أحمد عبدالله إسماعيل - مذكرات طالبة ثانوي

أذهب إلى العطارة لشراء بعض ضروريات البيت، في صباح يوم ربيعي رائع، أنتظر حتى يفرغ البائع من طلبات النساء أولًا، وكلما قل عددهن، اكتظ المكان بهن مرة أخرى؛ فسألته في ضجر:
- هل عندك ما يمكن قراءته حتى يحين دوري؟
أشار بكفه إلى كومة من الكتب والأوراق، دون أن يلتفت وقال:
- خذ من كتب الطلبة ما شئت.
- من أين تحصل عليها؟!
أجاب بلسانه فقط مشغولًا بما يبيع، ومتابعًا حركة المحل:
- أشتريها من تاجر خردة بالكيلو؛ لأصنع منها قراطيس لزوم التجارة.
سحبت من وسطها شيئًا باغتني؛ عثرت على مذكرات كتبتها صاحبتها، طالبة الثانوية العامة، بخط يدها.
ورق مهلهل غير متماسك، يحتاج إلى جهد لقراءته وفهمه؛ كثر به الكشط، واهتز القلم في أثناء كتابته، كان بحاجة إلى عناية، بل كان بحاجة إلى تنقيح.
كاد العطار يلف بضاعته في أوراق تلك المذكرات؛ فتملكني ذهول شامل عندما أوقعت الصدفة قصتها في يدي، ضربت كفا بكف؛ إذ كشفت لي تفاصيل فضيحة لم يعلم أحد عنها وقتها سوى الشائعات؛ فوقفت على الحقيقة التي أثارت في نفسي عاصفة تساؤلات!
"مضت حياتي بطموحاتها، البيت يسوده غالبًا الهدوء، وقد استغرقتُ في دراستي الثانوية، ولكنني أصبحتُ في تعاسة ملحوظة منذ أن أحببت، كم تمنيت أن ينتصر الحب لكني الآن أقول إن مشاعري لم تكن إلا أضغاثَ أحلامٍ، وأمانيَ كاذبة".
شرعت في قراءة هذه الكلمات، ولم أستطع أن أمنع نفسي عن إكمالها، واجتهدتُ في فهم بعض الكلمات التي سقط فوقها ما أسال الحبر؛ ولا شك كتبتها بدموعها.
قرأت باقي الأسطر في شغف؛ لأعرف ما حدث لصاحبتها التي خط قلمها باقي تفاصيل حكايتها:
"لا أبرح غرفتي التي تتألف من سرير خشبي، وأريكة، ودولاب بابه جرار يغطيه الزجاج الذي تكسوه ملصقات السندريلا، ونافذة تطل على الحارة، وكرسي خشبي بذراعين أمام مرآتي، وآخر بلاستيكي أمام مكتبي الخشبي، وأوضح ما تراه على جدار غرفتي صورتي بابتسامتي المضيئة، ووجهي الرقيق، وجبهتي العريضة، وملامحي التي لا تحتاج إلى عمليات تجميل، غير أن السَّقطة الوحيدة في حياتي جعلت حالي على غير ما كنت عليه!
سيطرت القشعريرة على رأسي، وسائر جسدي، بضع مرات، أصابني التعرق، وخفق قلبي في حيرة وقلت لنفسي:
"هل هذه غرفتي الدافئة الفسيحة التي اعتدتُ التمتع بكل أوقاتي فيها؟ لماذا تحولتْ إلى سجن بارد ضيق يقيد جريان حياتي؟ هل يصدق أبي ما يشاع عني؟ أقسمتُ إن تلك الصور لا تخصني، فلماذا يتحول الحب إلى كراهية، والاحتواء إلى نفور؟!"
غادرتُ البيت ماضية إلى درس خصوصي، وقابلتني زميلتي، فسألتْ عن حالي:
- لماذا تنظرين إليّ باستغراب تتحجر الدمعة في عينك؟
أجبتُ بصوت يصارع البكاء:
- أزعجتْ قلبي، برجفة آثم رأى ملك الموت، نظرات أبي المخيفة صباح اليوم.
مررنا بمجموعة من الشباب، لم أجرؤ على رفع عيني تجاههم، سألتني زميلتي:
- لماذا ينظرون إلينا كأننا مجرمتان؟!
أجبتها بقلب يعتصر من الألم:
- كلما خرجت إلى الشارع، تتبعني نظرات الاتهام، كسهام لا تستقر إلا في قلبي، وكأنها سلسلة من المداهمات تطبق على حريتي، وتقيد انطلاقتي، بعدما اعتدت أن أنطلق في كل مكان، كأن الدنيا لم تنجب خيرًا مني.
صمتتْ صديقتي طويلًا حتى ظننتها لن تتكلم مرة ثانية ثم نطقت وقالت:
- قصدتُ بيتك برغم تحذيرات أمي من بطش أخي إن رآني معك!
ذرفتُ الدموع وأجبتها في حزن:
- لم أتعجب حين تكررت نظرات الاتهام، بل اعتدتها، وصرتُ أمشي مشية المنكسرة برغم أني لم أفعل أي شيء إلا أني مارست الحب.
تخوفتُ من تعرض زميلتي لسوء بسببي، لكنها تفاعلتْ مع بكائي، وصرنا نتسابق على من تهدئ الأخرى، فقالت:
- أشعر بالامتنان لتلك الأزمة؛ جعلتني أرى حقيقة أصحاب الفضيلة، الذين لا يخطئون أبدًا!
لطمتني كلماتها فقلت:
- إنهم بلا رحمة، يرمقونني، بعضهم باشمئزاز وأنفة، والبعض الآخر باشتهاء ولهفة!
وقفتُ أناجي نفسي في انهيار تندفع دموعي دون توقف:
"هل تحول الحب في نظرهم إلى رذيلة؟
وأي لعنة أخرجتني من حياتي المعتادة إلى هذا الجحيم؟
وهل يتغير موقف أسرتي من تلك الفضيحة التي انتشرت كالنار في الهشيم؟"
ابتلعتُ ريقي، وأخرجت زميلتي منديلًا مسحت به دموعي وقالت:
- لم أدرك، بأي صورة، السبب الذي جعلني أخرج من بيتي ضائقة الصدر كأنني فقدتُ شيئًا ثمينًا.
أجبتها في ضعف شديد وذلة:
- خارت قواي؛ وقررتُ أمرًا من دون استشارة أحد بعدما رأيت الذل طوال الأيام الأخيرة؛ إذ أشاح كل أهل الحارة بوجوههم العابسة عني، ومنهم أم زميلتنا المقربة، ابتهال، التي أغلقت الباب في وجهي، وأم هناء التي ألقت القاذورات في طريقي!
تنهدتْ صديقتي وهي تمسح دموعها وقالت:
- لم أفصح لأمي عن الآلام التي حملتها في قلبي بعد كل ما حدث لك؛ إذ هددني أخي الأكبر بالحرق أو القتل إن سمع اسمك يتردد على لساني، وطلب مني إلغاء صداقتك على الفيس بوك.
أجبتها في استنكار لعلي أروح عن نفسي:
- الحرق أو القتل وإلغاء الصداقة؟! حتى متى نرضى بهذه الحياة؟
- ردود الأفعال صارت سريعة جدًا!
- ما آلمني أشد الإيلام هو تحول الناس وتغيرهم، لم يرغب أي شخص في تصديقي، حتى المُعلم الذي تعلمت على يديه اللغة العربية، وحفظت القرآن، سلقني بتلميحاته ونظراته!
سألتني في دهشة:
- هل ساندك أعمامك ؟
أجبت وطعم الكلام أمر من الحنظل:
- مررت عليهم، ورأيت في أعينهم نظرات غريبة، حتى أخوالي تغيرت تعبيرات وجوههم تمامًا، ورمقتهم بنظرة من يشك في استعدادهم لسماع دفاعي!
استفسرَت في فضول:
- هل تحدثت معهم؟ هل دافعت عن نفسك؟
أجبتها بصوت يئن من شدة الصدمة والخوف:
- قلت لهم إني خُدعت باسم الحب، ونحن لا نملك مشاعرنا.
نظرت في ذهول وسألت:
- هل تعاطف معك أحد؟ وكيف كانت حالتك؟
أجبت في استسلام وخنوع بصوت يكاد يُسمع:
- يئست من الغدر، شعرت بضعف في عضلة قلبي، وبآلام مبرحة في عموم جسدي، لكني حافظت على اتزاني، وبعد لحظة استدرت بعيني في نظرة أشبعها من منظر أهلي الذين يحومون حولي، ويلاحقونني بأحاديث النميمة، ونظرات الاستهجان كالغرباء برغم أنهم يعرفون أنني آية في العقل والأخلاق!
نظرت إليّ صديقتي وقد تعجبت من شكلي؛ إذ بدوت كئيبة متجهمة، أنظر إلى الجميع بذهول!
توقفت للحظات على جانب الشارع، وقذفت معدتي ما في بطني؛ فتلطخت ثيابي بالقيء.
هممت بمواصلة السير، أستند على زميلتي التي قالت:
- لا شيء يستحق الغضب.
حاولت المشي بصعوبة؛ أتلوى من شدة التعب، وقفت شاخصة ببصري على أولئك الذين بادلوني النظر في عجب، كأنهم يستقبلون غريبًا أتاهم!
رغم الضجيج والازدحام تفحصت عيناي الوجوه، كان صعبًا أن أتذكر، بهدوء واطمئنان، حياتي الأولى قبل المأساة، أو ما يُسمونه الحب، ويا ليتني ما عرفته، لكني بعد دقائق، تمكنت بصعوبة شديدة من تنشيط ذاكرتي المشوشة، أخبرت صديقتي عن آخر مشاهد الحياة التي كانت تنساب في تدفق، تلقيت رسالة ممن ظننته حبيبي، كتبها بعدما اشتدت رغبته في امتلاكي:
- يا جميلة النظرات وحلوة الطباع ...
سوف أدك حصون قلبك الملتاع ...
وأعلن احتلال جسدك وأجعله يرتجف ويرتاع ...
وأستخرج منك ألف أنثى تئن ساعة وداع ...
تجاهلت رسالته الطويلة؛ فعاود وكتب متوعدًا:
- أنت من أرسلت الصور في تلك الوضعيات المثيرة الشقية، وأخرجت العفريت من القمقم؛ لأن فرسًا مثلك تحتاج إلى فارس؛ فإما أن نعيش الحب أفعالًا لا مجرد كلمات، وإلا صارت قصتك فضيحة تُروى للأولاد و الأحفاد!
لأن نبح الكلاب لا يضر السحاب، قررت ألا أكون تحت رحمته؛ فتجاهلته ومسحت رسالته، كما فعلت بكل رسائله السابقة، لكني فوجئت بقيامه بمشاركة صوري على مواقع التواصل الاجتماعي، على صفحات كل أصحابه؛ فتملكني الضيق خوفًا من ظلم الجميع لي، زاد الطين بلة سيطرة فكرة الفضيحة والعار على عقول الأهل.
سألتني في ذهول:
- و ماذا فعلت؟!
وقفت حينها أعض على يديَّ، أجبتها وجسدي يهتز وشفتي ترتجف من شدة انهياري وقلت:
- يا ليتني ما أحببت، لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت!
ربتت -صديقتي المقربة- على كتفي، احتضنتني بشدة بين ذراعيها وقالت:
- ما أقسى الحياة في تلك الحارة وبين أهلها، بعدما شاعت الصور على هواتف العامة؛ إنهم يحفظون أدق تفاصيل جسدك ويشاهدون المقاطع المصورة كل ساعة!
وقفتُ أنظر إلى الأهالي، متعجبة من تحول معظمهم إلى النقيض، آخر ما تبقى في ذاكرتي من تلك الحياة، الهدوء الذي اعتاد أن يكتنف المنزل، أصدقاء الدراسة، روحي المنطلقة التي توقفت مؤخرًا!
أهانني المعلم، وألمح لمشكلتي مرة، وجاهر بذكر تفاصيلها مرة ثانية أمام الزملاء والزميلات حين قال:
- ربنا يهدي العاصي!
بلعت لساني حين أطلق عليّ لقب "بطلة التريند"ودعوت أن تنشق الأرض وتبلعني!
بعد الخروج من درس اللغة الإنجليزية الخصوصي، سألت الطبيب البيطري بصوت محشرج يخرج من بين ضلوعي:
- هل تبيع حبوب حفظ الغلال؟
تعجب الطبيب ومط شفتيه وتطلع إليّ ببصره وقال في استنكار:
- أتريدين إنهاء حياتك؟
أجبته بصدق دون خوف:
- نعم؛ بسبب الفضيحة المعروضة على الإنترنت.
تحدث بلهجة أبوية محاولًا تهدئتي:
- اهتدي بالله؛ لا شيء يستحق، ستمر الأيام وتسخرين من همومك تلك، وتضحكين عليها!
- وهل أضحك مرة ثانية؟ إن ما بثه يعقوب أقل من بعض حزني.
انطلقتُ حتى أتيت بيتي، ولم تكف أمي عن النظر إليَّ بقسوة، وقالت بصوت هامس متوجس:
- الزمي حجرتك لا يقتلنك والدك، وهو لا يشعر.
مررتُ بوالدي الذي رجع من عمله ممتلئًا غيظًا، التفتَ وأدار لي ظهره، وكأنه لا يطيق رؤيتي قائلًا:
- يحرص أهل الحارة على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطّلعوا لي على زلة، ولا أعرف إن كان هذا الأمر معي وحدي أم إنهم يقفون بالسكاكين المسنونة يترقبون سقوط أي عجل؛ لينحروا رقبته بلا شفقة، وينهشوا لحمه بضراوة!
اكتوى قلبي بكلماته، حزنتُ عندما سقط على ركبتيه يبكي، حاولتْ أمي تهدئته، أخذ يلطم خديه، وشق جلبابه من طوقه حتى طرفه السفليّ، وظل يصرخ مثل النساء حتى بُحَّ صوته؛ فانطلقتُ كالسهم صوب حجرتي، تعثرت قدمي بسجادة مفروشة على الأرض؛ فوقعتُ، ثم قمتُ مهرولة إلى حجرتي، جلست على الكرسي البلاستيكي أمام مكتب المذاكرة الخشبي بني اللون.
دخلتْ أمي منهارة في حزن يكسوها وقالت:
- هل يسعدك ما صرنا إليه؟ ماذا تفعلين الآن؟
أجبتها وجسدي يرتجف، وقلت:
- ألوذ بالصمت، وضقت بصمتي حتى فكرت في الانتحار!
لم تدرك الأم ما تقول فنطقت دون وعي:
- يا ليتني ما أنجبت، كم أتمنى الآن ألا أكون أمًّا، إنها حقيقة لا خرافة، صدق من قال (يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممات).
تذكرتُ مداعبة أبي لي وأنا طفلة صغيرة، استرجعتُ سعادته كلما ألقيت له قبلة في الهواء، ترددتْ في أذني دعواته لي بالستر، دارت الدنيا بي، كدت أفقد الوعي، شعرت بعيني لا تقوى على الرؤية، هرعتْ أمي إلى زجاجة، نثرت منها على وجهي حتى أمطرته، وسقتني القليل، فقط ما يكفي لأبلل شفتي، ثم احتضنتني متذكرة في بضع دقائق أجمل أيام حياتي، قبل تلك المأساة التي قلبتها رأسًا على عقب.
حاولت تهدئتي وقالت باكية:
- لا تخافي ولا تحزني؛ ليس لنا في الدنيا سواك.
أجبتها والكلمات تأبى أن تخرج من فمي:
- شعرت، حين سقط أبي وانهار على الأرض، وحين أحكمتِ الإمساك بجسدي تهزينه بقسوة قبل دقيقة، كأن روحي تصَّعد في السماء، حينها ندمتُ أني وثقت بهذا الشاب، وحزنت لما خاب ظني فيه يومًا إنه الحلم وأنه ...!
ربتت أمي على كتفي بعدما قاطعتني وقالت:
- كل مر سيمر، المهم ألا يكون وراءك ما تخفينه عنا!
اجتاحني الغضب، وقلت:
- أبدًا، صدقيني.
أغلقتْ أمي الباب خلفها كأنها تغلق باب زنزانة، تركتني وحدي، جلستُ أصارع مشاعري المتناحرة، فقلت وأنا أبتسم في شتات:
- اشتقتُ إلى هذا الوغد، هو المرض الذي لا دواء له، نعم أحبه وأتوق لرؤيته، لكني سأقتله إن لمحت طيفه؛ لأعلّمه أن هذا ما يكون عليه الأمر حين يُساء إلى المحبوبة!
داهمني اليأس، أحسست أني بلا قيمة؛ فقمت إلى الشرفة، ومزقت حبل الغسيل، حاولت ربط رقبتي فيه، لكني لم أكن طويلة بما يكفي لأصل إلى السقف، فكرت أن أقتل نفسي بأية طريقة، وقعت على الأرض بعدما عجزت قدمي عن حملي، لم أشعر بنفسي؛ فضربت مؤخرة رأسي في الحائط بضع مرات.
حينئذ هرع أبي إلى غرفتي بمجرد سماع صوت صراخي وانهياري، فتح باب غرفتي، وانقض عليّ، أمسك بذراعيّ، وتفحص رأسي ورأى الدماء على كفه، تطلعت إليه والدمع فوق وجنتيه يسيل؛ فصحت بصوت يهدر بالغضب:
- دعني أقتل نفسي لعلك تستريح من العار، دعني أنفس عما في قلبي، أقسم لك، أنا بنتك، أنا صغيرة، والله أنا ...!
وضع أبي يده على فمي، وصمت مليًّا ليجمع شتات أمره ثم راح يقول:
- كل بلايا أيوب أهون من بليّتي، تجاوز اليأس المدى، من العسير جدًا على أي أب أن يكون مكاني، ولكن لا بد أن أسأل:
- ألا زلت ابنتي الطاهرة أم أفضى إليك وأفضيت إليه؟
أجبته بالنفي، وأخفيت عنه ما دار بيني وبين هذا الشاب.
هدأ أبي بعض الشيء وقال:
- الله وحده يعلم ما بداخلي من معارك وصراعات، نار تأكل أحشائي، لا يهمني إلا أنت.
صرخ أبي في وجهي متوعدًا:
- سوف أحشد كل ما في وسعي حتى أحمل رأس هذا الحقير على كفي.
قالت أمي بنبرة تحدٍ:
- أريد منك أن تضرب لي موعدًا مع كبير عائلة هذا النذل، ولن أهتم بعزوته ؛ سأزيحهم من طريقي، وأقتحم عليه بيته.
تعجب أبي وقال في تأثر شديد:
- كيف تذهبين إليهم؟
أجابت بصوت يئن من القهر وقالت:
-أريد أن أردد على مسامعه قول الله تعالى:
﴿ألم يعلم بأن الله يرى﴾.
جلسنا في صمت ساد المكان حتى قطعه صوت الهاتف؛ استقبل أبي بعد دقائق عددًا من كبار أهل الحارة، لمحاولة النظر في أمري.
وفي مساء اليوم التالي، احتضنني جدي، وقبّل جبهتي كما يفعل كلما رآني منذ أن صارحته بحقيقة مأساتي، ثم انهار باكيًا وقال:
- ما باليد حيلة، تدركين ولا شك ما وراء صمتي وتعلمين كيف أواجه الصعاب، خطرت ببالي فكرة، وعقدت العزم على أمر جلل سيكون حديث كل أهل الحارة!
سألته في عجب:
- ما الذي تنوي فعله؟
جلس ساهمًا ودمه يغلي من الغيظ وقال:
- سيدفع المخطئ ثمن قطرة الدم التي سالت منك غاليًا، سينتهي كل شيء، وستنتهي مأساتك، وسيرتكب الحمقى ما هو أسوأ، و سيحدث ما يجعل هذه الأزمة تُنسى، ولن يتذكرها أحد.
لم تمر إلا سويعات حتى اكتسى الفضاء الأزرق، بقصة حارتنا؛ بسبب انتحار أقرب الناس إلى قلبي بمجرد أن أنهى حياة ذلك النذل الذي لوَّث شرفي بخسَّته؛ شنقه بشال كان يلفه حول رقبته.
بعد فترة صمت لم يُسمع فيها إلا صوت أنفاسه تشهق وتزفر، في لحظة واحدة، تناول جدّي الشاي، الذي أذاب فيه حفنة من حبوب حفظ الغلال!
استلقيت على السرير ذات مساء أناجي نفسي وأقول:
"كان جدّي رقيقا كنسمة ربيعية تداعب وجهي في يوم قائظ الحرارة، ملاكًا يحيطنا في بيت العائلة بجناحيه، ما زالت ضحكته المدوية والعفوية النابعة من قلبه الصافي ترن في أرجاء البيت؛ لم يعد هناك شخص طيب في هذه الحارة منذ رحيله."
قرأتُ منشورات على الفيس بوك تصف ما حدث، منها منشور والد زميلتي، الطبيب البيطري الذي كتب على صفحته كلامًا، تناقلته الصحف، ووكالات الأنباء، والمواقع الإلكترونية في إفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا، قال فيه:
- ليسوا رجالًا ولا أكابر من يلوثون شرف ابنتهم، لو كنا رجالًا بحق ما حدث ذلك، لا نستحق الحياة!
أدمنتُ سماع أغنية "رسالة من تحت الماء"؛ لعلي أشفى من الحب، لعلي أقص جذور الحب من أعماقي، لعلي أتعلم كيف يموت القلب وتنتحر الأشواق!"
أرسل العطار أحد صبيته، وأخبرني أنه فرغ من طلبات كل نساء الحارة.
أوشكت على الانتهاء من قراءة ما روته تلك الفتاة عن نفسها، ولو تركني العطار، جالسًا إلى جانب العطارة، أتصفح تلك الأوراق ما كنت أدري بما مر من وقت، و ما زلت في نفسي مترددًا أتساءل:
"هل يستحق الجد تلك النهاية؟! أم أن الوغد، الذي هتك عرض حفيدته، هو من لا يستحق الحياة؟ أما كان من الممكن حل تلك الأزمة في مهدها بلا خسارة؟!"
كتبت "صفية"على هامش الصفحة كلمات نادمة، ترددت في أذني كأن العندليب الأسمر يشدو بصوت حزين: لو أني أعرف خاتمتي ما كنت بدأت!


قصة مذكرات طالبة ثانوي
* من المجموعة القصصية أقنعة السعادة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى