أحمد عبدالله إسماعيل - بحر الحرية

قبل أن تتوسط الشمس السماء، في هذا اليوم الذي انتشرت فيه روائح الفل على المنطقة كلها، انتهيت من إعادة شحن عداد الكهرباء، ثم سرت متثاقل الخطوات إلى البيت، أفكر في تناول الفطور قبل فوات موعد الدواء، تلقيت اتصالًا مفاجئًا، أبهج روحي، من صديق افتقدت تواصله لشهور طوال، قال إنه عاد في زيارة خاطفة.
صدمني حين قابلته، إذ قال:
- أكبر خطأ ارتكبته في حياتي، رغم أني عانيت كثيرًا حتى تحقق، ولو عاد بي الزمن لن أكرره، أخذني العمل وغصت فيه.
شيّبه الفكر، واستبدَّت به المخاوف، وخفتَ صوته وأكمل:
- أخشى على أولادي؛ أريد معرفة كل صغيرة وكبيرة، وصرت أنتبه للتفاصيل الصغيرة، وعند توجيههم يتعجبون، ولا يقتنعون بسهولة.
بعد غياب طويل، تناولنا الغداء واستمتع بطعامه المفضل، ودهش من مذاق شوربة الدجاج، ومستوى المطعم، لكنه بدا مؤرق الفكر كمن يحمل همًّا كبيرًا؛ فقلت في عجب:
- لا يسعدني إلا نجاحك، فهل تعزم جديًّا على العودة؟! وهل تقبل أسرتك؟!
زاغ بصره وبدت علامات اضطراب المشاعر على وجهه وقال:
- عن أي نجاح تتحدث؟! لا أنام؛ أخاف أن يغرق أولادي! أتذكُر حفاظنا على الصلوات؟
أومأت برأسي بالإيجاب.
تنهد ثم أكمل:
- بعد مرور كل هذه المدة تريح نفسي ذكريات نسمات السير ساعة الفجر الندية؛ لذا أحس بتأنيب الضمير كلما تفكرت في أحوال أولادي.
أذهلني ما سمعت فصارحته:
- بإمكانك تنشئتهم بشكل سليم في أي مكان كما أن واقعنا يختلف عما عايشته في السابق.
أجاب من دون تردد:
- قال ولدي أثناء تناول الغداء ذات يوم إنه يشعر بالانجذاب نحو زميله؛ فقامت القيامة!
- يا لها من بلوى!
- لم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ ففي الأسبوع التالي صعقني ولدي الآخر، حين أمرته بالصلاة، بقوله إن له زميل بوذي وآخر لا يؤمن بأي دين!
سألته محتجًّا:
- وهل وجودهم في مصر يضمن منع حدوث ذلك؟
بادرني بسؤاله:
- ماذا تقصد؟
أجبته بوضوح:
- يتصرفان في أمورهما بلا قيود، ويعبران عن آرائهما وأفكارهما بحرية كاملة دون عواقب أو مساءلة، لكن إذا عاد أحدهما أو كلاهما فسيجدان كل كلمة بحساب.
أحاط به القلق وتنفس بصعوبة شديدة وقال:
- شاذ، ولدي؟ والآخر ملحد؟ أتراني أحتمل تلك اللحظة؟
سألته متعجبًّا:
- ألا تشعر أنك تبالغ وتضيِّع عليهم فرصة تلقي تعليم أفضل ؟!
بدت علامات الدهشة على وجهه ثم قال بثقة:
- هنا مدارس على نفس مستوى المدارس الفرنسية.
تبسمت قائلًا:
- لكنك ستدفع مئات الآلاف كما أنها غير متوافرة في كل المحافظات!
تحيّر وذهب عقله، وأطال النظر إليَّ، ثم قال في ضيق:
- لا أرى في كلامك ما يشجع على العودة، أليس كذلك؟
أثار سؤاله استغرابي، فأجبته بصراحة:
- ستدفع تكلفة عودتك عالية جدًا.
ثم أطنبت مفسِّرًا:
- الإقامة في مستوى قريب من نمط الحياة الذي اعتادوا عليه، ومصاريف ومتطلبات المدارس الدولية، وقضاء إجازة كل صيف في الساحل الشمالي.
ظهرت على وجهه حيرة، وتملَّكه الخوف وقال:
- لا تعلم مدى صعوبة تربية الأولاد في مجتمع مختلف، ما أسرع الأيام! صارت ابنتي مراهقة، ورغم صغر سنها فإن معظم زميلاتها يعيشن حياة الزوجات، وهي دائمة الجدال معي ونفس الحال مع رفيقة عمري الفرنسية ذات الأصول التونسية!
لم أدهش مما قال، وقلت في تفاهم:
- أعلم أن هناك مشكلات كبيرة تقابلكم هناك؛ إذ يشرِّعون قوانين تناسب مجتمعهم.
في محاولة أخيرة لإقناعه بوجهة نظري سألته:
- هل توافق زوجتك وكذا أولادك على الحرمان من الحياة الهانئة التي يتنعمون بها هناك؟!
بلغ الأمر درجة من التعقيد، وظهرت ملامح العبوس والاشمئزاز على وجهه؛ فمط شفتيه وباعد بين ذراعيه، وزفر زفرة مليئة بالغيظ، ثم تفكرت في أمره، وتساءلت بعدما أثار حديثه في نفسي الدهشة:
"ما قيمة العيش الرَّغْد إن كنت أنام كل ليلة خائفًا تتسلط عليَّ الكوابيس المزعجة التي لا تنتهي؟!"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى