جاسم عاصي - البحــث عـن فــيدور

لا أعـتقد أني سوف أفشل في العـثور عـليه ؛ بعـد أن تأكد لي تماما ً قوة العـلاقة التي تجمعـه بما قرره لي منة مصير . لذا فأمر الوقوف عـلى مكانه غـدا سر وجودي ، فقـــــد صعقت عـندما كنت داخل مدار شديد القسوة ، وشعـوري بأني كنبتة صغـيرة محاطة بالأشواك ، وهي أشد قسوة مما كنت قد عـانيته . كان لهيب السوط مثل أسياخ حامية مجمرة ، تلسع ظهري وتنام فـــــي لحمه ، وأنا أجري .. وأجري ، والخيول عـلى تماس بجسدي المعـروق . وجميعـنا نتواصل في نهب الأرض التي تفصصت تحت أقدامنا . ما كانت تنفثه الخيول ؛عـبارة عـن حزم من بخار ، كما لو أن أجوافها مراجل مليئة بالماء الفائر، والسياط تدفعـني للتشبث بالحبال ، ثم بالإسراع خوفا ً مـــــــن سقوطي بي أرجلها . كانت أنفاسي تتلاحق ، وإضطرابي يتصاعـد مثل نهر يفتح فجأة . والرجل يلعـن ويسب ، بينما يكثف مــــــــن نار ضرباته التي سلخت ظهري . بدت أجساد الخيول تلتمع وترتجف كالمقرورة ، ونحن نواصل الجـــــــري تحت وطأة الضرب . لم أستطع النظر إليه ، فربما أتعـثر جـرّاء ذلك وأسقط ؛ عـندها تجري الخيول عـلـــــــى جسدي ، اذا حاولت الإنزلاق بخطواتي ، خافضا ً رأسي بموازاة رؤوسها . مثل سهام رشيقة تستقبل الهواء المعـبأ بالصقيع . فــــــــــي حين بدت الشوارع أكثر ضبابا ً وعـتمة ، بينما الضرب يتكاثف . وقتها وجدت نفسي مثل قطعـة ثلج ذاب قسمها الأكبر ، فساح عـلى الملاءة والفراش . كنت تعـبا ً ، ألهث حين إستيقظت . كان مــــــــن الصعـب تلقف أنفاسي ، إذ يبدو أني حاولت الزحف عـلى الفراش ، فقـــــــــد تشبثت كفاي بثناياه، بينما إستقر رأسي عـــلى الوسادة ، وساقاي تشبثتا بالأسفل ، وأنا أ ُحدث حركة كالجري ، فيما تنسحب ساقاي على الخلف كالمطارد . إعـتدلت وقتها وحاولت قـــــدر ما أستطيع التوصل إلى نوع مــــــــــــن الإستقرار . ولشدة ما إستغـربت ؛ كيف عـاودني نفس الحلم الذي خطط له فيدور وأحكم صنعـه . ثم وضعـني ضمن دائرته ..؟ فربما أصابني مــــــــــــــن قلق قض مضجعـي ، ودفعـني نحو عـالم مشوش ـ
يلاحقني وهم ؛ سرعـان ما تكاثف أكثر ، وهمٌ لم يكن مـــــن صنع يدي . كان لفيدور يـد ٌفيه . إنه دفعـني إلى كل هذه الأفعـال المشينة ، مما أربك حياتي ، وتركني وسط عـالم يطاردني فيه شيء غـامض . ترى لماذا تخلى عـني بهــــذه السرعـة ..؟ أيمكن حصول هــــــــــــذا عـند رجل مثل فيدور الذي تحلى بخلق عـال ومعـرفة كبيرة ..؟ فقد أعـجبتني
شخصيتة وسيطرت عـليّ ، ولم أستطع فكاكا ً منها ـ أو هربا ً من سطوته التي بدت قريبة إلى نفسي ، خصوصا ً أني شعـرت بشدة حرصي عـلى حياتي ، ورغـبتي في الخلاص مما أنا فيه مــــن عـوز وإختلال . وهي خاصية كثيرا ً ما تنتاب من مثلي ، حيث ننبهر من المدن ما أن نغـادر الريف ، أو تتحول المدينة عـندنا إلى كابوس مــــــــــــن الألغـاز والمفارقات ، إذ سرعـان ما نقع تحت وطأة شرك محكم ينصبوه لنا ، فينفتح أمامنا السبيل . من هذه الحال كان لزاما ً عـليّ أن أنصاع إلى سطوة فيدور بعـد إشارة صدرت منه نحوي . كنت مثل حشرة تهافتت على الدبق ؛ مما وفرله قدرة عـلى قيادتي إلى الطريق الذي يريد ، يومها لم أكن أعـرف إي شيء عـــــــن كل ما كان يخططه بإتجاهي . فقط كان يشغـلني دافع الرحمة ، مقتنعـا ً بأن المدن يمكن أن توفر أ ُناسا ً لهم قلوب من مثلي ؛ فهو لابد من أن يكون له جذور فلاحية مثلي ، وإلاّ ما كان طيب القلب هكذا كما كنت أعـتقد . ولم أكن في شك منه أبدا ً ؛ لرجل ما دفعـني إلى ذلك ، وبسرعـة تخلــى عـني ، بعـد أن نفذت ما يرمي إليه خطوة .. خطوة . ومـــن فوري رحت أبحث عـنه. فقد زاد الحلم البشع الذي عـشت تفاصيله في تلك الليلة ، حيث لم يكن مـــن بعـده أي مسعـى سوى العـثور عـليه ومفاجأته . إذ تحول شعـوري بالقلق ، وإحساسي بالمطاردة مـــن الوهم الذي كان يداخلني ويسيطر عـلى نفسي . رحت أ ُطارد نفسي وأ ُحاسبها . ولشدة ما كنت أ ُقرف مــــــــــــن كفيّ وأنا أنظر إليهما فأجدهما شديدتي القسوة والوحشية التي أضفاها عـليهمامن قسوته . بل أنا الذي البسهما هذه الخاصية بإرتكابي فعـلا ً مشينا ً ، دفعـني إليه فيدور .
كان لزاما ً عـليّ التريث ، والتأمل قبل الإقدام عـلى فعـل أي شيء . غـير أني كثيرا ً ما شاورت نفسي فـــــــي الأمر وترددت ، بحيث أثمر هذا التفكير شيئا ً من التردد . وبتكرار زياراتي لها ؛
إستنهضت في داخلي دوافع خفية ، راحت تنمو مثل الدغـل ، وتزاحمني وأنا أ ُراقب العـجوز ورأسها يهتز بذبذبات متوالية ، وهي تمسك بالدراهم ، مخبأة إياها داخل الصندوق الصغـير ، منكبة عـليه حذرة من كل ما يحيطها ، وانا أ ُراقبها خلسة . ولا أدري لـِمَ حقدتُ عـليها ، بل تسلطت عـليّ حالة لم أستطع التخلص منها ؛ في كونه شريرة , وهي السبب في كل ما أنا فيه مـــــن فقر مدقع ، وعـوز دائم . إذ يصعـب عـليّ تسديد نفقات دراستي . ربما ساهم فيدور في صياغـة وجهة النظر هـــــــــذه ، بما كان يقدمه من أحاديث بحيث تسلط ونمّـى مثل هذا الحقد والغـضب غـير المبررين . وإلاّ فأنا بريء مـــــن كل ما إرتكته بيديّ هاتين ، حيث أصبحت محط أنظار البصاصين والباحثين عــــــــــــن قاتل العـجوز ، التي بدت وقتها قميئة جدا ً ، وبشعـة . فكم تملكتني وقتها رغـبة للصراخ فـــــــي وجوههم ... إنها شريرة .. أنا قتلت الشر كله .. كنت أتطلع إلى خارج البيت قبل الخروج منه ، ةمتفحصا ً . وعـندما تأكدت مـــــــــن عـدم وجود ما يثير ريبتي خرجت ، وحرصت عـلى أن أبتعـد عـن الأماكن المزدحمة ، أو المؤدية إلى مراكز الشرطة ؛ مصغـيا ً إلى كل وقع أو أنين خافت لأقدام تسير خلفي وتتعـقبني . وبسرعـة إنعـطفت إلى زقاق لا هثا ً ، أو ربما إستقبلني زقاق آخر. ولم أستقر إلاّ بعـد لأن سمعـت فقط خطواتي .
لشد ما أرقني فيدور ، وها أني مطارد وملاحق من آلاف العـيون وأتساءل : لـِمَ تخليت عـني في مفترق الطرق ..؟ هــــكذا كنت أهذي مع نفسي . وعـندما إزداد حالي سوءا ً ؛ قررت بعـد تخلصي من إضطرابي الذي أضفاه عـليّ الحلم الكريه إلى نفسي ؛ قررت البحث عـنه ، ولابد أن أجده مهما كلفني ذلك . وأول ما نفذته هو أني قصدت البستان الغـائر فــــــــي العـمق , وتحت تلك الشجرة حفرت خلسة . فربما يكتشفني أحدهم ويفضح أمري ، حتى عـثرت عـلى السكين الكبيرة . نظفتها من التراب العـالق ، ودسستها بين ثيابي ، بحيث لا يراها أحد . ومـــــــــن يومها وأنا أ ُواصل البحث والتقصي عـن مكانه .
تعـبت كثيرا ً ، وزادني البحث وهنا ً وضعـفا ً .لم يبق لي إهتمام سواه ، فما أن أسأل أحدا ً عـنه ، حتى يشير إلى أنه كان يرتاد إلى هنا ، غـير أنه إنقطع منذ فترة . ويؤكد عـلى أنه سمع بتردده عـلى مكان آخر . أقصده عـلى عـجالة ،ما أن يشير إليه وعـند سؤالي ، ينبري أحدهم قائلا ً :

ـــ كان يأتي إلى هنا يوميا ً ، لكنه إنقطع منذ وقت طويل ولم نعـد نراه ..!

وأتواصل في البحث عـنه . فقد ذاب مثل قطعـة ثلج ، تحول إلى شبح داخل المدينة ، ثم إختفى عـن الأنظار . فربما كان يراني وهو يتخفى عـني كي لا يتورط معـي ، فهو ينزلق كالزئبق مـــن بين راحة اليد ، يتلاشى متخفيا ً عـن أنظاري ، وإلاّ ما سبب معـادرته لكل هــــــــذه الأماكن التي كان يرتادها ، ثم يقاطعـها ..؟ إنه لغـز محـيّر ..! رحت أتلمس جسدي ، فربما أكون جزءا ً من الوهم الذي خلقه وأوجده فــــي الحياة ، وما منحني سوى وهم وكابوس ليس إلاّ ، وعـليّ أن أعـرض عـن فعـلتي هذه . مفترضا ً أني شخص موهوم ومريض ، تساءلت : أيعـقل هذا ..؟ ها أني موجود , وإذا كنت وهما ً فماذا يعـني ذهابي إلى البستان وإستلالي السكين مـــــــــــن باطن الأرض ..؟ وهاهي تستقر متخفية بين جسدي وملايسي . هل هي وهم أيضا ً ..؟!
إني أعـيش الحقيقة ، وفيدور واقع كما هو أنا الآن ، والعـجوز كذلك ، وما إرتكبته يداي لا يراوده الشك . فقد رأيتهم وهم يخرجون جثتها مـــن البيت . كانت كمومياء ، وأنا مطارد وهارب ، تلاحقني لعـنة نفسي قبل الشرطة . لقد إنكسر قوس الكبرياء عـندي ، فربما حين تحين الساعـة سوف ينقضـّون عـليّ ، مكبلين يديّ بالحديد . وعـندها لا مفر مـــــن الإعـتراف بجريمتي ، إذ لا خلاص من كل ما ينتظرني . فقط لابد مـــن مقاضاة فيدور قبل أن يتم ذلك لي ، وأكون بين أيدي العـدالة الذيــــــــن توزعـت أنظارهم في تقصي الحقائق والإشارات والسؤال عـمن كان يزورها أو يتردد عـليها . وبالتأكيد لابد من أحد كان يرصد عـلاقتي بها من باب الغـيرة والحسد . وهي عـلاقة أ ُقسم إني لم أقصدها لمصلحة ، بل أن فيدور مـــــن دفعـني للسكن عـندها وتوطيد صلتي معـها . إنهم يراقبونني بلاشك ، عـندها سوف تحوم الشكوك عـلى شخصي دون سواي ، وحين أ ُساق إلى غـرفة التحقيق سوف أنهار وأعـترف بكل شيء . فأنا متعـب جـــــدا ً وقلق وواهن الجسد ، ومضطرب النفس . تعـشعـش الأوهام والفوضى فــــــــي رأسي كالخرير الدائم ، بحيث أشعـر بوشيش خافت ومستمر يبعـد عـني السكينة وتلاحقني جرّاءها الأوهام ، وليس أمامي سوى أن ألتقيه عـلى الرغـم مــــن فشل كل محاولاتي . ولحظة أشار لي أحدهم ؛ بأنه كان يرتاد حانة لشرب الخمرة ، سارعـت من فوري ، وإنتبهت إلى النادل بعـد أن أكد لي أحدهم بمعـرفته لفيدور ، وهو من كان يقوم عـلى خدمته .. قال بعـد أن رحب :

ـــ بلى .. كان يرتاد الحانة ، ولا يحتسي الشراب إلا ّ من يدي . لقـــد نشأت بيننا
أ لفة عـجيبة ، ففيدور أليف وطيب القلب . غـير أنه إنقطع منذ فترة طويلة .
كان في أيامه الأخيرة أكثر قلقا ً وواهـــــن الجسد يسعـل بإستمرار ، ويمسك
صدره بكفه كما لو إنه يحاول التقيؤ . كـــــان يشعـر بالغـثيان والإضطراب ،
وأحيانا ً يـُكثر مـــن الشرب ، ولايصغـي إلى نصائحي ؛ محذرا ً إياه /، أن هذا
يضر بصحته . غـير إنه تمادى فــــــي الإنهيار والضعـف ، حيث يختم حلسته
بالبكاء . بكاؤه كان مرا ً وقاسيا ً . يضرب سطح الطاولة ويهمهم . يكور كفه
، يلعـن ويلعـن ، بل يزداد لغـطه .وعـندما أسأله إن كان يحتاج إلىالمساعـدة ،
يرفض . فقط يعـب في جوفه ماتبقى فـــــي قعـر الكأس ، ثم يغـادر الحانة كان
كالمومياء أو الشيخ الهرم وهــو يسير في الشارع . لقد إنقطع عـن المجيء ،
هذا ما يقلقني إلى الآن ..!
ـــ ومن أين كان يتجه ..؟
ـــ من هنا .. يعـبر الشارع نحو ذاك المقترب ، بعـدها ينعـطف يمينا ً ويواصل السر
وهو يسعـل وينحني بقامته ، وأتل أ راقبه حتى يغـدو كنقطة سوداء وسط شارع
مقفر . وهذه النقطة تختفي في يسار الشارع . ومن يومها وانا أنتظره .

ثم غـادرته . رحت أسيروأتعـقب وهم خطواته ، حتى آخر نقطة أشار إليها النادل . كان البرد قاسيا ً ، والشوارع مقفرة . إنعـطفت إلى اليسار وأنا أسأل كل من أ ُصادفه ؛حتى تهت بين الأزقة المقفلة عـلى نفسها ، والمتراصة عـلى بعـضها . بدا الليل شديد القسوة ,انا ألعـن كل شيء في حياتي ، ألعـنه وألعـن نفسي وما آليت إليه من مصير أسود وغـامض . لكني تماديت في البحث والسير هكذا ، وفجأة عـثرت عـلى دكان بقال صغـير ، كان صاحبه قـــــد حفره في جدار بيته ، متخذا ً له مكانا ً لبيع الحاجيات البسيطة ؛بدا مثل قـــــــــن الدجاج . إقتربت منه وسألته ؛ حيث أضفيت عـلى سؤالي مسحة تساعـدني عـلى تقريب صورته للرجل . راح ينظر لي بإمعـان ، إذ قال :

ـــ هل أنت أحد أقاربه ..؟
ـــ نعـــم .
ـــ كنت أتصور أنه مقطوع من شجرة ، ولكن الحمد لله ظهر من يعـرفه ويسأل عـنه .
إنه مريض ويحتاج إلى رعـاية .

ثم أشار إلى بيته في آخر الزقاق . وعـلى عـجالة قصدته ولم أطرق الباب ، فقد وجدته مواربا ً . وبهدوء دفعـته إلى الداخل . كان المدخل خاليا ً وموحشا ً وكثير الظلال ، سرعـان ما نهضت في داخلي الوحشة والخوف . وتذكرت ما فاجأه وهو يزور العـجوز صاحب الكلب وهما يسيران عـلى إيقاع واحد ، كانهما يرددان.. نحن مساكين ، وبائسين،
وكيف وجد ناتاشا المسكينة تعـاني من وحدتها ومرضها وضياعـها فـــــي البيت الرطب والخانق والموحش كهذا ، بعـد أن عـرف أن العـجوز والكلب قد فارقا الحياة إلى الأبد . ترى أين يقبع ألان ..؟ سألت .. وهل هذا بيته فعـلا ً ..؟ رددت وأنا أواصل سيري ببطء وحذر ، إذ إنفتحت أمامي غـرفة قليلة الضوء ، وفيدور يجلس متأملا ًعـلى كرسي قديم ، وأمامه طاولة تعـلوها الكتب . كان يرتدي معـطفا ً ثقيلا ً برأس طويل نسبيا ً ، ووجنتاه ضامرتين ، فقــــــــد وجدته ساهما ً ، يشبك أصابع كفيه عـلى بعـض ، محزما ً ركبتيه ، يبدو كمومياء داخل متحف . وحين رآني هب واقفا ً محييا ً إياي .شعـرت بالعـطف عـليه أول الأمر ، لكني أعـرضت عـن مشاعـر كهذه ، فقد بادرني بالسؤال :

ـــ تفضل إجلس . .!
ـــ هل أنت فيدور ...؟
ـــ هوذا أنا ، ماذا تريد .. تفضل . .؟
قال بأدب جم كعـادته ، وأفسح لي مجالا ً بأن قرّب كرسيا ً قديما ً كان بجانب الطاولة فجلست .

ـــ أهلا ً وسهلا ً بك ، أعـذرني إذ لم أستطع تقديم شيء ، فأنا خالي الوفاض .
قلت :
ـــ لا بأس ، أنا لا أحتاج إلى شيء .
ـــ هل تطلبني أنا بالذات ..؟
ـــ نعـم .
ـــ عن أي أمر تسأل ، سأ ُجيبك بما يتوفر عـندي من معـرفة ،
ولا أبخل عـليك بشيء .
راح يسعـل ، ويختنق ، مما أضفى السعـال عـلى جبهته حالة تفصد العـرق فبدا كالمحموم ، سرعـان ما هدأ ماسحا ً العـرق . بزجه مصفّر ، ذابل القسمات ، قلت :
ـــ عـنك .. سؤالي عـنك .
ـــ وها أنك إلى جانبي . ترى ماذا تريد ...؟!
ـــ ألا تعـرفني ..؟!
ـــ لا أعـتقد أني رأيتك من قبل ..!
ـــ كيف لا تعـرفني ..؟!
ـــ قلت لك ذلك ، وأنا متأكد منه .
بدت عـليّ سمة السخرية ، حيث واصلت :
ـــ لا تعـرفني ...؟! هذا عـجيب ..!
ـــ ما العـجب في ذلك ..؟ لم أقل لك سوى الحقيقة وإلاّ لقلت لك غـير ذلك
أنا لا أتقن النفاق .
ـــ كيف لا تعـرفني وأنت من خلقني وأوجدني ..؟!
ـــ هذا غـير صحيح .. ماذا أسمع ..!!
ـــ لا أقصد .. عـفوا ً الخلق لله ، لكنك من خلـّقني عـلى الورق .
إبتسم مستغـربا ً :
ـــ خلـّقتك عـلى الورق ..؟! ومن تكون ..؟
ـــ أنا راسك .
ـــ راسك ..؟! أي راسك أنت ..؟!
ـــ راسك .. ألا تعـرفه ..؟
ـــ لا أعـرف أحدا ً بهذا الإسم ..!
ــ ألا تعـرفني ..؟ أنا من دفعـته إلى إرتكاب فعـل الدخول إلى عـالم

العـجوز المسكوالقبيحة ، ثم ورطتني في عـلاقة معـها ، بعـدها دفعـتني إلى قتلها .
ألن تكن أنت من فعـل بي كل هذا ..؟

ـــ ماذا أسمع ، هل أنا في حلم ..؟! قلت راسك ، وتعـني راسكلنيكوف ..؟
ـــ نعـم هوذا أنا ، عـرفتني إذا ً ، اليس كذلك ..؟
ـــ أنت تهذي ، راسك ذاك كان عـلى الورق ، فكيف تكون أنت أمامي بلحم ودم ..!
ـــ ألا تصدق هذا ، قلت لك أنا من طاوعـك في كل ما أمرت به ، وصغـت جريمتي
التي هي جريمتك أنت ولست أنا .
ـــ هذا عـجيب . من الذي أملى عـليك مثل هذا ، لابد من وجود أعـداء لــي
ينصبون الكمائن . وأنت عـلى ما يبدو مغـفلا ً ، أطعـت أوامرهم ..!
إنهم حسّاد ليس غـير .
ـــ كلا ، أنا مغفل لأنــــــــي أطعـتك ، وها أنك تتنكر لي وتتركني صريـع قلقـي ،
كما تنكرت لي سابقا ً .
ـــ تنكرت لك ..؟! هل يعـقل هذا ..؟
ـــ كما ترى وتسمع . أنا من إرتكب الجريمة ، وبهذه الآلة الحادّة .
ثم أخرجت السكّين الكبيرة ؛ حـدّق بها مليا ً ، فإصفـّر وجهه . بدا كالميت تماما ً ، قلت :
ـــ ألا تذكرها ..؟ إنها هي .
ـــ نعـم إنها بنفس المواصفات التي أوجدتها بيد راسك ، لكن هذا كان عـلى الورق فقط . .!
ـــ لم يكن عـلى الورق فقط ، بل جرى في الواقع .
ـــ هذا عـجيب وغـريب جدا ً . أنت تجرني إلى الوهم . ثم إلى الجنون .

ونظر إلى أصابعـي ، إذ إزداد إصفرارا ً ، وعـرق جبينه أكثر ، عـلى الرغـم من برودة الجو ،
قال :
ـــ هل يعـقل أن أصابعـي هذه صنعـت واقعـا ً ..؟ أم أنه واقعـا ً تسلل إلى
الورق دون إرادة مني ..؟!
ـــ كل ما كتبته هو واقع ، وأنا الآن تائه تطاردني حتى الكلاب ، وتنهشني
الهموم القاتلة . أنا ميت لا محالة سواء بالقانون أو مــــن فرط حزني وقلقي .
فالشرطة تتعـقبني ، فهم
يقتفون خطواتي ، وعـندها يمسكوني ، فما ينتظرني إلا ّ حبل المشنقة . .!
ـــ أي مشنقة ..؟ هل أنت عـاقل أم .... ..؟
ـــ كلا ، أنا بكامل عـقلي ... آه .. لو أبقيت آثار الجريمة عـلى السكين ، لكان
أفضل . ليتني لم أمسحها وأخفيها في البستان كل هــــذه المدة . إنهم
يطاردوني وأنت ستفشي سري وتعـترف عـلي ّ لتورطني وتتخلص مني
ومن الجريمة ، ثم يحسم الأمر .
ـــ ماذا تقصد ..؟ هذا ما لا أفعـله أبدا ً لأنه بعـيد عـن أخلاقي .
ـــ بعـيد عـن أخلاقك ..؟! ولكن كيف ورطتني في القتل ..؟
ـــ أنت تعـرف السبب ، وقد صرخت عـاليا ً .. أنا قتلت الشر كله .. ألا تذكر ..؟
ــ أذكر ، ولكن أنت من أمليت عـلي ّ ذلك .
ـــ هذا صحيح ، وهو تعـبير عـما كان يستشري في الواقع المتناقض ،
أنا كنت معـلق بين
الفضيلة والرذيلة . الفضيلة كانت في داخلي أما فــــــي الخارج فليس
هناك غـير الرذيلة تمارس بشتى الوجوه ..!
ـــ وأنا كنت الوسيلة التي حاججت به الواقع ..؟
ـــ هو كذلك . قل ماذا تريد مني أن أ ُقدمه إليك ..؟
ـــ لا تستطيع تقديم أي شيء ، إنك ضعـيف ينتابك الحزن والقلق ، وتلجأ
إلى البكاء أحيانا ً كما أخبرني النادل في حانة الحمراء .
ـــ هل كنت تتعـقبني ..؟
ـــ هم يتابعـون خطواتي ، وأنا أتعـقبك بحذر ، حتى عـثرت عـليك الآن .
لا تدري كم تعـبت حتى عـثرت عـليك ..!
ـــ ماذا بإستطاعـتي أن أ ُقدمه لك ، هل نهرب سوية إلى مكان بعـيد وآمن ،
وينتهي الأمر ..؟
ـــ لا أعـتقد ذلك ـ لأن آثار الجريمة تلاحقني . إنني مرهف ، تلاحقني
صورة العـجوز فــي نومي
ويقظتي ، بصورتها القبيحة . لم أنم منذ فترة طويلة جدا ً . لقد أوقعـني
في الهاوية يا فيدور يا عـزيزي ، قضيت عـليّ ، ضيّعـت مستقبلي . لا
أستطيع الخلاص مـــــن منظرها ، تداهمني في كل حين . إنه أمر
لا يمكن الخلاص منه .
ـــ حاول أن تنساها .. حاول ..؟
ـــ لا أستطيع مطلقا ً . كل الطرق مغلقة دوني ، إنها تظهر لي في كل لحظة .
زادي هوشرابي وأنت السبب .
ــ لا أدري ماذا أقول ، فأنت أمامي ولاشك في ذلك ، فلنحاول الهرب
سوية ، سأخلصك بما أ ُوفره لك من ظروف جديدة .
ـــ قلت لك لا أستطيع الخلاص من شبحها . لا أدري كيف تستطيع الإستقرار
وأنت قاتلها ..؟!!
ـــ أنا .. لا هذا وهم ، أنت من قتلها ..!
ـــ وهل أنا وهم ، أنت قتلتها بيدي ّ هاتين . وما جئت إليك لكي تنقذني ،
بل لأقاضيك .
ـــ تقاضيني ..؟! ماذا تعـني ..؟!
ـــ أحكم عـليك بالموت كما حكمت عـليّ بمثل هذا الضياع ، إني سأموت ..!

إزداد غـضبي ، بحيث فقدت أعـصابي . وقفت من فوري مرتبكا ً ، منصاعـا ً إلى هيمنة شيء غـامض . كنت منفعـلا ً قلت :
ـــ كل ذلك بسببك ، وأنت من يستحق المقاضاة والموت ، ولست أنا . وما
عـليّ إلا أن أ ُنفذ حكمي بك .
وإلتقطت السكين من عـلى الطاولة وشرعـتها فوق رأسه بيد مرتعـشة . أمسكتها بقوة وغـضب ، بينما وجدته يتضاءل ويهتز ، ويصدر شخيرا ً كالمحتضر . وعـيناه بدتا جافتين تنظران لي بتيه وإستسلام ، وشخيره إزداد كالمخنوق . رفع كفيه ، أطبقهما عـلى عـنقه ، راح يصرخ ويعـوي ,يضغـط ويشخر ، وأنا أنهار فوقه ، راميا ً السكين بعـيدا ً ، محاولا ً فك إشتباك كفيه عـلى عـنقه الذي بدا كغـصن جاف ، ينبض ببطء شديد . وإلتصقنا جسدين في جسد واحد ميت ساكن ، لا حركة فيهما تشير إلى قوة الحياة ، سوى هذا النفس الذي بدا ثقيلا ً ، ثقيلا ً ، وعـيناي تنظران إلى عـينيه المغـمضتين . وجدته أضعـف مما كنت أتصور . إنه يستقبل موته مثلي . فرحت ألثمه وأستدل بما تبقى من حرارة جسده المرتعـش . وتمنيت لوأننا غـدونا كائنا ً واحدا ً يهرب إلى البرية المفتوحة ، فقد ضاق النفق بنا حد ألإختناق ...!!



+++++++++++++++++++++++
جاسم عاصي
عـمّان مايس 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى