فراس عبدالرزاق السوداني - في الهمّ شرقُ

مدّ يده لصفحة النيل، يُعمّدها مراراً وتكراراً بمائه الطهور، أمواجه تلطم صفحة سياج المقهى، نوارسُهُ تحوم بحذاء الجالسين عند ضِفّته على طِوار السياج، رأى فيها نوارسَ دجلة، رغم ما بين النيل والفرات من شبه وصلة.. رأى دجلة في النيل وطيوره عند مقهى «قصر النيل».

قالوا قديماً بأنّ دجلة النهر الخالد الذي يَهَب الحياة للسواد، واليوم يزعم بعضهم أنّه في النزع الأخير. خاضوا عرضه من الضفّة إلى الضفة مشياً على الأقدام، فما زلّت بهم قدم ولا جرفهم موجُهُ العاتي، فماذا ينتظرون؟!

ما أكذب الشاعر الذي كتب ملحمتك، يا مَلِيكنا گلگامش؟! أفهذا النُّهير هو الذي أغرق الدُّنيا بطوفانك المزعوم؟! أم كان الفرات هو مَن فعلها؟!

الفرات هو الآخر حبسه عنّا الجيران، قطّعوا شرايينَه بسدودهم العملاقة، جمعوا خزيناً هائلاً من الماء، لن يجد مَن يشربه بعد الزلزلة العظيمة والخسف. قيل بأنّ تلك السدود والخزّانات هي سبب الزلزلة، ألا تشمتون؟!
هذا وجه آخر من أوجه الشبه بين النيل والفرات، ولا نملك غير الشماتة ثمّة أيضاً!

ياااه، ما أبعد هذا في الوهم.. تلك جلسة جلستَها عند «قصر النيل» قبل سبعَ عشرة سنة من يوم الناس هذا، وما زُلزلت الأرض «بأهلك» في الشمال إلا قبل شهرين من اليوم.

عادَ حيثُ سرح به بصرُه لمربض الأسدين البرونزيين عند مدخل الكوبري، من جهة الجزيرة..

مع بهاء المشهد وجماله، لم يكتمل أُنسه ثمّة، لا يُحبّ الشاي في فناجين الخَزَف الصينيّ، يفضّله في «اسْتِكانة» أهل بغداد الشفيفة المُذهّبة، بطبقها الخزفيّ المزخرف بأفانين وأزهار، يُحبّه بالهال الذي يُسابق أبخرةَ الشاي المتصاعدة، ناشراً طيّبَ العَرف في الأرجاء.
كانت رائحة البارود والدَّم التي خلّفها ببغداد في تلك الأيّام العِجاف تشوّش عليه عبق الشاي وعطر الهال، وما سرّى عنه صوتُ أمّ كلثوم صادحاً في الأرجاء: «مخطرتش على بالك يوم، تسأل عنّي؟!».

ما درى أنّ الكوبري ستلفّه بعد سنين من مجلسه ذاك رائحة البارود وأدخنة الغاز، ويصبغه الدّمُ القاني؛ ليتّصل المشهد بين دجلة والنيل، وإن شئت الفرات؛ فقل.. ولا حرج، فالهمُّ شرقُ!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى