القصة التي أرويها لكم، وأَملُك كل خُيوطِها، تقَعُ أحداثُها بين أشخاصٍ ثلاثة، رابعُهم حاضرٌ بظله فقط، فيبدو هامشيًا، لكنه الشخص الذي زرع اللغم تحت أقدام الجميع.
الثلاثة.. أطباء، الدكتور منتصر، يعمل رئيسًا لأحد أهم أقسام المستشفى الجامعي، لذلك لن أذكُر القسم، الدكتور منتصر؛ أشهر الأطباء في تخصصه النادر، رجل أربعيني، يصعب عليك تقدير عمره، فهو شديد الوسامة، أنيق، وقور، لبق في حديثه، حليق الشعر فلا تَر بياضًا أو سوادًا، مُتقلب المزاج، حين يكون سعيدًا يملأ الدنيا بضحكاته الوقورة، وحين يغضب؛ يهرول الأطباء وطاقم التمريض، بل المرضى من أمامه كالفئران.
الثاني هو الدكتور مجدي، شابٌ في الثلاثين من عمره، قَناصُ فُرص، يلزم الدقة في أموره كلها، ويكيلُها بميزان العقل، تصدمُك مشاعِرهُ الجافةً. له حلمٌ لن يتنازل أو ينصرف عنه، منحة دراسية في إحدى جامعات كندا.
الثالثة، وكما هو متوقع، سيدة تربط بين الرجلين، الدكتورة كوثر، شابة في عامها الخامس والعشرين، تَشرُق بالبهجة والفرح حين تطل على الجالسين بوجهها الصبوح، كل خصالها حلوة، زادها الذكاء ألقًا، تثير في الرجال الفتنة، وفي النساء الغيرة والحسرة، جميع من اقترب منها تمنى أن يظفر بها زوجة، الدكتور منتصر كان أول من اشتهاها، تقدم لخطبتها وهي في السنة النهائية في كلية الطب. رفض والدها السيد نشأت –الشخصية الرابعة- طلبه، بنى رفضه على فارق السن بينهما، رغم ترحيب كوثر به، فهي تراه فارسًا لأحلامها، مكانته المرموقة تجعله سيدًا يأمر فيطاع. زواجٌ يفتح لها كل الأبواب الموصًدة أمام الوظيفة مرموقة، والدرجات العلمية التي تتمناها. كل ما حدث، أن والدها لم يترك لها مجالًا لنقاش أو إبداءٍ لرأي!
أيضاً.. لم تنج كوثر من اشتهاء مجدي لها، لقد عشق أنوثتها، استهوته قُدرتها على سحر الحاضرين بحديثها ورقتها، أذا اقترن بها.. اكتملت الصورة التي ينشُدُها. إذا رافقته في طريقٍ، أو جلست معه في ضيافة أصدقاء، أحاطته بهالة من الرفعة، وطلب الجميع وده!
علم مجدي أن والد كوثر قد رفض طلب الدكتور منتصر، فتقدم لطلب يدها بعد عدة أشهر، وبزواج كوثر من مجدي اختفت تماما عن أعين الدكتور منتصر، الذي علم بزواجهما، وزاد من مرارة الهزيمة، أن من فاز بها هو أحدُ تلامذته!
مر عامان لم يطرأ اختلافًا واضحًا على الثلاثة...
مجدي.. لم يشغله عن البعثة شئٌ، حاول أن يفوز بها كما فاز بكوثر لكنه فشل.
كوثر.. أنوثتها ما زالت ترسل موجات من التوهج والبريق، جمالٌ يهون في سبيله كل غالٍ، تدعي أنها تؤجل الحمل حرصًا منها على حياتها المهنية. هي امرأة مفتونة بجسدها، مزهُوًة بكل تفاصيله المثيرة.
حملها سيُفسد الجسد المُلهِم، يمحو سطوته على عيونٍ شبقة تشتهيهُ، ويطيح بالطاووس المقدس الذي يسكنها، ومجدي تفتنه الصورة، فلا ير غضاضة في الأمر الذي يوافق هواه.
أما منتصر.. رغم ما حققه من طموحات وانتصارات، إلا أن الجُرح أذل قلبه، ليس لأن والد كوثر رفضه، بل لانه وافق على مجدي، الطالب الذي بيده تدميره وقتل أحلامه!
اعتقد مجدي في أول الأمر أن البعثة ليست سوى قوائم انتظار وكفاءات، تنظيم وقت وترتيب اسماء؛ والموعد قادمٌ لينطلق إلى كندا. ذات صباح في إحدى الممرات الرئيسية في المستشفى الجامعي، صادف الدكتور منتصر؛ في هذا اللقاء العابر، استشف مستقبله المظلم من نظرات الغل التي طوقه بها، وأيقن أن البعثة موؤدة، من حجم الكره الذي رماه به أستاذه. حينئذ؛ كان لزامًا عليه أن يضع هذا الرجل نصب عينيه.. " إن منتصرًا يقف حائلاً بينه وبين حُلمه الأثير".
مساء هذا اليوم، عاد مجدي مهمومًا إلى البيت، كوثر تستلقي على أريكتها الوثيرة في سكينة، ترتدي قميصًا أسود، تحفة فنية نادرة.. فينوس.. جوهرة تاجٍ لملك الملوك.. عينان ساحرتان، شفتان من عقيق، سيقان من عاج، شعر ينساب على صدرٍ من مرمرٍ كخيوط من ذهب.. سنوات زواج منحتها بهاءً ونضارة ولم تسلب منها شئ!
وضع على جبهتها قبلةً حائرة، تَحْمِلُ من أفكاره التيهَ والضياع، إنصرف إلى المطبخ، ترك كوثر على حالها، تتصفح هاتفها المحمول، كأنها لم تشعر به أو بقبلته الباردة.
أعد كوبًا من عصير الليمون، وخرج عليها، جلس بالقرب من رأسها، وضع الكوب على يساره ثم رفع رأسها قليلا، أزاح الوسادة ووضع لها فخذه عوضًا عنها، أخذ يداعب خدها وشفاهها بأصابعه، جمع خصلات من شعرها الذهبي المنسدل على فخذه، داعب بهم شفتيها، فسارت القشعريرة في شفتيها وجسدها كله، أطلقت ضحكات كلها أنوثة.. وهي تغمض عينيها وتُبعد فاها عن يده. يقيدها مجدي ويضع على شفتيها قبلة خبير، طوقها بذراعيه تمامًا من الخلف، جذبها برعونة المتلهف إلى العناق من أسفل نهديها، فإرتقت معه وألقت بجبهتها على نحره، رفع ذراعيه أكثر، حتى إحتوى صدرها كله بين كفيه، ثم قبل رأسها وأسند ذقنه عليها ثم قال:
- قابلت اليوم الدكتور منتصر. اعتقد أن أمر البعثة في يديه، ولو أننا ذهبنا لزيارته وحدثناه عن حقي فيها وانتظاري الطويل لها، سيقف بجانبنا، ويزيل كل عقبة تعترض طريقنا.
- متى تظهر النتيجة؟
- خمسة أيام تقريبًا.
- أعرف أن له سلطان، لكن هل يستطيع أن يغير شيئًا في تلك الفترة القصيرة؟
- يستطيع؛ بمنصبه.. بمعارفه.. بعلاقاته يقدر وأكثر. فقط لو تمكنا من مقابلته وطلب المساعدة منه.
- كيف؟
- أعلم منذ أيام الدراسة أنه يحترمك ويقدرك، هاتفيه، إطلبي منه موعدا في الغد.
- أنا!
- نعم، أنت، وماذا فيها؟! أنت تلميذته النجيبة، مازال يذكرك بالتأكيد، ويريد أن يراكِ.
- لم أهاتفه منذ سنوات، صعبٌ أن أتكلم معه بالهاتف.
- ليس صعبًا على الإطلاق، أنشُد مساعدتك، فقط ضعي في تخيلك أنك تتحدثين مع أستاذك الذي لم تقابليه منذ أيام الدراسة والتفوق.
- صعب جدًا!
- لما؟ .. دعيني أحضر لك هاتفك، أنا أحتفظُ برقمه عندي.. سأمليه عليكِ.
أحضر مجدي هاتفها، أملى عليها رقم الدكتور منتصر، لم ينس أن يُملي عليها ما تقوله، وظل جوارها يترقب. ما إن سمعها تقول مساء الخير دكتور منتصر، حتى أشار بيده كي تدع سماعة الهاتف الخارجية تعمل ليستمعا سويًا إلى صوت منتصر.
كان صوت الدكتور منتصر غير متوازن، خليط غيرمتجانس من دهشة وانكسار وفرحة، حنق على امرأة خسرها، ولهفة إلى امرأة يعشقها، فما كانت إلا لحظات، سمع فيها صوت كوثر، حتى ذاب جليدًا صنعه فراق ما يقرب من ثلاث سنوات، رجع الحنين إلي موضعه في قلبه، واستسلم سريعًا لرقتها ودفء ضحكاتها التي تدغدغ مشاعر الرجال.
رحب الدكتور منتصر بالموعد مساء الغد، سينتظر مجيئها إلى بيته، يرافقها مجدي، ووعدها أن في عودتها ستكون الفرحة رفيقة لها!
حين أغلقت الهاتف، لم تكن في حاجة لإبلاغه بشئ، لقد سمع حديثهما كله، بضحكات كوثر اللينة، وزفرات منتصر الملتاعة، لم يك بينهما غير كلمات قالتها كوثر:
- بكرة إن شاء الله.
ثم بلغ الصمت مداه بينهما، مر الليلُ ساكنًا بلا ضجيج على غير عادته معهما، صحو بغير حديث أو حب، ونوم كاذب لم يسبقه عادة الجِماعٌ، باتت عيونهما مغمضة، وبين قلب وعقل كل واحد منهما عِراك يهتك خرس الروح داخله!
ما إن أشرقت الشمس، حتى استعد مجدي للخروج قبل أن تستيقظ كوثر، تفادى أن يُهاتفها طوال النهار، وحين عاد إلى البيت آثر الصمت، قبلها ببرودٍ وعينيهِ شاردتين، انتبه إلى برودة خدها الذي طبع عليه القبلة، خدها أكثر برودة من قبلته، كانت مرتبكة هي الأخرى، زائغة البصر. مسح بكفيه على خديها، عله يبعث فيهما الدفء من جديد، ثم قال:
- اقترب الموعد، ساختار على هواي وذائقتي ثوبًا يليق بحسنكِ، وإن كنتِ في كل الأحوال جميلة ومذهلة.
- أعتقد أنه من الأفضل أن تذهب وحدك، ليس ضروريًا أن تصحبني معك.
- كيف..؟ أنا لا تربطني به علاقة قوية، ثم إنه ينتظرك.
أخذها من يدِها، فتح خزانة ملابسها، أخرج منها أجمل ثيابها، وهي تقف أمامه واجمة. أخذ يضع عليها ثوبًا إثر ثوبٍ، يلقي الثوب ويأتي بآخر، حتي وقع إختياره على فستان أزرق مكشوف الكتفين.
قال مادحًا أناقتها:
- لا توجد امرأةً في هذه الدنيا تملك بعضُ جمالك، فما بالك حين تلبسين هذا الثوب البهيج!
- ولكنه يكشف عن الصدر والأكتاف!
- لا مانع، فهو أخٌ كبيرٌ لكِ، لا تنس أنه أستاذك، تربُطك به علاقة قديمة.
- حاضر.
تركها ليستحم، ثم عاد فوجدها تجلس على حافة السرير مرتديةً فستانها الأزرق، تقبض بيدها اليمنى على اليسرى، وترتكز بمرفقيها على الركبتين، رأسها لم تعد قادرة على الصمود أمام هواجسها، حتى كادت أن تسقط منها على الأرض.
رفع رأسها بيده قائلًا:
- هل تذهبين بغير أحمر شفاه وبدون أن تضعي قليلًا من مساحيق التجميل على هذه الخدود الناعمة؟
- لا.. ليس لي رغبة في استعمالها.
- حبيبتي، هذه أول مرة تقابلين فيها الدكتور منتصر منذ تخرجكِ، أريد أن يراكِ في أبهى صورة.
- حاضر.
تزينت على مضضٍ، فبدت في المرآة كأنها لم تضع شيئًا، وهو خلفها حاملًا حقيبة يدها، ويُمعن النظر إلى صورتها في المرآة، فما كادت تنتهى حتى جذب ساعدها الأيمن وعلق فيه حقيبتها وقال:
- هيا.. يجب أن نصل إليه في الموعد.
نصف ساعة، وكان مجدي يطرق الباب، كوثر في يده اليمنى، تسبقه قليلا ناحية الباب. فما إن فتحه منتصر حتى صُعق ببهاء كوثر، بدا كأنه فَاجَأَهُ الأمر، ولأنه هام يتنزهُ في كل معالم جسدها، أراد مجدي أن يثبت له أنه قد حضر معها فقال:
- هل سنبقى هكذا على بابك دكتور منتصر؟
استفاق منتصر من حلمه، أو بالأحرى من عناقه الجائع لكوثر.. أجابه قالًا:
- أهلا ومرحبًا، تفضل.. تفضل دكتور مجدي.
رافقهما إلى حجرة مكتبه، أَجْلسَ مجدي على أول مِقعدٍ في الصالون، مد لكوثر يده كأنه يسألها أن تمُن عليه بلمسة دافئة من إحدى راحتيها، أعطته يدها اليمنى كأنها تسلم عليه، فأخذها بفيض من رقة ليُجلسها على مقعد وثير، قُبَالَة مقعد زوجها، وعلى يمينها جلس منتصر على طرف المقعد، متوجها بكل جسده نحوها، كي يكون أكثر قربا من أنفاسها التي تشعل داخله لهيب الرغبة والشوق لكل ما فيها.
لم ينتبه منتصر أبدًا أن مجدي حاضرٌ بينهما، شعر أنه يجلس على إنفراد بكوثر –أو أنه لا يريد أن يفطن لوجوده بينهما- فقال لها:
هل أحضرت أوراقكِ معكِ، أنا أريد سيرتك الذاتية وشهادة التخرج، كل مصوغات التعين، سوف أقدم لك في مكتب معالى وزير الصحة.
صعقت كوثر من هذا الخبر، لم يرد على خاطرها هذا الأمر مطلقًا، فإرتبكت ونظرت إلى مجدي تستغيث به ليتكلم، هنا أدرك منتصر أن هناك شخص ثالثٌ بينهما، فاستدار ناحيته قليلًا، بقدر يستطيع معه أن يبقى على عناق بأنفاس وفتنة كوثر، ثم قال له:
- أهلًا دكتور مجدي، اسمُك في قائمة المبعوثين إلى كندا غدًا بإذن الله.
انعقد الكلام على لسان مجدي، فلم يحر جوابًا، أدار له منتصر ظهره، عاد بكل كيانه إلى كوثر، قائلًا لها:
- ليس أمامنا وقت، التغيير الوزاري بات وشيكًا، سوف انتظرك غدًا في العاشرة مساءً، لأتسلم منك كل الأوراق الخاصة بك، المُرتب والبدلات أكبر من تخيُلاتك.
أخذ مجدي الكلمات من فم زوجته، وأناب عنها قائلًا:
- في العاشرة تماما.. سيكون كل شئٍ بين يديً معاليك.
نظرت كوثر إلى مجدي.. لم تُعقِب، كل ما فعلته.. سألت منتصرًا:
- هل أستطيع أن استكمل دراساتي العليا؟
مال منتصر ناحيتها أكثر، فلم يعد لمؤخرته شيئًا ولو قليلًا ليستقر به على المقعد، كاد أن ينزلق من فوق مقعده، مد يده بعفوية ليتكئ بأطراف أصابعه على فخذها، اعتدل في جلسته، تحرك ناحية اليسار قليًلا، رفع أصابعه عن شهوته، لكنه لم يرفع عينيه عن كل بركانٍ يثور في جسدها أنوثة، بنظراته الشبقة ضاجعها بنَهِمٍ، أحرقت أنفاسه الملتهبة حواس كوثر، وبلغت نبضات قلبه المتلاحقة أذن مجدي! انتفض مجدي واقفًا، ثم قال بتلعثمٍ:
- اسمح لنا بالانصراف معالي الدكتور، غدًا تحضر كوثر بكل شهاداتها وسنوات خبراتها.
استيقظ منتصر من حلمه قبل إطفاء جذوته وشهوته! استدار له بوجهٍ كقطعة جمر ثم قال:
- حسنًا، إن غدًا لناظره قريب، ولن تندما أبدًا، سوف يتغير كل شئ، المستقبلُ غدًا يصبح بين أيدِيكُما.
أشار بيده إلى باب الحجرة، تقدم مجدي وتبعته كوثر، ومنتصر من خلفها يتفحصها، يطوق أن يتحسسها ليطفئ نارًا استعرت داخله !
مد يده المرتعشة ومسح على ظهرها قائلًا:
- العاشرة مساءً.. العاشرة مساءً.
انصرفا إلى البيت، غابات من صمت باعدت بينهما، صاحبهم الخرس من الباب إلى الباب، وعند غرفة نومهما، تجردا من الثياب تمامًا، لأول مرة يناما عرايا، أعطى كل واحدٍ منهما ظهره للآخر، أطفأ مجدي مصباح الغرفة قائلًا بهمس مَزَقَ صمتَ القبرِ المظلم:
قد أتأخر غدًا لما بعد الواحدة صباحًا، تأكدي أن مِفتاحَ الشقة معكِ قبل الذهاب إلى الدكتور منتصر.
علي حسن
- من مجموعة الخريف يُلملم أوراقه - دار النسيم
الثلاثة.. أطباء، الدكتور منتصر، يعمل رئيسًا لأحد أهم أقسام المستشفى الجامعي، لذلك لن أذكُر القسم، الدكتور منتصر؛ أشهر الأطباء في تخصصه النادر، رجل أربعيني، يصعب عليك تقدير عمره، فهو شديد الوسامة، أنيق، وقور، لبق في حديثه، حليق الشعر فلا تَر بياضًا أو سوادًا، مُتقلب المزاج، حين يكون سعيدًا يملأ الدنيا بضحكاته الوقورة، وحين يغضب؛ يهرول الأطباء وطاقم التمريض، بل المرضى من أمامه كالفئران.
الثاني هو الدكتور مجدي، شابٌ في الثلاثين من عمره، قَناصُ فُرص، يلزم الدقة في أموره كلها، ويكيلُها بميزان العقل، تصدمُك مشاعِرهُ الجافةً. له حلمٌ لن يتنازل أو ينصرف عنه، منحة دراسية في إحدى جامعات كندا.
الثالثة، وكما هو متوقع، سيدة تربط بين الرجلين، الدكتورة كوثر، شابة في عامها الخامس والعشرين، تَشرُق بالبهجة والفرح حين تطل على الجالسين بوجهها الصبوح، كل خصالها حلوة، زادها الذكاء ألقًا، تثير في الرجال الفتنة، وفي النساء الغيرة والحسرة، جميع من اقترب منها تمنى أن يظفر بها زوجة، الدكتور منتصر كان أول من اشتهاها، تقدم لخطبتها وهي في السنة النهائية في كلية الطب. رفض والدها السيد نشأت –الشخصية الرابعة- طلبه، بنى رفضه على فارق السن بينهما، رغم ترحيب كوثر به، فهي تراه فارسًا لأحلامها، مكانته المرموقة تجعله سيدًا يأمر فيطاع. زواجٌ يفتح لها كل الأبواب الموصًدة أمام الوظيفة مرموقة، والدرجات العلمية التي تتمناها. كل ما حدث، أن والدها لم يترك لها مجالًا لنقاش أو إبداءٍ لرأي!
أيضاً.. لم تنج كوثر من اشتهاء مجدي لها، لقد عشق أنوثتها، استهوته قُدرتها على سحر الحاضرين بحديثها ورقتها، أذا اقترن بها.. اكتملت الصورة التي ينشُدُها. إذا رافقته في طريقٍ، أو جلست معه في ضيافة أصدقاء، أحاطته بهالة من الرفعة، وطلب الجميع وده!
علم مجدي أن والد كوثر قد رفض طلب الدكتور منتصر، فتقدم لطلب يدها بعد عدة أشهر، وبزواج كوثر من مجدي اختفت تماما عن أعين الدكتور منتصر، الذي علم بزواجهما، وزاد من مرارة الهزيمة، أن من فاز بها هو أحدُ تلامذته!
مر عامان لم يطرأ اختلافًا واضحًا على الثلاثة...
مجدي.. لم يشغله عن البعثة شئٌ، حاول أن يفوز بها كما فاز بكوثر لكنه فشل.
كوثر.. أنوثتها ما زالت ترسل موجات من التوهج والبريق، جمالٌ يهون في سبيله كل غالٍ، تدعي أنها تؤجل الحمل حرصًا منها على حياتها المهنية. هي امرأة مفتونة بجسدها، مزهُوًة بكل تفاصيله المثيرة.
حملها سيُفسد الجسد المُلهِم، يمحو سطوته على عيونٍ شبقة تشتهيهُ، ويطيح بالطاووس المقدس الذي يسكنها، ومجدي تفتنه الصورة، فلا ير غضاضة في الأمر الذي يوافق هواه.
أما منتصر.. رغم ما حققه من طموحات وانتصارات، إلا أن الجُرح أذل قلبه، ليس لأن والد كوثر رفضه، بل لانه وافق على مجدي، الطالب الذي بيده تدميره وقتل أحلامه!
اعتقد مجدي في أول الأمر أن البعثة ليست سوى قوائم انتظار وكفاءات، تنظيم وقت وترتيب اسماء؛ والموعد قادمٌ لينطلق إلى كندا. ذات صباح في إحدى الممرات الرئيسية في المستشفى الجامعي، صادف الدكتور منتصر؛ في هذا اللقاء العابر، استشف مستقبله المظلم من نظرات الغل التي طوقه بها، وأيقن أن البعثة موؤدة، من حجم الكره الذي رماه به أستاذه. حينئذ؛ كان لزامًا عليه أن يضع هذا الرجل نصب عينيه.. " إن منتصرًا يقف حائلاً بينه وبين حُلمه الأثير".
مساء هذا اليوم، عاد مجدي مهمومًا إلى البيت، كوثر تستلقي على أريكتها الوثيرة في سكينة، ترتدي قميصًا أسود، تحفة فنية نادرة.. فينوس.. جوهرة تاجٍ لملك الملوك.. عينان ساحرتان، شفتان من عقيق، سيقان من عاج، شعر ينساب على صدرٍ من مرمرٍ كخيوط من ذهب.. سنوات زواج منحتها بهاءً ونضارة ولم تسلب منها شئ!
وضع على جبهتها قبلةً حائرة، تَحْمِلُ من أفكاره التيهَ والضياع، إنصرف إلى المطبخ، ترك كوثر على حالها، تتصفح هاتفها المحمول، كأنها لم تشعر به أو بقبلته الباردة.
أعد كوبًا من عصير الليمون، وخرج عليها، جلس بالقرب من رأسها، وضع الكوب على يساره ثم رفع رأسها قليلا، أزاح الوسادة ووضع لها فخذه عوضًا عنها، أخذ يداعب خدها وشفاهها بأصابعه، جمع خصلات من شعرها الذهبي المنسدل على فخذه، داعب بهم شفتيها، فسارت القشعريرة في شفتيها وجسدها كله، أطلقت ضحكات كلها أنوثة.. وهي تغمض عينيها وتُبعد فاها عن يده. يقيدها مجدي ويضع على شفتيها قبلة خبير، طوقها بذراعيه تمامًا من الخلف، جذبها برعونة المتلهف إلى العناق من أسفل نهديها، فإرتقت معه وألقت بجبهتها على نحره، رفع ذراعيه أكثر، حتى إحتوى صدرها كله بين كفيه، ثم قبل رأسها وأسند ذقنه عليها ثم قال:
- قابلت اليوم الدكتور منتصر. اعتقد أن أمر البعثة في يديه، ولو أننا ذهبنا لزيارته وحدثناه عن حقي فيها وانتظاري الطويل لها، سيقف بجانبنا، ويزيل كل عقبة تعترض طريقنا.
- متى تظهر النتيجة؟
- خمسة أيام تقريبًا.
- أعرف أن له سلطان، لكن هل يستطيع أن يغير شيئًا في تلك الفترة القصيرة؟
- يستطيع؛ بمنصبه.. بمعارفه.. بعلاقاته يقدر وأكثر. فقط لو تمكنا من مقابلته وطلب المساعدة منه.
- كيف؟
- أعلم منذ أيام الدراسة أنه يحترمك ويقدرك، هاتفيه، إطلبي منه موعدا في الغد.
- أنا!
- نعم، أنت، وماذا فيها؟! أنت تلميذته النجيبة، مازال يذكرك بالتأكيد، ويريد أن يراكِ.
- لم أهاتفه منذ سنوات، صعبٌ أن أتكلم معه بالهاتف.
- ليس صعبًا على الإطلاق، أنشُد مساعدتك، فقط ضعي في تخيلك أنك تتحدثين مع أستاذك الذي لم تقابليه منذ أيام الدراسة والتفوق.
- صعب جدًا!
- لما؟ .. دعيني أحضر لك هاتفك، أنا أحتفظُ برقمه عندي.. سأمليه عليكِ.
أحضر مجدي هاتفها، أملى عليها رقم الدكتور منتصر، لم ينس أن يُملي عليها ما تقوله، وظل جوارها يترقب. ما إن سمعها تقول مساء الخير دكتور منتصر، حتى أشار بيده كي تدع سماعة الهاتف الخارجية تعمل ليستمعا سويًا إلى صوت منتصر.
كان صوت الدكتور منتصر غير متوازن، خليط غيرمتجانس من دهشة وانكسار وفرحة، حنق على امرأة خسرها، ولهفة إلى امرأة يعشقها، فما كانت إلا لحظات، سمع فيها صوت كوثر، حتى ذاب جليدًا صنعه فراق ما يقرب من ثلاث سنوات، رجع الحنين إلي موضعه في قلبه، واستسلم سريعًا لرقتها ودفء ضحكاتها التي تدغدغ مشاعر الرجال.
رحب الدكتور منتصر بالموعد مساء الغد، سينتظر مجيئها إلى بيته، يرافقها مجدي، ووعدها أن في عودتها ستكون الفرحة رفيقة لها!
حين أغلقت الهاتف، لم تكن في حاجة لإبلاغه بشئ، لقد سمع حديثهما كله، بضحكات كوثر اللينة، وزفرات منتصر الملتاعة، لم يك بينهما غير كلمات قالتها كوثر:
- بكرة إن شاء الله.
ثم بلغ الصمت مداه بينهما، مر الليلُ ساكنًا بلا ضجيج على غير عادته معهما، صحو بغير حديث أو حب، ونوم كاذب لم يسبقه عادة الجِماعٌ، باتت عيونهما مغمضة، وبين قلب وعقل كل واحد منهما عِراك يهتك خرس الروح داخله!
ما إن أشرقت الشمس، حتى استعد مجدي للخروج قبل أن تستيقظ كوثر، تفادى أن يُهاتفها طوال النهار، وحين عاد إلى البيت آثر الصمت، قبلها ببرودٍ وعينيهِ شاردتين، انتبه إلى برودة خدها الذي طبع عليه القبلة، خدها أكثر برودة من قبلته، كانت مرتبكة هي الأخرى، زائغة البصر. مسح بكفيه على خديها، عله يبعث فيهما الدفء من جديد، ثم قال:
- اقترب الموعد، ساختار على هواي وذائقتي ثوبًا يليق بحسنكِ، وإن كنتِ في كل الأحوال جميلة ومذهلة.
- أعتقد أنه من الأفضل أن تذهب وحدك، ليس ضروريًا أن تصحبني معك.
- كيف..؟ أنا لا تربطني به علاقة قوية، ثم إنه ينتظرك.
أخذها من يدِها، فتح خزانة ملابسها، أخرج منها أجمل ثيابها، وهي تقف أمامه واجمة. أخذ يضع عليها ثوبًا إثر ثوبٍ، يلقي الثوب ويأتي بآخر، حتي وقع إختياره على فستان أزرق مكشوف الكتفين.
قال مادحًا أناقتها:
- لا توجد امرأةً في هذه الدنيا تملك بعضُ جمالك، فما بالك حين تلبسين هذا الثوب البهيج!
- ولكنه يكشف عن الصدر والأكتاف!
- لا مانع، فهو أخٌ كبيرٌ لكِ، لا تنس أنه أستاذك، تربُطك به علاقة قديمة.
- حاضر.
تركها ليستحم، ثم عاد فوجدها تجلس على حافة السرير مرتديةً فستانها الأزرق، تقبض بيدها اليمنى على اليسرى، وترتكز بمرفقيها على الركبتين، رأسها لم تعد قادرة على الصمود أمام هواجسها، حتى كادت أن تسقط منها على الأرض.
رفع رأسها بيده قائلًا:
- هل تذهبين بغير أحمر شفاه وبدون أن تضعي قليلًا من مساحيق التجميل على هذه الخدود الناعمة؟
- لا.. ليس لي رغبة في استعمالها.
- حبيبتي، هذه أول مرة تقابلين فيها الدكتور منتصر منذ تخرجكِ، أريد أن يراكِ في أبهى صورة.
- حاضر.
تزينت على مضضٍ، فبدت في المرآة كأنها لم تضع شيئًا، وهو خلفها حاملًا حقيبة يدها، ويُمعن النظر إلى صورتها في المرآة، فما كادت تنتهى حتى جذب ساعدها الأيمن وعلق فيه حقيبتها وقال:
- هيا.. يجب أن نصل إليه في الموعد.
نصف ساعة، وكان مجدي يطرق الباب، كوثر في يده اليمنى، تسبقه قليلا ناحية الباب. فما إن فتحه منتصر حتى صُعق ببهاء كوثر، بدا كأنه فَاجَأَهُ الأمر، ولأنه هام يتنزهُ في كل معالم جسدها، أراد مجدي أن يثبت له أنه قد حضر معها فقال:
- هل سنبقى هكذا على بابك دكتور منتصر؟
استفاق منتصر من حلمه، أو بالأحرى من عناقه الجائع لكوثر.. أجابه قالًا:
- أهلا ومرحبًا، تفضل.. تفضل دكتور مجدي.
رافقهما إلى حجرة مكتبه، أَجْلسَ مجدي على أول مِقعدٍ في الصالون، مد لكوثر يده كأنه يسألها أن تمُن عليه بلمسة دافئة من إحدى راحتيها، أعطته يدها اليمنى كأنها تسلم عليه، فأخذها بفيض من رقة ليُجلسها على مقعد وثير، قُبَالَة مقعد زوجها، وعلى يمينها جلس منتصر على طرف المقعد، متوجها بكل جسده نحوها، كي يكون أكثر قربا من أنفاسها التي تشعل داخله لهيب الرغبة والشوق لكل ما فيها.
لم ينتبه منتصر أبدًا أن مجدي حاضرٌ بينهما، شعر أنه يجلس على إنفراد بكوثر –أو أنه لا يريد أن يفطن لوجوده بينهما- فقال لها:
هل أحضرت أوراقكِ معكِ، أنا أريد سيرتك الذاتية وشهادة التخرج، كل مصوغات التعين، سوف أقدم لك في مكتب معالى وزير الصحة.
صعقت كوثر من هذا الخبر، لم يرد على خاطرها هذا الأمر مطلقًا، فإرتبكت ونظرت إلى مجدي تستغيث به ليتكلم، هنا أدرك منتصر أن هناك شخص ثالثٌ بينهما، فاستدار ناحيته قليلًا، بقدر يستطيع معه أن يبقى على عناق بأنفاس وفتنة كوثر، ثم قال له:
- أهلًا دكتور مجدي، اسمُك في قائمة المبعوثين إلى كندا غدًا بإذن الله.
انعقد الكلام على لسان مجدي، فلم يحر جوابًا، أدار له منتصر ظهره، عاد بكل كيانه إلى كوثر، قائلًا لها:
- ليس أمامنا وقت، التغيير الوزاري بات وشيكًا، سوف انتظرك غدًا في العاشرة مساءً، لأتسلم منك كل الأوراق الخاصة بك، المُرتب والبدلات أكبر من تخيُلاتك.
أخذ مجدي الكلمات من فم زوجته، وأناب عنها قائلًا:
- في العاشرة تماما.. سيكون كل شئٍ بين يديً معاليك.
نظرت كوثر إلى مجدي.. لم تُعقِب، كل ما فعلته.. سألت منتصرًا:
- هل أستطيع أن استكمل دراساتي العليا؟
مال منتصر ناحيتها أكثر، فلم يعد لمؤخرته شيئًا ولو قليلًا ليستقر به على المقعد، كاد أن ينزلق من فوق مقعده، مد يده بعفوية ليتكئ بأطراف أصابعه على فخذها، اعتدل في جلسته، تحرك ناحية اليسار قليًلا، رفع أصابعه عن شهوته، لكنه لم يرفع عينيه عن كل بركانٍ يثور في جسدها أنوثة، بنظراته الشبقة ضاجعها بنَهِمٍ، أحرقت أنفاسه الملتهبة حواس كوثر، وبلغت نبضات قلبه المتلاحقة أذن مجدي! انتفض مجدي واقفًا، ثم قال بتلعثمٍ:
- اسمح لنا بالانصراف معالي الدكتور، غدًا تحضر كوثر بكل شهاداتها وسنوات خبراتها.
استيقظ منتصر من حلمه قبل إطفاء جذوته وشهوته! استدار له بوجهٍ كقطعة جمر ثم قال:
- حسنًا، إن غدًا لناظره قريب، ولن تندما أبدًا، سوف يتغير كل شئ، المستقبلُ غدًا يصبح بين أيدِيكُما.
أشار بيده إلى باب الحجرة، تقدم مجدي وتبعته كوثر، ومنتصر من خلفها يتفحصها، يطوق أن يتحسسها ليطفئ نارًا استعرت داخله !
مد يده المرتعشة ومسح على ظهرها قائلًا:
- العاشرة مساءً.. العاشرة مساءً.
انصرفا إلى البيت، غابات من صمت باعدت بينهما، صاحبهم الخرس من الباب إلى الباب، وعند غرفة نومهما، تجردا من الثياب تمامًا، لأول مرة يناما عرايا، أعطى كل واحدٍ منهما ظهره للآخر، أطفأ مجدي مصباح الغرفة قائلًا بهمس مَزَقَ صمتَ القبرِ المظلم:
قد أتأخر غدًا لما بعد الواحدة صباحًا، تأكدي أن مِفتاحَ الشقة معكِ قبل الذهاب إلى الدكتور منتصر.
علي حسن
- من مجموعة الخريف يُلملم أوراقه - دار النسيم
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com