منذر فالح الغزالي - توظيف الأساليب السرديّة في القصة الوجيزة (حب وألم) للكاتبة اللبنانية هلا ياسين

"حبٌّ وألم نصوص

الثلج غطى المكان... صنعت رجل الثلج... ووضعت الشال عليه برفق واحتضنته...

يقسم رجل الثلج أن الدموع أذابته"

القصة القصيرة جداً جنسٌ سرديٌّ في غاية الحساسية، ليست حساسيته ناتجةً عن عدد كلمات النصّ المحدودة، وليست ناتجةً عن نمطٍ معين من الموضوعات التي يتناولها الكاتب، فكل الموضوعات الإنسانية والفلسفية يمكن أن تكون أفكاراً تغذّي الكاتب بالموضوعات.

أولا: توظيف الأفعال في النصّ:
يعتبر بعض النقّاد العرب أن أفعال الحركة شرطٌ من شروط القصة القصيرة جداً، أو على الأقل ركنٌ مهمٌّ من أركانها، وحجّتهم في ذلك هي أن الأفعال الحركية تولّد الحكائية في النص وتطوِّر الحبكة؛ لكني أرى أن الكاتب يمكنه أن يخلق الحكاية بأفعال سكونية، شعورية أو فكرية، بل إن الحكايات الأجمل والأبقى والأشد تأثيراً فينا، تلك التي لم نعشها في الواقع، أو لم يحتملها الواقع؛ حلمنا بها، أو أحسسناها، أو عانينا من تأثيرها... وكلّ ذلك يظلّ في الوجدان والذهن.

ربما يلجأ الكاتب إلى أفعال الحركة، في القصة القصيرة جداً لأن هذا النوع من الأفعال يعطي للحدث تنامياً (ملموساً)، حيث إن أفعال الحركة تعطي انتقالاً فيزيائياً في المكان والزمان.؛ غير أن الأفعال السكونية لا تعني السكون المطلق، ولعلّ بعض أفعالنا السكونية هي أقرب أفعالنا لإنسانيتنا، وأشدّها تأثيراً في مسار حياتنا، حكايتنا. الحزن والفرح والندم والألم… هي أفعالٌ سكونية، وهي الأكثر التصاقاً بالإنسان في كل أفعاله اليومية، مهما صغرت أو كبرت. هي النتيجة التي تحدّد ملامحنا وسلوكنا، وتميّز أسلوب أفعالنا وسيرورة أحداثها، أو هي الدافع العميق لأفعالنا وخياراتنا.

أفعال الحركة هي الظاهر السطحي من حياتنا، بينما أفعال السكون هي الجوهر النفسي والروحي العميق الكامن تحتها؛ من هنا كان التعبير عن حكاياتنا الظاهرية أيسر، لأنه محسوسٌ وموصوفٌ ومتحرّكٌ مكانياً وزمانياً. أما الحكايات الداخلية الساكنة في الأعماق فتحتاج إلى أدوات وتقنيات تقرّبها من الوصف، تجسّدها أمامنا. من تلك التقنيات: الترميز، وتقنية المرآة أو القرين، والأنسنة…

ثانياً: الأنسنة:

الأنسنة كما وصفتها الدكتورة درية فرحات: "ظاهرة أدبيّة يوظّفها الأدباء للتّعبير عن مشاعرهم عبر خلع صفات الإنسان على أشياء أُخرى، يحاكون فيها واقعًا يؤلمهم، أو شوقًا يؤرقهم، أو غير ذلك من المشاعر"[SUP][1][/SUP]

لكن...

مثل هذا النوع من القصص يحتاج إلى كاتبٍ ماهرٍ يعرف كيف يختار التقنيات المناسبة لكل نص ولكل حدث، وحسب المغزى والقصد الذي يرومه من هذا النص أو هذا الحدث، وكذلك الذي يمتلك من الأدوات الأسلوبيّة ما يمكّنه من دمج أكثر من تقنيةٍ واحدةٍ في النصّ، بتكثيفٍ جيد، وبنسبٍ مدروسةٍ، فيوسّع أبعاده التأويلية، وتشظّياته الدلاليّة، وتركيزه الانفعالي.

تحليل دلالات النص
افتتحت الكاتبة نصّها بجملةٍ وصفية جاءت بصيغة الفعل: " الثلج غطى المكان"، وأتبعتها بثلاث نقط إضمار، لتنتقل بعدها إلى سرد حكاية بسيطة من جملتين، ومن ثلاثة أفعال فقط يفصل بينها نقط إضمار أخرى: " صنعت رجل الثلج... ووضعت الشال عليه برفق واحتضنته..." ثم انتقلت إلى القفلة :" يقسم رجل الثلج أن الدموع أذابته" ليتوقّف النصّ عند هذه الجملة وتنسحب من الحكاية، وتترك النصّ للمتلقّي، يولّد منه حكايته الخاصة.

نوّعت الكاتبة باستخدام تقنياتٍ أسلوبيّة بتوظيفٍ مدروس، ما أدّى إلى ضغط النص بتكثيفٍ شديد، لا يسيء إلى انسياب الحكاية، وكذلك تحميل الألفاظ دلالاتٍ متعدّدةً تتجاوز، كثيراً، الدلالات المباشرة.

١- الترميز، (رجل الثلج) يرمز إلى زمن الطفولة، وإلى طقسٍ احتفاليٍّ مرح، وللثلج رمزيةٌ خاصّة تتأتّى من لونه الأبيض، وفي هذا إحالة جديدة إلى رمز الأبيض وما يمثّله من الصفاء والطيبة والنقاء، فرجل الثلج حمل هنا رمزيتين: رمزية الرجل، رجل الأحلام، ورمزية النقاء والمشاعر الصافية صفاء الثلج.

٢- في الأسلوب، استخدمت الكاتبة في المتن أفعالاً حركيّةً بصيغة الماضي: "غطّى، صنعت، وضعتُ، احتضنت"، وقفلت النص بفعلٍ سكونيٍّ مضارع: "يقسم"، فجاءت المفارقة من ناحيتين، زمن الفعل، وطبيعته؛ ولهذا، كما سيأتي، دورٌ دلاليٌّ، حيث إن الفعل الماضي يشير إلى حدثٍ تمّ وانتهى في زمانه، والحركية تشير إلى أحداثٍ ظاهرةٍ جرت في الواقع؛ وفي المقابل، الفعل المضارع يشير إلى الاستمراريّة ودوام تأثيره، والسكونية تشير إلى أنّ الحدث هو حدثٌ داخليٌّ، وجدانيٌّ وعميق، لا يراه أحد، ولا يعاني من تأثيره إلا صاحبه.

٣- الأنسنة: تكمن أهمية الأنسنة، إضافةً إلى التكثيف، في تحويل الحالات الشعورية إلى أفعالٍ تبعث الروح في الحكاية من خلال بثّ الحياة في الأشياء وإعطائها دفقةً حيويةً بأفعالٍ تحمل المفارقة لطبيعة الرمز الذي يحمله الشيء، مثلاً بكاء رجل الثلج هو فعلٌ مناقضٌ لطبيعة الرمز الذي يحمله رجل الثلج، من حيث إنه يشير إلى حالةٍ احتفاليةٍ في طقسٍ من المرح واللعب الطفولي، وكذلك يشبر إلى روح الطفولة السمحاء الطيبة؛ وحين يبكي رجل الثلج فهنا تكمن مفارقةٌ كبيرةٌ تحمل، إلى جانب الصدمة، تشظّياتٍ دلاليةً محمّلةً بإمكانياتٍ تأويليةٍ كبيرة، تدعو لفتح السؤال: لماذا بكى رجل الثلج، وماذا يمثّل بالنسبة لبطلة القصّة؟

هل كان شريكها في قصّة حبّ عاشتها البطلة في زمن من النقاء والصفاء، وانتهت بفراقٍ لا يزال الحبيب يبكي من ألمه؟

هل رجل الثلج هو مرآة تعكس مشاعر البطلة التي تحنّ إلى زمنٍ مضى، كان ملؤه البهاء والنقاء والحبّ الطفولي البريء؟

ويمكن أن نتوسّع في التأويل أكثر، والنصّ يحتمل:

هل تبكي بطلة القصة الإنسانية كلّها، تبكي البساطة والنقاء والسماحة التي يمثّلها رجل الثلج الأبيض؟

الإجابات لم تضعها الكاتبة، ولم تشر إليها في ثنايا نصّها من قريبٍ أو بعيد ؛ لكنّها جسّدت من خلالها حالةً إنسانيّةً ولحظةً شعوريّةً أراحت الكاتبة ببكاء بطلتها، وجعلت القارئ يولّد حكايته من خلال إجابته الخاصة عن ذلك السؤال الذي فتحه النص، فكانت هذه القفلة الجميلة هي مغزى النصّ بأكمله، وهي قصده الذي أرادته الكاتبة بوعيٍ وإرادة، أو بلحظة إشراقٍ تكثّفت فيها مشاعرها في هذا النصّ القصير جداً.

منذر فالح الغزالي

بون 3/1/2023
[1]- د. درية فرحات، تقنيات القصة القصيرة جداً، جريدة البناء اللبنانية[/HEADING]
نصوص أحد النصوص التي قرئت في أمسية ملتقى الأدب الوجيز لطلاب الجامعة اللبنانية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى