أحمد عبدالله إسماعيل - الدمصري

قبل دقائق، في الحادية عشرة والثلث قبيل الظهر، وقفتُ بين الناس في طابور طويل ممتد بشارع لا جيتيه، أمام مخبز بلدي، تلقيت اتصالًا من سولاف، شقيقتي الكبرى المقيمة في ألمانيا منذ سنوات، توجعتْ بصوت يغلفه الهم:
- تستوحش ابنتي العزلة؛ فلا أحد من زملائها في جامعة برلين يتواصل معها إلا إذا كان بحاجة لمساعدتها!
أجبتها في سعادة:
- زملاء أولادي هنا في مدرسة الإبراهيمية، لا أعرف عددهم!
أطل علينا صاحب المخبز برأسه معلنًا بصوت صاعق:
- تم تقليل ما تحصلون عليه إلى النصف.
قبل هذه الكلمات، كان النهار مشمسًا جافًّا، استمتعت بمعرفة كل ما استجد من أخبار عن أهل المنطقة، من مات، ومن تزوج، ومن رزق بمولود، من سافر، ومن عاد، ومن على وشك أن يعود، من صلى بالناس الفجر، ومن تاب، ومن ضُبط بالجُرم المشهود.
وقف خَلْفي رجل، ضخم الجسم، مرتديًا ملابسه غير المتناسقة، على النقيض من معظم الواقفين، صاح بصوت جهوري بجوار أذني؛ ليرد على صاحب المخبز:
- الحكومة نفت كل هذا الكلام.
أيَّده آخر، كان في أول الطابور، قائلًا:
- الغنيّ نفسه صار مستحقًّا للدعم!
كرر الأول صراخه، غير مرة، طالبًا حقه بلا صبر:
- لم أعترض عندما صار الرغيف في حجم العملة المعدنية، لكني لن أقبل أبدًا بنصف الكمية.
ثم صرخ مجددًا؛ فعاتبته برفق:
- تكلم بهدوء إذا سمحت؛ آلمتْني أذني، معي اتصال، ولا أستطيع إكمال المكالمة.
بلا مبرر، ودون توقع، ولأول مرة أُهاجَم بضراوة، فقال:
- كيف حصلت على بطاقة الخبز الممغنطة؟! لا شك أنها مزورة.
أنهيت الاتصال مضطرًا وأجبته منفعلًا:
- زوجتي مصرية، وهذه ...
قاطعني مهاجمًا بصوت جهوري:
- هل تركت بلدك كي تزاحمني في الحصول على الخبز المدعم؟!
لا أعلم كيف ارتفعت نبرة صوتي إلى تلك الدرجة، صحت قائلًا:
- أولادي يستحقون الخبز مثلك.
داهمني باتهام خطير قائلًا:
- من زوَّر لك هذه البطاقة؟ هل تشكو من صوتي بدلًا من أن تشكرني على إقامتك في مصر؟!
حاول شد البطاقة الممغنطة بالقوة؛ فدفعته بيدي في صدره ولم أتمالك نفسي:
- من أنت؟! هل تمنح أو تمنع؟! كيف تتهمني بالتزوير؟! أقيم هنا بالقانون، وعندي عملي الناجح؛ فأنا صاحب مطعم «ريف دمشق» المعروف.
هاجمه الناس، والتفَّ الجميع حولي، ثم ارتفعت نبرة صوت شيخ بلغ من العمر مداه مسترجعًا لحظة محفورة في ذاكرته:
- هل يمكن أن أنسى دم الضابط السوري، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وأنا أحمله على يديَّ قبل نحو خمسين عامًا ليلة العبور؟!
تحشرج صوتي وقلت بنبرة باكية:
- هل يرضيكم أن يعيَّرني بسبب إقامتي في مصر؟
نبذوه وراء ظهورهم، وقبّلوا رأسي، واحتضنوني مرددين كلمات المودة.
سأل ذلك الرجل عني حتى وصل إلى عنوان المطعم بعد دقائق، يا للعجب، تحوَّل الثور الهائج إلى حمل وديع، فقبَّل رأسي وظل يعتذر لدرجة أنني بكيت!
وقبل أن تبلغ الشمس وسط السماء، تلقيت اتصالًا آخر من شقيقتي الصغرى، المقيمة ببيت العائلة في دمشق؛ ترغب في السفر إلى تركيا حيث شقيقي الوحيد عتيبة أو إلى ألمانيا، لكني عارضتها بشدة:
- أين تذهبين؟!
- إلى الحرية والنظام والمعاملة الراقية.
تعجبت من ردها فقلت في عجلة:
- نحن أرقى الشعوب، وأكثرها احترامًا لغيرها، هذه حقيقتنا، قليل من يدركها، وكثير منكم يتعامى عن إبصارها؛ أما أنا فأعيش في الإسكندرية في سلام تام، منذ ما يزيد على سبعة أعوام، وكأني ولدت لأبوين مصريين، هذا بلد آمن منذ بزوغ فجره؛ لن تجدي هناك صدرًا يحتضنك كأنك من أهله، أما هنا، فبين هؤلاء الناس سوف تجدين، لا شك، طعم الحياة.


====================
قصة الدمصري
من المجموعة القصصية أقنعة السعادة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى