أحمد عبدالله إسماعيل - عرض غريب

محير جدًا أمر تلك المحاسبة؛ لم أنقطع عن مراقبتها وهي تقدم الخدمات البنكية للعملاء حتى حان دوري.
كانت متوسطة الطول، ذات وجه أبيض منمق، ضئيلة الحجم تبدو حديثة التخرج، ترتدي جاكيت أزرق اللون، وأمامها كوب من الشاي تمامًا مثل المرات السابقة، ونظرت إليّ بلا اهتمام!
على الرغم من ملاحة قسماتها، وقوة شخصيتها، رفضت الانصياع لأوامر مديرها، مشرق الوجه هادئ الطباع، وتمسكت بتنفيذ كل التوجيهات التي وردت من البنك المركزي بشأن السماح لمن تم توكيله بالسحب أو الإيداع نيابة عن عميل خارج البلاد.
لما رآني المدير جالسًا أمامها، قام من مكانه، وصافحني، وأصر على تقديم مشروب ساخن، ثم قام وهمس في أذنها.
نظرت إليهما وكان كل منهما مكمَّما فمه بكمامة زرقاء اللون، راقبتهما وهما يتحدثان عن طلبي، وبعد شد وجذب، وزيارات تكررت إلى البنك ما عدت أعلم ما يدور حولي وما عادت تلك المحاسبة تعلم ما يدور في رأسي، وما هو سر إصرارها على عدم إنهاء تلك المسألة!
على الرغم من معاناتي من مشكلات أهونها غيابي عن العمل مرضاة لأخي المغترب، وهي تقدم مبررات غريبة، وابتسامات صفراء تخفي خلفها خوفًا من تكرار جريمة سابقة بحق عميل خانته زوجته، نظرت في وجهها مليا وقلت بغضب مهددًا:
- لا أريد شيئًا منكم بعد اليوم؛ أريد أن أغلق حسابي لديكم، وعندما يعود أخي سيغلق حسابه هو الآخر.
وبعد المزيد من تلبية أخي ما تطلبه من طلبات بعمل توكيل رسمي عام تارة يتم فيه تحديد اسم البنك، والفرع مصحوبًا بتوقيع صاحب التوكيل عليه، وتارة أخرى تطلب توثيقه في مكتب تصديقات الخارجية، وأقدم إليها كل مرة ما تطلبه بيد تتردد وملامح عابسة.
وفي الأخير أنتظر انفراج تلك الأزمة التي يتأخر حلها بلا سبب، فقالت:
- أريد إجراء مكالمة فيديو مع الأستاذ غريب.
فسألتُ بنبرة باردة الإيقاع:
- وما فائدة كل الأوراق التي قام باستخراجها، وأرسلها بالبريد السريع من الرياض ثم تغيبتُ من عملي مرتين لتوثيقها وتصديقها من مكتب وزارة الخارجية؟ ألم يكن الحديث معه شخصيًّا كافيًا؟!
فقالت في هدوء وخبرة بمثل هذه المواقف كل يوم:
- أريد التواصل معه لمراجعة بعض البيانات.
تعجبت في دهشة وسألت:
- بيانات؟ هل هناك ما يثير قلقكم؟
أجابت في ثقة:
- فقط أريد التأكد من صدق هذا التوكيل، والتيقن من صورة بطاقة هويته، ومطالعة ملامح وجهه على الطبيعة.
ضجرت من التردد على البنك أكثر من مرة دون إنهاء هذه المسألة وقلت لها:
- لو كان الناس يسمون الأيام التي تمر عليهم حسب أحوالهم، لكان اسم هذا اليوم الممل المتكرر "المهمة المستحيلة."
أخيرًا، وبعد أن أحاط بي القلق وتصببت عرقًا، وبعد ملل من الانتظار الطويل، تلاحقت اتصالات أخي الدولية التي لا تتوقف على فيس بوك مسنجر، وبالطبع لم أرد؛ لأنني لم أتخيل ما سوف تؤول إليه الأمور.
جلستُ لبضع ساعات أحملق وأحوقل ولا أقول أي شيء حتى سمحت هذه المحاسبة- التي يظهر على صدر ملابسها ملصقٌ ذهبيّ اللون يحمل اسم "فاطمة أحمد"، والتي لا تبدو لي سوى طفلة- بسحب المبلغ، فابتهجت أملًا في إتمام ما يبتغيه أخي وأشتري له شقة قبل عودته، فقمت لأغادر المكان وقلت لها:
- لا يمكن أن أعقّد طلبات العملاء لو كنت مكانك.
قبل أن تضغط الزر ليدخل العميل التالي قالت:
- نحن في زمن غريب.
ظننت أنها تهاجمني بالكلام فقلت:
- ما غريب إلا الشيطان.
أوضحت سبب ما حدث معي طوال الأيام الماضية وقالت:
- شهدنا أبا يخون ابنه المغترب ويسرق ماله، بل ويتزوج خطيبته، ونرى زوجة تخدع زوجها المغترب لتخلعه وتتزوج غيره، وسمعنا عن الذي قتل والديه ليرث مالهما، والتي قتلت ابنها كثير البكاء بريموت التليفزيون لترضي عشيقها!
تفهمت سبب تشديد الإجراءات البنكية، وقلت في نفسي:
- معها حق، كثرت المصائب من حولنا؛ يبدو أن الساعة قد اقتربت!
استحسنت ما فعلَته هذه المحاسبة الصغيرة الكبيرة الملتزمة بضوابط عملها، غير أن المفاجأة أذهلتني حين سمعت صوت رنين الهاتف؛ تواصل أخي بي مرة أخيرة؛ وقال:
- أريد التحدث مع موظفة البنك في أمر هام.
سألها بصوت مليء بالجرأة والثقة كأنه يعرفها، وبهذه البساطة غير المتوقعة بعدما انبهر بجمالها البتولي الآسر:
- تتجوزيني؟!
لمعت عيناها في دهشة، وأعطتني الهاتف المحمول غير مصدقة ما سمعته، ظننتها وافقت حين رأيت الابتسامة تضيء وجهها لكنها صدمتني حين تحولت ابتسامتها إلى عبوس، وهي تلوح بالقلم الذي تمسك به في يدها اليمنى وقالت في استهجان:
- لا يصح الحديث في تلك الأمور بهذا الأسلوب غير الاحترافي في مواقع العمل، ولا يصح تجاوز العملاء في حديثهم مع الموظفين.
حاولت إصلاح ما أفسدته جرأة أخي وقلت:
- معه العذر؛ رأى جمالك الآسر فذهب عقله. المهم الآن، ما رأيك وجوابك على طلبه؟
نظرت في ذهول تستنكر الأمر برمته وقالت:
- لا تنتظر مني ردًا.
حاولت إقناعها بكل السبل بصوت هامس حتى لا أسبب لها إحراجًا إن سمع أحد من العملاء وقلت:
- أطيب قلب في الكون، فازت من كانت من نصيبه، وعنده شقة ملكه في أحسن مكان.
داهمتني بما أثار العجب في داخلي وقالت:
- أنا أم لثلاثة أولاد أصغرهم في كلية الطب جامعة القاهرة!
تعجبت من حديثها غير المناسب لشكلها وقلت:
- ثلاثة أولاد؟ كلية الطب؟ مستحيل!
ابتسمت في هدوء، وقالت بصوت خشن كأني أسمعه للمرة الأولى:
- أنا جدة، من دمياط؛ بلد الحلويات!
قمت بدوري معتذرًا وأردفت ممازحًا:
- أنا آسف جدًا، دمياط؟ ومن جاء بك إلى طنطا؟ طبعًا معك حق في موضوع الحلويات!
غادرت البنك، لا أذكر من هذا اليوم إلا ابتسامة تلك المحاسبة الجميلة الرشيقة، واعتذرتُ إن تسببت من دون قصد في أي ضيق أو إساءة، ومع ذلك زادت حيرتي في أمرها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى