الصغر، وأنا استدفئ ببيوت أهل لم أعرف سواهم، لأجل ذلك تجدونني أتفهممدى تشبثكمبالحياة الموعودة عبر جبالٍ وجبال، أكثر من الآخرين ربما، لكني في النهاية لا أترك انفعالاتي الخاصة تؤثر على عملي بأي شكل من الأشكال، وإلا لفقدت حياتي لا مورد متعتي الباذخة وإسرافي حد التبذير دون قلق بشأن المستقبل فحسب، وقد علمتني خشونة العيش التخلص من لغو مثل هذه المشاعر المرهفة سريعًا، لكني أيضًا لا أستطيع نسيان من يموتون وسط طريق التسلل الطويل ونضطر إلى دفنهم في مقبرة الغرباء، أظن إنه قد صار مثلها في أغلب بلاد الشتات وبلدات وقرى المرور الحدودية على مدى السنوات الماضية، يجوز إني سأُدفن فيها أيضًا، ألستُغريبًا، مهما اندمجتفي حياة الأهالي البسطاء، وحتى لو صرت جرءًامن ثنايا الصخور والجبال والهضاب والوديان.
شغلني هذا الهاجس كثيرًا، رغم كل محاولات تهربي منه، لذا فكرت منذ سن مبكرة بالزواج من هذه الأنحاء، كي أغرس وجودي هنا أكثر، ولأنني صرت من ضمن ميسوري الحال ومتنفذي المنطقة أظن إني سأحظى بأي فاتنة تميزها نظراتي عن الأخريات، هذا هو الحب كما أعرفه، وما أكثر ما أصادف من جميلات، لكن أن تنال إحداهن اهتمامي دون الأخريات فهذا يعني الكثير بالتأكيد، لكنني أتهيب الرفض أيضًا، لأني لا أنتمي للمكان حسب العرف الشائع هنا، رغم رحابةمخابئه ومغاره لإيواء الأقوام المهاجرة من شتى بقاع الدنيا،فجذور نسبي إلى جد الجد لا تغور في الأرض المتموجة على امتداد سلسلة الجبال المحيطة بنا على مرمى البصر الذي يأخذني بعيدًا، نحو أمكنة وعوالم أخرى، إلا أني لم أجرؤ على الرحيل عن الأرض التي ما عرفت سواها موطنًا، ولا عن أهلي، ولو بالرضاعة والعناية، دون أن يصدني باب ما أن أردت الالتجاء إلى أي بيت، ولو بحجة الطعام الذي لم أحمل همه يومًا، بل أني كنت أهرب منه بعضالأحيان وكل واحدة من أمهاتي تصر أن أظل أتناوله في بيتها، مع بقية أخوتي، دون الأخريات، وكم صرت موضع نزاع بينهنَّ لأجل ذلك وكل ما يتعلق بي، رغم عوز الفقر في فترات كثيرة، بقيتُ مدللهنَّ جميعًا حتى اليوم، مماكان يثير حنق وغيرة أقراني مني، لكني لم أخاصم أحدًا، وإن حدث شيء من الزعل كنت أنا من يبادر إلى الصلح، ربما لأني كنت أخشى أن يتسبب ذلك في إقصائي عن حضن إحداهن، ولا تسألوني عن عددهن، فأنا لم ولن أجرؤ على حصرهنَّ ضمن عدد محدود أشير إليه بأصابع اليد، أو اليدين،صدقوني ليس لي أن أحصي دفق موج حنوهنّ، أكثر ما يمكن أن يمنعني عن شد الرحال نحو بلدٍ من البلاد التي تأملون الوصول إليها، وكأنكم لم تعهدوا أحضان الأمهات ولا سكنى الأوطان يومًا.
عذرًا منكم، لا أقصد لومكم ولا المزايدة على مشاعركم، أعرف أنكم فارون من الموت، وربما ما هو أقسى من الموت، إنما قصصت عليكم كل ما في جعبتي، إن لم أنسَ أمرًا أسهبت في الكلام عنه مع آخرين، لأنني وجدتكم مثل، أو شبه، العائلة التي تظل تتراءى في أخيلتي،مهما حاولت التشاغل عنها، لا أقول طبعًا إنكم أسرتي التي ساطها الخوف وأصابتها لوثة الفرار فتركتني في العراء وحيدًا، لست مخبولًا إلى هذا الحد، وليس لأحلامي أن تؤمن بمثل هذه الفبركة، لكن أقول قد، ربما، اعذروا تعثر لساني وأنا أسألكم إن كنتم سمعتم ولو عن طريق الصدفة يومًا، من الأهل أو الأقارب أو الأصدقاء، عن امرأة أضاعت رضيعها، وإن كان يمكنم معرفة أي سبيل يدلني عليها، وعلى والدي وأخوتي أيضًا، لا أعرف لمَ لا يأتيني سوى طيف أمي بوضوح، كما لو كان حقيقة ماثلة أمامي، بلا أن يستقر وجهها على ملامحٍ محددة، ربما لأن عبق أنفاس أمهاتي يظل يعطر نسائم روحي على الدوام، رغم أن رجال القرية أيضًا لم يبخلوا عليّ بشيء، وكذلك أخوتي وبقية أقاربي المتفرقين في البلدات والبلاد المجاورة.
عذرًا منكم ثانية لأني أثقلتكم بحكايتي الغريبة وأنتم ترزحون تحت وطأة نيران الحكايات المتطاولة من كل بلدٍ يتناوشه الطغيان، لم أقصد أن أكون سبب ذرف المزيد من دموع النساء في جمعكم الذي أرجو ألا يتفرق أبدًا رغم كل شيء، والآن سأترككم، لعلي أجد في مجموعة أخرى من المهاجرين الجدد ما يثير حماستي ويدفعني لسرد قصتي من جديد، بزيادة هنا ونقصان هناك على الأغلب، وأنتم أيضًا، أينما حللتم، ورغم كل مشاق سفر الرحَّالة الذي تكابدون، أرجو أن تتفرغوا لو بعض الوقت للتطرق إلى حياة آدم الذي لن تسنح لكم الفرصه للقائه بعد مغادرتكم هذه البقاع، قصوا ولو خلاصة سنوات ضياعي (الآمن) على من تعرفون ومن لا تعرفون، فإن صادفتم أفراد أسرتي، أو من تبقى منهم، أبلغوهم أني أتتظرهم هنا، في درب من الدروب القصية عن مدن النعيم والمدن المنكوبة بركامما نخلفه وراء ظهورنا، يتضاءل لدينا حينًا بعد حين حتى يتلاشى من أذهاننا تمامًا، أنتظر على أمل اللقيا، دون ذلك لن أغادر أرض نشأتي أبدا، ثم قولوا لهم إني ولو كنت أحيا في جنبات الجنان سأبقى أفتقد عمرًا انتزعته البرية مني.

~~~~~~~~~~~~~ 25 ـ 12 ـ 2021 عمّان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى