استلمتُ ورقتي وبدأتُ في قراءة الامتحان. من عادتي أن أُغمض إحدى عينيّ وأنا أمرُّ على الأسئلة بسرعة. أتفاءل بأنني أعرف الكثير، والقليل الباقي يُمكنني الاجتهاد فيه، مثل سؤال العَشرة سُطور.
اثنان من المُراقِبين يقفان بحزم وسط طُلاب اللجنة المُوزّعين في المُدَرَّج الواسع. أقرب زميل لي يبعد ما لا يقلّ عن متر ونصف. نظرتُ إليه فرأيته ساهما ينظر إلى الورقة بلا ردّ فعل.
بدأتُ الإجابة مُنكفئا، تاركا القلم يجري على السّطور. تراجعتُ بعد قليل، ساندا ظهري. عدتُ لتقليب عينيّ في الأسئلة والمساحات المتروكة للإجابة، الامتحان في مُجمله سهل، والنجاح فيه شبه مضمون، كمعظم الامتحانات في كليتنا النّظَريّة. انتبهتُ إلى أن السؤال الثالث فيه جُزئيّة تحتاج تفكيرا. وليَكُن، جزئية واحدة لن تُؤثر، سأتركه مُؤقّتا حتى أصل إليه. عدتُّ إلى النُّقطة باء في السؤال الأول، المطلوب كتابة ما لا يقلّ عن عَشرة سطور حول شخصيّة "الحَجَّاج بن يُوسف الثّقَفي"، مع مُراعاة التَّناوُل من عِدّة جوانب. تعجّبتُ: الحَجَّاج؟ الكتاب الذي درسناه قَدَّمَه على أنّه قائد سياسي وعسكري فَذّ، فكيف أُكمِل الجوانب الأخرى؟ تحسستُ تليفوني النائم في جَيب الجاكِت على الوضع الصامت. بالأمس عمَلتُ حِسابي وشَحَنتُ باقَة النِّت.
من أين أبدأ معكَ يا عَمّ الحَجَّاج؟
أخذتُ نفسا عميقا، وبدأتُ أكتب: ظلّ الحَجَّاج، في فترة ولايته لمكّة والمدينة، ثم العِراق بعد ذلك لمُدّة عشرين سنة؛ قائدا سياسيًّا هَمُّه الأول فرض النظام، وإلزام الجميع بطاعة الخليفة، وقد نجح في ذلك بالشِّدّة وعدم التّهاون مع الخارجين مهما كانت صفتهم ومنزلتهم. انتصرَ في مُعظم حروبه بالحِجاز والعِراق، وقضَى على الثّورات العنيفة التي اشتعلت هناك ضدّ الدّولة الأمويّة.
توقّفتْ ذاكرتي عن استحضار المزيد، هذا ما استطعتُ تحصيله من المنهج المُقرّر، يتبقّى نصف السؤال..
مدَدتُ يدي بخِفَّة وسحبَتُ التليفون، أخفيتُه تحت كَفّي اليسرى المفرودة فوق فخذي. عيني على المُراقِب الواقف في أوّل المُدَرّج، والآخَر المُتَنمِّر في أقصى اليمين. رآني زميلي المُجاور فابتسم، وأعطى إشارة تعني وُجُوب المشاركة! طَمأَنتُه بإيماءة وغَمْزَة عَين. رفعتُ أصابعي عن الشّاشة وفتحتُ "جُوجل". كتبتُ: "الحَجّاج بن يوسف..". لابد أن أستكمل السُّطور المطلوبة.
لمستُ أوّل خِيار ظاهر في الأعلى، رحتُ أنقلُ بسرعة مُتنقّلا بين الفقرات..
قال الذّهَبي: "وكان ذا شجاعة وإقدام ومَكر ودَهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن".
أضافَ ابنُ كَثير: "وكان جبّاراً عنيداً مِقداماً على سَفك الدّماء بأَدنَى شُبهَة".
قال الجاحظ: "كان قبيحَ الوجه صغير الجسد"، "وكان.. مع عُتوِّه وطُغيانه وشِدّة سُلطانه يُمازِح أزواجَه ويُرَقِّص صِبيانه".
ومن خُطبته الشّهيرة لمّا تَولَّى العِراق؛ قال الحَجّاج: "فاسْتوسِقُوا واعتَدِلوا، ولا تَميلوا، واسمَعوا وأَطِيعُوا، وشَايِعُوا وبَايِعُوا"، "والله لكَأَنّي أنظرُ إلى الدّماء بين العَمائمِ واللحَى".
اكتفيتُ بذلك ووضعتُ القلم. أعَدتُّ التليفون إلى جَيبي، لحُسن الحظّ لم أحتجه في الأسئلة الباقية التي تبدأ بصيغة: ما رأيك؟ اكتب تعليقا على كذا.. لم أنتبه إلى زميلي المُتخشّب إلى جواري، عيناه المرشوقتان فيّ تطلبان المَدَد الذي تَأخَّر. تأكدتُّ أن لا أحد يراني، تسلّلتُ نحوه، مُتراجِعًا بِظَهْري، حتى سَرَّبتُ إليه ورقتي. بعد دقائق قليلة أعادها إليّ.
ألقيتُ نظرة أخيرة على إجاباتي. قمتُ لأُسَلّم ورقتي، أعطيتُها للمُراقب المُتجهّم. التفتُّ إلى صاحبي، فهمتُ من إشارته أنه ينتظر، بعد أن أعطى ورقته لزميل أمامه. ابتسمتُ، وظللتُ أتابعه إلى أن خرجتُ من الباب.
***
حسام المقدم
اثنان من المُراقِبين يقفان بحزم وسط طُلاب اللجنة المُوزّعين في المُدَرَّج الواسع. أقرب زميل لي يبعد ما لا يقلّ عن متر ونصف. نظرتُ إليه فرأيته ساهما ينظر إلى الورقة بلا ردّ فعل.
بدأتُ الإجابة مُنكفئا، تاركا القلم يجري على السّطور. تراجعتُ بعد قليل، ساندا ظهري. عدتُ لتقليب عينيّ في الأسئلة والمساحات المتروكة للإجابة، الامتحان في مُجمله سهل، والنجاح فيه شبه مضمون، كمعظم الامتحانات في كليتنا النّظَريّة. انتبهتُ إلى أن السؤال الثالث فيه جُزئيّة تحتاج تفكيرا. وليَكُن، جزئية واحدة لن تُؤثر، سأتركه مُؤقّتا حتى أصل إليه. عدتُّ إلى النُّقطة باء في السؤال الأول، المطلوب كتابة ما لا يقلّ عن عَشرة سطور حول شخصيّة "الحَجَّاج بن يُوسف الثّقَفي"، مع مُراعاة التَّناوُل من عِدّة جوانب. تعجّبتُ: الحَجَّاج؟ الكتاب الذي درسناه قَدَّمَه على أنّه قائد سياسي وعسكري فَذّ، فكيف أُكمِل الجوانب الأخرى؟ تحسستُ تليفوني النائم في جَيب الجاكِت على الوضع الصامت. بالأمس عمَلتُ حِسابي وشَحَنتُ باقَة النِّت.
من أين أبدأ معكَ يا عَمّ الحَجَّاج؟
أخذتُ نفسا عميقا، وبدأتُ أكتب: ظلّ الحَجَّاج، في فترة ولايته لمكّة والمدينة، ثم العِراق بعد ذلك لمُدّة عشرين سنة؛ قائدا سياسيًّا هَمُّه الأول فرض النظام، وإلزام الجميع بطاعة الخليفة، وقد نجح في ذلك بالشِّدّة وعدم التّهاون مع الخارجين مهما كانت صفتهم ومنزلتهم. انتصرَ في مُعظم حروبه بالحِجاز والعِراق، وقضَى على الثّورات العنيفة التي اشتعلت هناك ضدّ الدّولة الأمويّة.
توقّفتْ ذاكرتي عن استحضار المزيد، هذا ما استطعتُ تحصيله من المنهج المُقرّر، يتبقّى نصف السؤال..
مدَدتُ يدي بخِفَّة وسحبَتُ التليفون، أخفيتُه تحت كَفّي اليسرى المفرودة فوق فخذي. عيني على المُراقِب الواقف في أوّل المُدَرّج، والآخَر المُتَنمِّر في أقصى اليمين. رآني زميلي المُجاور فابتسم، وأعطى إشارة تعني وُجُوب المشاركة! طَمأَنتُه بإيماءة وغَمْزَة عَين. رفعتُ أصابعي عن الشّاشة وفتحتُ "جُوجل". كتبتُ: "الحَجّاج بن يوسف..". لابد أن أستكمل السُّطور المطلوبة.
لمستُ أوّل خِيار ظاهر في الأعلى، رحتُ أنقلُ بسرعة مُتنقّلا بين الفقرات..
قال الذّهَبي: "وكان ذا شجاعة وإقدام ومَكر ودَهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن".
أضافَ ابنُ كَثير: "وكان جبّاراً عنيداً مِقداماً على سَفك الدّماء بأَدنَى شُبهَة".
قال الجاحظ: "كان قبيحَ الوجه صغير الجسد"، "وكان.. مع عُتوِّه وطُغيانه وشِدّة سُلطانه يُمازِح أزواجَه ويُرَقِّص صِبيانه".
ومن خُطبته الشّهيرة لمّا تَولَّى العِراق؛ قال الحَجّاج: "فاسْتوسِقُوا واعتَدِلوا، ولا تَميلوا، واسمَعوا وأَطِيعُوا، وشَايِعُوا وبَايِعُوا"، "والله لكَأَنّي أنظرُ إلى الدّماء بين العَمائمِ واللحَى".
اكتفيتُ بذلك ووضعتُ القلم. أعَدتُّ التليفون إلى جَيبي، لحُسن الحظّ لم أحتجه في الأسئلة الباقية التي تبدأ بصيغة: ما رأيك؟ اكتب تعليقا على كذا.. لم أنتبه إلى زميلي المُتخشّب إلى جواري، عيناه المرشوقتان فيّ تطلبان المَدَد الذي تَأخَّر. تأكدتُّ أن لا أحد يراني، تسلّلتُ نحوه، مُتراجِعًا بِظَهْري، حتى سَرَّبتُ إليه ورقتي. بعد دقائق قليلة أعادها إليّ.
ألقيتُ نظرة أخيرة على إجاباتي. قمتُ لأُسَلّم ورقتي، أعطيتُها للمُراقب المُتجهّم. التفتُّ إلى صاحبي، فهمتُ من إشارته أنه ينتظر، بعد أن أعطى ورقته لزميل أمامه. ابتسمتُ، وظللتُ أتابعه إلى أن خرجتُ من الباب.
***
حسام المقدم