مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربّة البيت (11)

(11)

لم تكن مدّة قيامي بأعمال ربّة البيت فرصة لاسترجاع بعض المهارات المنزلية التي اكتسبتها أيام العزوبيّة فقط، بل كانت إلى ذلك فرصة لاكتشاف أشياء أخرى منها ما يتّصل بالمنزل ومنها ما يتّصل بمحيطه. فمنزلنا الذي نأوي إليه وفيه نقيم منذ عشرين سنة إلاّ قليلا، يقع يا سادتي في ناحية منسيّة من حيّ لا بأس به. هو حيّ أغلب سكانه من أبناء الطبقة الوسطى وبناتها، ولم يكن، مع ذلك، لائقا جدّا، وخصوصا هذه الناحية المنسيّة منه. من نسيها؟ نسيها السابقون في الحكم ونسيها اللاحقون أيضا، ومازالت في حكم المنسيّات إلى اليوم رغم تباشير الحكم المحلّي التي هبّت علينا. كانوا من قبل يقولون إذا أبدينا احتجاجا أنتم ميسورون، والدولة معنيّة بمساعدة الفقراء فقط، وعليكم إذن أن تهيّؤوا ناحيتكم المنسية هذه بأيديكم، وحين اختفى هؤلاء وصعدت طائفة جديدة إلى السلطة جدّدنا مطالبنا فقيل لنا صبرا علينا يا آل الطبقة الوسطى، نحن اليوم منشغلون بقضايا أكبر وأعظم ولا تعنينا صغار الأمور. وبتطاول الأوقات، انطلت علينا الحيلة واعتدنا المشي في طريق ترابيّ كما اعتدنا أوحال الشتاء وغبار الصيف وظلمة الشارع ليلا. ولم تكن هذه النقائص تزعجنا إلاّ قليلا. نعم نحن نتذمّر أحيانا ونناقش الأمر في ما بيننا، وأحيانا يعلو التذمر فيصير احتجاجا على رئيس البلدية الديمقراطي جدّا، ولكنّنا مع ذلك لم نفكّر البتّة في الرحيل. وإلى أين يمكننا الرحيل وقد صرفنا جهدا عظيما في تأسيس هذا العشّ. بعض أجوارنا مثلنا تماما، من أبناء هذه الطبقة الوسطى الحالمين بالاستقرار يشاركوننا هذه الأوجاع في صمت. بعضهم قال منذ أكثر من عشر سنوات نحن تعنينا الأمور الكبار، أمّا هذه الصغائر فمآلها الاندثار. سيأتي يوم وتصبح فيه هذه الناحية المنسية تحت الأضواء. أنا أيضا كنت لا أعيرها اهتماما كبيرا ولا أنشغل بها إلاّ حين تعلو أصوات أبنائي احتجاجا وتذمّرا. من أبنائي من قال: ألم تجدا مكانا تقيمان فيه إلاّ هذا المكان؟ كم أنتما مغرمان بالبؤس! أضحك ظاهرا، وألعن، في سرّي، اليوم الذي قادتني فيه قدماي إلى هنا. لا علينا. نحن اليوم منشغلون بمهمات كبرى، وأكبر المهمّات أنتم يا أبنائي. أحلام طلع عليها نهار اليقظة فصارت كوابيس. لقد اكتشفت في هذه المدّة القصيرة أنّ هذا العشّ الذي فيه نسكن قد أحاطت به المزابل من كلّ ناحية، بعض هذه المزابل جاءت بها الرياح من بعيد وحطّت بها أمام الدار وخلفها، وبعضها الآخر يأتي بها بشر لا أدري من أين ولكنّهم يمرّون ويرمون نفاياتهم قريبا من دارنا. كنت من قبل لا أنتبه إلى هذه المزابل الوافدة، فقد كانت ربّة البيت الأصيلة مفتّحة العينين تراقب الدار من الجهات الأربع وتزيل ما جاءت به الرياح من أكياس البلاستيك المتطايرة فتجمعها وتضعها في الحاوية المنزلية لأتولّى أنا نقلها إلى حاويات الدولة البعيدة عنّا. وكان حضورها المستمر في محيط البيت يمنع العابرين من رمي زبالاتهم على قارعة الطريق. وحين أقعدها الكسر واختفت عن الأنظار تجرّأ الزبّالون على محيط دارنا. تذكرون أنّي شكوت ذلك يوما وحذّرت صاحب المزبلة النكرة من عقاب أليم. كان تحذيري في الحقيقة كذبة صغيرة ولكنّها آتت أكلها لأسبوع أو أقلّ فلم يبق لي غير ما جاءت به الرياح. ربّت البيت يا سادة ربّة حقّا. تسهر على صيانته وحمايته من الداخل ومن الخارج أيضا. لم أكن أعلم ذلك. كان تشغلني مهمّات كنت أحسبها كبرى. وها أنا أدرك في مدّة القيام بأعمال ربّة البيت أنّ مهمّة أكبر قد غفلت عنها وتعلّمت كيف يصون المرء منزله ويحميه من الداخل ومن الخارج أيضا. لابدّ إذن من وقفة صارمة في وجه المزابل وأصحاب المزابل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى