آمال أرايا - آحلام إبتلعها البحر!.. قصة خيالية مستوحاة من الواقع

~~1~~
لمعت عينا جمال بالسعادة وهو يقف على ضفاف البحر الأبيض المتوسط حافي القدمين، ضغط باحدى يديه على كتف زوجته وهو يطبع بقبلات قوية بصوت مسموع على وجنة إبنه الرضيع الذي أحاط رقبته بيديه الصغيرتين بقوة. رفعه فوق كتفيه وأخذ يجري مقلدا لصوت الطائرة وهو يأرجحه ويلاعبه وارتفعت أصوت قهقهاتهما عالية وامتزجت بهدير البحر الصاخب.
نظر جمال إلى البحر وهو يشير بيده الى الأضواء التي كانت تومض من بعيد: "شايفة يا آمنة الأنوار البعيدة ديك؟ دي أنوار أوروبا".
قالت آمنة وعينيها متسعتين بدهشة:"صحي يا جمال، يعني حسا دي أنوار هولندا"؟
ضحك لسذاجة زوجته: "لا هولندا بعيدة يا آمنة دي أنوار إيطاليا. اخوك قال لي مالطا وراء البحر دا طوالي".
كانت آخر ساعات لهم في ليبيا التي امضوا فيها 3 أعوام قاسية بين مشردين، مسجونين وفارين. طلب منهم المهرب الذي احضرهم إلى ميناء الجايالات (بعد ان دفعوا 3 آلاف دولار للفرد) الإستعداد للسفر في اي لحظة وإنهمك في تسجيل أسمائهم.
كان عددهم حوالي 300 شخصا من جنسيات وأعمار مختلفة. أخبرهم بأنهم سوف يبحرون في قاربين خشبيين بفارق ساعتين بينهما ونصحههم بان لا يركب الأقارب جميعهم معا في نفس القارب حتى يكون لبعضهم فرصة للنجاة في حالة تعرض أحد القاربين لحادث او تم الإمساك به من قبل خفر السواحل الليبية.
إلتصقت آمنة بزوجها وهي تنظر إليه بعينين متوسلتين ودامعتين بأن لا يفترق عنها، رفعت كف يده اليمنى إلى فمها وقبلتها قائلة: "احسن لي اموت معاك الف مره بدل أعيش بدونك". ضحك وهو يضغط على يدها: "استهدي بالله يا أمنة موت شنو يا وليه، نحن ماشين هولندا بلد اللبن والعسل، عارفة هولندا معناتها شنو"؟! ضحك الاثنين، ثم سجل جمال اسميهما وابنهما معا في نفس الورقة التي أصبحت تحمل 150 إسما.
~~2~~
أبحر بهم قاربهم بعد منتصف الليل بقليل ولم يكونوا يحملون معهم سوى بعض اللوازم الشخصية والأوراق الرسمية بالاضافة للقليل من الطعام والمياه العذبة الكافية ليوم واحد. تولى أمر قيادة القارب شابين مهاجرين مثلهم، كان احدهما ضمن القوات البحرية الصومالية والآخر صياد من إرتريا. كانت رحلة هادئه وبطيئة لأكثر من 5 ساعات. ثم بدأ البحر يهيج مع شروق الشمس، إرتفعت أمواجه قليلا وأخذت تلطم قاربهم من جميع الجهات. انهمك بعضهم في إفراغ القارب من الماء بأيديهم وتجفيفه بملابسهم واخذ البعض الاخر يحاولون تثبيته في مسار اتجاه عقارب البوصلة. ربط جمال إبنه الباكي حول وسط آمنة المرعوبة بغطاء راسها، ثم احتضنهما بقوه وهو يسند جسده على إحدى جوانب القارب حتى لا تقذف الأمواج باحدهم خارجه.
بدأ الجزء الخلفي من القارب يميل قليلا، فطلب منهم الشاب الصومالي بإلقاء كل متاعهم في البحر بسرعة لتخفيف الثقل عن القارب الذي اختفى حتى وسطه تحت المياه، وبدأ الهلع يصيب المهاجرين الذين القوا بكل ما احضروه معهم في البحر حتى الطعام وعبوات المياه العذبة.
وهم في خضم صراعهم المستميت لإبقاء القارب على سطح المياه، ظهرت من بعيد سفينة كبيرة في وسط البحر. شعروا بالسعادة والإرتياح وبدأوا يلوحون لها بأيديهم وثيابهم وقبعاتهم ويصرخون بأعلى أصواتهم. دون سابق إنذار إرتفعت من العدم امواج عاتية في حجم الجبال خلف السفينة تماما وضربتها بقوة، حبس المهاجرين أنفاسهم وهم يراقبونها برجاء. تأرجحت بعنف في مكانها دون ان يحدث لها شيئا، هللوا بسعادة وواصلوا صراخهم وتلوحهم لها.
فجأة انتبهوا إلى ان نفس تلك الأمواج كانت تتجه إليهم وقد تضاعف حجمها. تشبثوا بسرعة بجوانب قاربهم وبحوافه وببعضهم بعضا بقوة. تابعوها وهي تسرع في إتجاههم بصمت وعند إقترابها أغلقوا أعينكم وحنوا رؤوسهم. إبتلعت تلك الأمواج قاربهم ثم رفعته عاليا في الجو ولفظته مقلوبا. تساقط المهاجرين جميعا منه مثل قطع من الحجارة وسط رغوة بيضاء من المياه المالحة.
كان جمال يصارع المياه الباردة التي كانت تسحبه إلى أعماقها، وهو يتابع (دون حيلة) بعض المهاجرين يصرخون والأمواج تجرفهم بسرعة بعيدا عنه قبل ان يختفوا تماما. تشبث بإحدى جوانب القارب المقلوب واخذ يسبح ويدور حول نفسه محاولا العثور على زوجته وابنه، فقد أفلتا من بين ذراعيه دون إرادته عند إنقلاب القارب.
بدأ ينادي بصوت عالي كالمجنون: "آمنة، خالد، يا آمنة..". ثم شعر بشيء صلب يصيبه في رأسه وفقد الوعي.
~~3~~
فتح جمال عينيه ببطء ثم اغلقهما وفتحهما مرة اخرى. شعر بألم شديد في رأسه فمد يده يهم بلمس موضع الألم وتوقف حين سمع صوت يطلب منه عدم فعل ذلك. في تلك اللحظة بدأ ينتبه لما يجر حوله. إلتفت يمينا وشمالا وأخذ يجول بعينيه المتسعتين حول المكان كالتائه. كان يبدو كشاطىء البحر، ضوء الشمس ودفئها يغمران المكان ورجال ببناطلين قصيرة وسترات زرقاء وبشرة بيضاء منتشرين حوله. لاحظ ان اغلب المهاجرين كانوا يلفون أجسامهم بنفس نوعية ولون البطانية مثله وقد تمت معالجة بعضهم من جروح مختلفة. قال متسائلا: "نحن وين، الحصل شنو"؟ أجابه الشاب الأبيض الذي يقف بجواره باللغة العربية.: "أنتم في إيطاليا، قاربكم غرق في عرض البحر وتم إنقاذكم فجر اليوم من قبل طاقم سفينة نفط ايطالية"، واشار إلى جرحه قائلا: " إتضربت في رأسك ضربة قوية"، ثم اضاف مبتسما: "نحن تابعبن لمنظمة دولية غير حكومية بنساعد المهاجرين غير الشرعيين أمثالكم وأنا عدنان".
نظر إليه جمال بصمت هو يحاول العودة بذاكرته للخلف، تساءل داخله: "أين آمنة وخالد ولماذا لا أراهما"؟ وقف على قدميه رغم محاولات عدنان بمنعه وبدأ يمشي بصعوبة منحنى الظهر. أخذ يبحث ويسأل من كانوا معهم عن زوجته وإبنه وقد إزدادت سرعة خفقات قلبه وبدأ العرق يتصبب من جبينه فلم يكن الأمر مطمئنا. قام بوصفهما للعاملين في المنظمة، الذين بحثوا معه بين الناجبين ال43 ولكنهما لم يكونا ضمنهم.
عندئذ أخبرهم جمال بأنه قام بربط إبنه حول وسط أمه بوشاح راسها. ظهرت على وجوههم الشفقة وهم يتهامسون بصوت خافت فيما بينهم ولم يفته معنى ذلك. امتلأ قلبه بخوف شديد وشعر بدوار حتى كاد ان يسقط بطوله، حاول واحد منهم إحاطة كتفيه بيده، دفعه جمال بعيدا عنه وذهب راكضا في اتجاة الجثث القليلة التي نجحوا بإنتشالها.
كانت جميعها مغطاة بأقمشة بيضاء وقد وضعت في شكل صفوف منتظمة. لحقوا به وأخذه احدهم من يده في اتجاه غطاء كان يبدو منتفخا في الوسط.
~~4~~
أخبره قلبه بانهما هما قبل ان يراهما، أخذت ركبتيه تهتزان في ضعف وقد عجزتا عن حمله. ركع جمال أمام جسمان زوجته وابنه وهو يرتجف. كشف عن وجهيهما ببطء وهو يصرخ بأعلى صوته: "لا لا لااا يا آمنة لا يا نفسي لااااا يا ولدي يا قطعة مني لااااا، ارحمني يا رب.. ارحمني يا ربي". عانقها وابنه في وسطها وهو يبكي بشدة. حاولوا مؤاساته، طلب منهم الابتعاد عنه وتركه وشأنه.
استلقى بجوارهما لفترة طويلة واخذ يمرر أصابعه على وجه آمنة تارة وخالد تارة اخرى بحزن وهو يتمتم مرارا
وتكرارا: "شيلني معاهم يا رب.. شيلني معاهم". نظر إلى وجه زوجته الجميل الذي لم تغير فيه سحنة الموت شيئا وهو يبكي بحرقة وشريط حياتهما يمر أمام عينيه بسرعة كأنه بالأمس. إنها اهم شخص في كونه كله، لقد اختارته من بين العديدين، شاركته حياته بحلوها ومرها دون ان تشتكي وسترته أمام الغريب والقريب. "الرحلة دي كلها كانت عشانك وعشان ولدنا يا آمنة، ما عايز هولندا بدونكم". قالها ودموعه تتساقط فوق وجهيهما.
ساعده أحد المهاجرين على الوقوف عند حضور بعض المسؤولين الرسميين لإكمال الاجراءات القانوتية المتعلقة بهم. اقاموا مراسم دفن للموتي في مقبرة قريبة من الشاطىء. ثم تم الترتيب لنقل الناجيين إلى مسكن مؤقت داخل المدينة، تم إعداده خصيصا لإستقبال أمثالهم من المهاجرين غير الشرعين.
وقف جمال على مشارف تلك المدينة الأوروبية الجميلة وأخذ ينظر إليها ببرودة دون إحساس وهو يقاوم رغبته في العودة لنبش قبرهما واحتضانهما لفترة أطول.
لم يعد يمتلك تلك النار المتقدة التواقه لمباهج الحياة كما في السابق. شعر بأنه ناقص وفارغ من الداخل بدونهما وان جزء منه قد دفن معهما في تلك البقعة الصغيرة المنعزلة والقريبة من شاطىء بلاد احلامهما.
لقد مات حلمه بمنزل دافىء يحتضنه مع أسرته السعيدة. مات ودفن إلى الأبد.

تمت
11/4/2023

بقلم: آمال أرايا




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى