آمال أرايا - بطعم البارود.. وعد في حكم الإنتظار!

~~1~~
ها هم يمرون بقرية حدودية أخرى مهجورة كسابقتها، أفرغ فيها جيش وياني حقده الدفين بطريقة ماسوية، فقد أحرقت المحاصيل الزراعية التي كانت تبشر بحصاد وفير، قتلت المئات من الحيوانات الداجنة وهدمت المنازل وسويت بالأرض ولم يتبق منها سوى أعمدة سوداء تقف متفرقة كشواهد القبور. حتى الموتي لم يسلموا من وحشيتهم فقد نبشت قبورهم وبعثرت عظامهم حول المقابر بطريقة بشعة غير إنسانية.
لم يكن لسكان تلك القرى العزل خيار سوى النجاة بأرواحهم والإبتعاد عن مناطقهم الحدودية المتاخمة لإثيوبيا قدر الإمكان بعد ان أصبحوا لقمة سائغة لمواطني إقليم تجراي الذين تنكروا للعشرة ونسوا الماضي الجميل الذي ربط بينهم، فحملوا ما أمكنهم من متاع ومون وودعوا أرضهم في حزن وحسرة على امل بالعودة في وضع أكثر أمانا.
أمرهم قائدهم ببناء معسكر مؤقت على أطراف تلك القرية، وتجهيز وجبة العشاء، ثم إختار البعض منهم للقيام بمهمة الحراسة الأولي، فقد وصل إلى علمه بأن هناك تحركات مكثفة مريبة لجيش العدو على الحدود بين البلدين.
كان فلمون من ضمن المجموعة الأولى المكلفة بالحراسة، رجع إلى داخل المعسكر لنيل قسط من الراحة بعد انتهاء فترة نوبته، أخبره صديقة محمود (حامل الراديو اللاسلكي) بان هناك قوات إرترية غيرهم مع كامل عتادتها الحربية على أتم الإستعداد والتأهب بالجهة الأخرى من القرية.
اسند فلمون ظهره على جانب الخندع الذي قاموا ببنائه على عجل في شكل حفرة قليلة العمق، واخذ ينظر إلى السماء الصافية ذات النجوم المتلالئة، تساءل في نفسه: "لماذا يبدو السماء مختلفا من منطقة لأخرى رغم انه واحد"؟ وغرق في نوم عميق قبل ان يجد الإجابة المنطقية لسؤاله.
~~2~~
لا يعلم لكم من الوقت استطاع فلمون إغماض عينيه، فقد استيقظ فجأة على صوت أزيز قوى فوق رؤوسهم وصراخ البعض "أنها غارة جوية، أنها غارة جوية". ارتفع صوت قائدهم وهو يطلب منهم الاحتماء، والتقدم بثبات بسرعة في إتجاة الطرف الذي تعسكر فيه إحدى قواتهم التي يبدو انها المستهدفة، فقد كانت قذائف طائرة العدو موجهة نحوها بقصد تدمير دبابات ومدفعية القوات الإرترية المحتشدة حول تلك القرى الحدودية.
أخذ البعض يتسابقون للوصل إلى موقع الإشتباك، وتقديم الدعم العسكري، بينما تبق البعض الآخر لحماية معسكرهم، كان فلمون من ضمن مجموعة الدعم. اخذوا مواقعهم بمجرد وصولهم على حسب أوامر قائدهم وإرشاداته، وبدأوا يحاولون إصابة الطائرة الحربية كلما إنخفضت لرمي البعض من قذائفها.
فجأة وقعت عيناه عليها أمامه مباشرة على بعد بضعة أمتار فقط من موقعه ووسط الدخان وأعيرة الأسلحة المختلفة التي كانت تبرق مثل الألعاب النارية في كل حدب وصوب حولهما وفوق رؤوسهما، انها هي (زودي) حب حياته! كانت تحتمي خلف صخرة ضخمة، ويبدو الخوف الشديد على وجهها الجميل المغطى بالتراب. تساءل مصدوما: " متى إلتحقت بالجيش، لقد تركتها محبوسة تستعد للزواج مني في قريتنا"؟
قبل أكثر من عام تم استدعاء فلمون للخدمة العسكرية (مرة اخرى) دون سابق إنذار، بعد ان تم تسريحه وتسليمه مستحقاته المالية التي استخدمها في التجهيز للزواج من خطيبته زودي التي طال انتظارها له. لبى الدعوة لحماية حدود وطنه بعد ان قطع وعدا لزودي بالعودة في الوقت المناسب لموعد إقامة مراسيم زواجهما الذي تم تحديده والإتفاق عليه بين عائلتهما، ولكنه لم يفعل ذلك، فقد مر على ذاك الموعد عام وشهرين واسبوع بالضبط، تنقل فلمون خلالها بين جبهات القتال المختلفة دون ان تتسنى له الفرصة او الوسيلة للتواصل معها وعائلتهما.
تنهد في ألم متسائلا بتعجب: "من كان يظن بأن الحرب الحدودية بين دولتين فقيرتين ستستمر لأعوام وتتسبب بكل هذا الدمار والموت"؟!
~~3~~
أخذ فلمون يناديها بصوت مرتفع ويلوح بإحدى يديه وقلبه يكاد ان يقفز من مكانه: " زودي...زووودي .. زوووووودي ..". لم تنتبه لتلويحه وضاع صوته وسط دوي الرصاص، إنفجار قذائف المدفعية، أزيز وصواريخ الطائرة الحربية التي ما فتئت تعود.
إنكمشت زودي في مكانها حول نفسها، وضعت رأسها بين رجليها في رعب واقفلت اذنيها بكلتا يديها الصغيرتين. اغرورقت عينيه بالدموع وهو يراقبها بعجز تام وقلبه مكسور. أنه يعلم بانها في أمس الحاجة إليه إلى جوارها الآن، ولكن لا يمكنه ترك موقعه، أنها أوامر قائده وعليه إطاعتها حتى وان كانت ضد إرادته. خنق رغبته الشديد في الذهاب إليها وضمها بين ذراعيه بيده بحزم وهو يعيد ملىء خزينة سلاحة الفارغة بسرعة ويمسح دموعه بإصبعه في عصبية.
في تلك اللحظة تذكر كلماتها التي همست بها في إذنه عند توديعها له ويدها اليمنى تتحسس موضع قلبه: "اذا إشتقت إلي ضع يدك اليمنى التي تحمل رمز عهودنا فوق قلبك وانتظر، بمجرد شعورك بدقاته اذكر إسمي، يمكنني سماعك مهما باعدت المسافات، البحار والجبال بيننا".
حمل سلاحه بيده اليسرى، ثم وضع يده اليمني فوق قلبه، شعر بضرباته السريعه، أغمض عينيه وتمتم: "حبيبتي، لا تخافي أنا هنا بجوارك تماما". ثم فتح عينيه ببطء شديد ونظر إلى مكانها، كانت هناك خلف الصخرة الضخمة، تجلس منتصبة الظهر ويدها اليمنى فوق قلبها، تنظر في عينيه مبتسمة في حزن ودموعها تجري بصمت.
ثم إتخذت وضعية الإستعداد للإشتباك بالأسلحة البيضاء مثله تماما، فقد أصيبت طائرة العدو محدثة إنفجارا مدويا في الجو وإشتعلت مثل كورة نار ضخمة، وبدأ الهجوم.

تمت


بقلم: آمال أرايا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى