محمد عرش - وقت مستقطع من الحرب -14- الحرب سلحفاة بأرجل أرنب! إعداد: سعيد منتسب

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..



بسباق داحس والغبراء، تمتد الحرب أربعين سنة، كمشة رمل من الجزيرة العربية في وجه حصان كانت سببا في الطعان والنزال والسبي. لم ينحصر الأمر في الدم، بل تسرب إلى المعلقة والقصيدة والأرجاز؛ هكذا تتغير الكلمة والجملة، من اللين إلى الصلابة والقسوة، والمرثيات لتخليد الشهامة والذكر.
يتغير الخطاب، فنصبح أمام سلطته، حيث توزيع وإعادة توزيع الخرائط، وتوزيع المواد الغذائية، فتفوق حصة الغالب حصة المغلوب، وتوازيه الأغاني الشعبية :
أتاي في البرامل كالوا غامل
لعسل في الطباسل كالوا باسل .
ينتج الجوع، وعام الجوع، وعام لودن، حيث كل فرد يؤدي ضريبة الأذن؛ فمرحى للرسام فان كوك، ولو أنه ليس مغربيا؛ وعام نبته إيرني، تطبخ أربعة وعشرين ساعة، لتنقص مرارتها .
تفشت الأعراض الهستيرية بين الجنود، خلال الحرب العالمية الأولى، وسمي المرض «صدمة القذائف «Shell-shok، الذي يتميز بفقدان الذاكرة أو فقدان الكلام والبصر، كما حددت ذلك مارغريت ميرفي، مشيرة في الوقت نفسه إلى التغيرات النفسية من قلق وتوتر، واكتئاب .
يا لغرابة الصدف، يتغير ترتيب الحروف، ما بين الحرب والحبر، تشتعل الحرب، لتشتعل الحرب الإعلامية، وتشتغل بحيرات الحبر، وحرب الصورة. فالدعاية تنصر من تشاء، وتهزم من تريد .
تتنوع وتتخذ أشكالا وألوانا، تحد من حرية التحرك، وحذر الدخول والخروج، كل ذلك بميقات، ومع هذه التغيرات المفروضة، تتغير الحياة، لأن المرء جزء من المكان والزمان، وخاصة الكتاب برصدهم وتفاعلهم مع التاريخ وأحداثه .
من حرب الطرقات، والسرعة المفرطة في السياقة، وفي الأكل والشرب والحب والمكالمات، تتراكم الجثت، مما يجعل ملاك الموت لا وقت له، فهو دائم المراقبة والترصد، وفي بعض الأحيان، يتم الموت رغما عنه .
الحرب مع الوباء اللعين الذي حزم كل خرائط العالم، وفرض حضر التجول، وحساب المسافات مع الأقنعة، التي انتقلت من الرمز الذي يغلف الإبداع، إلى الوجوه، فلا وقت لحلق اللحى، ولا وقت لأحمر الشفاه، ولا وقت لحك الأسنان، القناع يغني عن كل شيء .
أما الحرب حينما تتأجج، تنتقل إلى الكتابة، فتتغير الكلمات والجمل، من الليونة إلى الشدة، لأن الحياة هكذا، تتغير طبائع الإنسان، وفكره وإبداعه، يتغير السلوك والتعامل مع الآخر، وتلبس العبارات الخوذات والأحذية العسكرية مجازا، جراء تغير الاستعارات .
كل منا بعد الشرود واللامبالاة، يعود إلى ذاته لمساءلتها: ماذا راكم ؟ماذا قرأ؟ كم من صديق فقد؟ ماذا أنجز؟ يعود إلى ترتيب مكتبته وكتبه، فيندهش، لأن هناك مشاريع بدأها،ولم يكملها، فطواها النسيان، لذلك فالحرب نقمة على البشرية جمعاء، لكن الحرب الدائرة في العالم، تسمن القطط، وتجار الأسلحة،وتشرد الأطفال، وتكثر الأرامل .
ما أينع السلام، عندما حطت الحمامة على بر الأمان، وفي منقارها بتلة خضراء، كرمز لبداية الحياة .
حين تتوسد ركبة الجدة، وتسألها عن أهوال الحرب، تتنهد وتستطرد :
دخول ميريكان، دخول لالمان، كل ذلك أرخته الأغاني الشعبية، والعصرية، الشيوخ والحسين السلاوي، وكيف يعم الجشع والنصب والاحتيال، وتنعدم الإنسانية، ويعم القحط والجوع، ونشرب الشاي بتمرة واحدة، تطبخ نبتة إيرني، بل وصل الأمر، إلى تنقية حبوب الشعير من روث البهائم .
لكن حرب هذه الأيام أصعب وأشق، لأنها مصحوبة بالصورة والدعاية، وتبعث على القلق وكثرة الأسئلة .
النار إذا اشتعلت، انطلقت، ولا حدود لها، فلا بد من إعادة التوازن إلى الكرة الأرضية،»لأن غلب البقرة صعب»، تتركك جسدا بلا روح، وتشعل فتيل الحرب، وهي تتفرج.
على الكتاب والمبدعين،أن يبينوا مساوئ الحروب، وما تخلفه من دمار وتشرد، لذلك ينبغي أن نهتم بالسلم والسلام، ونهتم بالإنسانية في بقاع العالم، ونغلب الحوار على الانفعال وسلطة الجنون .

الكاتب : إعداد: سعيد منتسب


بتاريخ : 18/04/2022





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى