جاسم عاصي - المـــكتبة المــعـمدانية

من بين فجوات تراص الكتب ، شاهدته كما لو أني ألمح لقطة سينمية . سرعـان ما إختفى . غـير أني تيقنت من رؤيته فعـلا ً ؛ ترى هل كان هذا جزءا ً من تأثير القراءة على ذهني ..؟بحيث بدا مشوشا ً هكذا ..؟ وإذا كان عـكس ذلك فماذا يعـني ..؟ إن إنتظام الذهن والرؤيا ، ما أتمتع به ، فكيف حدث مثل هذا ..؟! وهل يعـقل أن أجده هنا في المكان المجلل بالكتب المقدسة ، ودوريات الكنائس والأديرة المزينة بصور السيد المسيح ، وهويبدو برأسه المكلل بالأزهار كالطوق ، مستسلما ً لصلبه ، مادّا ً ذراعـيه إلى الجانبين كطير نحيل ، يهبط ببطء ووهن ، ضمن هذه النكهة التي تنبعـث من موجودات المكتبة ، كأننا في طقس الصلاة داخل الكنيسة . هدوء طاغ وجليل ,وانا دؤوب عـلى البحث بين الرفوف ، عـلـّي أعـثر عـلى ما يسد نهمي ، بعـد أن إلتقطت صورة للسيد المسيح ، لا يظهر منه سوى الرأس ، الذي ذكرني برأس الحسين مثبتا ً عـلى طاولة . تماما ً كانت الجبهة مصطبغـة بالدم كجبهة الحسين ، بينما شعـيرات شاربه تبدو سهلة العـد ، وخصلات شعـر رأسه موزعـة عـلى الجانبين والجبهة . بدت لي صورتيهما باهرتين ، وكأنهما وجه واحد لشخص سكنته القداسة . بدت رقبة السيد عـلى تشنج ، إذ ظهر رأسه مشرئبا ً إلى السماء ، وقـد أعـانته رقبته بأن تماسكت عـلى أجزائها بخطين حادّين لغـضروف الرقبة ، مما ساعـد عـلى رقع رأسه هكذا ، كمن يتضرع طالبا ً النجاة والعـون . أو ربما هـو مندهش من هذا المصير . كان وجهه صافيا ً ومشوبا ً بحمرة خفيفة مع طغـيان للإصفرار ، بعـينين ساهمتين إلى المجهول . بينما خصلات شعـر راسه تنسل عـلى جبهته ومؤخرة رأسه والجانبين عـلى شكل خـِصَلٍ مفككة . بدا يشرئب أكثر ، غـير أني أبقيت شكي ثابتا ً ؛ عـندما رأيته عـلى الجانب المقابل لممرات المكتبة ورفوفها . حاولت أن أفرج صف الكتب التي أمامي ، متظاهرا ً بالبحث ، حتى إستطعـت أن أهيء زاوية مناسبة يستطيع من خلالها صد وجهه الذي إختفى عـني تماما ً . لم يكن محض صدفة أو ضرب خيال ، خطف في راسي ، ولا هو أثر مما تركته القراءة من ظلال تترآى فجأة ، حيث يمتزج الواقع بما هو متخيل ، بل كان محض واقع لمحته ، وأنا متأكد منه ، لذا إتخذت من كوني عـدسة للرصد والترقب إلى متيقن من رؤيته ثانية . وفجأة تأكد لي ذلك ، إذ لمحت حركة ما في صف الكتب أمامي . بدت الكتب المرصوفة عـلى الرفوف تنقرج وثمة كف تفرجها وتنحيها عـلى الجوانب باحثة مثلي عـن شيء . كانت الكتب من القطع الصغـير ، والرف واطئ ، بحيث أستطيع رؤيته ، وهو يطأطيء قامته المديدة لفحص عـناوينها ، لذا توجب عـليّ أن أكون أكثر دقة في إلتقاط صورته هذه المرة ، بحيث لا أبقى في شك من أمري . بدا الشخص الذي يفرّق الكتب واضحا ً ، بحيث يمكن


معـرفته دون جهد ، إذ تبرزمنه الجة ومقـدمة الرأس ، يعـقبها الفم والأنف الدقيق ، والشفتان الحمراوان الرطبتان . كانت له هالة من البياض الناصح ، والجبهة المضيئة ، مع تراصف شعـرالرأس عـلى الجبين . بينما يتكاثف عـلى الجانبين والخلف . وبحركة سريعة من كفيه حجز كتب الرف إلى قسمين . دفعـهما إلى اليمين واليسار ، بينما توسط رأسه الفراغ الذي أحدثه .
لمحت أنفه وفمه ، بدا واضح المعـالم لي . إنه هـو كما أراه الآن دون شك ، غأدر المكان وهو يحمل عـددا ً من الكراريس ، حيث توجه إلى جهة أخرى ، وأنا أتعـقبه من خلال فتحتي هذه . كـــان مديدا ً ، وذا صفرة تشوب ماء الوجه ، بينما يمتلك عـينين حادتين تنمان عن ذكاء خارق ، على الرغـم مما بدا عـليهما من ذبول الأجفان ، لكنهما لا تخفيان حـّدة ذكائه . بدا لي بسترته الطويلة التي تغـطي ساقيه ، وهي تفترش ظهره الذي بان منه كتفاه المستقيمان ، كما لو إنهما خطا بالمسطرة والقلم . ولسيره وقع هاديء ، متجه نحو واجهة عـرض الصور ، حيث تـُعـرض عـلى الجدران لوحات كثيرة . بعـضها نـُفذ بالفرشاة والألوان المائية عـلى الخشب والنحاس الذي قُص عـلى هيئات هندسية متباينة ، والقسم الآخر نـُفـذ بالكي عـلى الخشب ، ومقاطع من سيقان الأشجار ، إتخذت اللوحات أشكالا ً متباينة دائرية وبيضوية ومربعـة ، إحتوت مقتطعـات من الأناجيل وأقوال المسيح ، بينما تضمنت الأخرى صور الصلب الدامي والمفجع . لا حظته وهو يستقر أمام الواجهة ، هادئا ً وساكنا ً كعـادته . يبحث عـن شيء ، فأسرعـت الخطى نحوه ، حتى موقعـه . وبمثل ما كان يبحث ، شاركته البحث ، في ما هو أمامي ، إلى أن دنوت منه شعـرت بأنفاسه المنتظمة ، ورائحته الزكية . تصورته .. كيف كان يدخل بيت الأب ، وكيف يلج باب الكنيسة وممراتها المشجرة وحضرة الكاهن . كم كانت حواراته هادئة مع إخوته ووالده ، حيث كان الجميع يولونه إحتراما ً وتقديرا ً ، خاصة أنه أصغـرهم ستا ً ، وقد ترعـرع بين إيديهم بعـد أن فارقت أمه الحياة ، وتركته صغـيرا ً ووحيدا ً كما لو أنه في البرية ؛ كما كان إحساسه ، حيث ولدت له عـقدة الشعـور بالغـربة بين عـائلته .
حاولت الإقتراب منه أكثر لأتأكد ، فربما شبهته أو وقعـت في الوهم ، كما عـانيت من ذلك مع الآخرين . وبهدوء سألته :
ـ عـم تبحث يا أخي ..؟
نظر نحوي بحب واضح ، كانت نظرته مشوبة بإبتسامة محببة . تأكدت من خلال


صفاء نظرته من أنه هو ، إذ لم أقع في الوهم الآن ، قال :
ـ عـما تبحث عـنه بالتأكيد .
ـ أنا ..؟ أنا لا أبحث عـن شيء معـين .
ـ إذا كنت كذلك فـلــِمَ أنت هنا ..؟

ـ ليس هذا ما أقصده ، بل أني دخلت المكتبة للبحث عـن بعـض المصادر.
ـ إذا ً لابد أن تبحث ، وإلا ّ ما كان لوجودك معـنى في المكتبة .
نظرت إليه متأملا ً قوله هذا ، إذ أنه مازال عـلى نفس الإصرار عـلى ذات الصورة التي عـرفته فيها ؛ مثابرا ً ودؤوبا ً عـلى إكتشاف ما يفكر به . قال مستدركا ً :

ـ بل أنا أبحث عـن المعـرفة .
ـ لكني فقط كنت أقصد بسؤالي عـن ماذا تبحث في واجهة العـرض هذه ..؟
ـ عـن كل ما يستهويني أيضا ً .
ـ لابد أن بستهويك شيء ، فجئت تبحث عـنه ، لذا فإنك مشدود إليه .
ـ تبدو كما لو أنك قرأت ما في ذهني ..!
ـ بل أنا أعـرفك ، وأعـرف آرائك .
ـ تعـرف آرائي أيضا ً ..! كيف ..؟
ـ بل أعـرفك تماما ً .
ـ أنا لا أعـرف أحدا ً في هذه المدينة ، فكيف أجد من يعـرفني فيها فجأة ..؟!
ـ أنا أيضا ً لست من هذه المدينة ، ولا أعـرف فيها أحدا ً سواك . الآن
أنا عـابرسبيل ، وتلك هي حياتي دائما ً .
ـ وأنا كذلك مثلك .
ـ ومن أكون ياترى ..؟
قلت بثقة ، وبإقاع محبب مشفوع بإبتسامة :
ـ إليوشا . ألم تكن أنت إليوشا ..؟
ـ ومن إليوشا هذا ..؟!
أوقعـني في الفخ ، بل فتح باب الوهم الذي أضع نفسي دائما ً داخله . لكني كنت متأكدا ً من ذلك ، حيث إنبريت بكل ثقة :
ـ إليوشا كارامازوف .

تأملني جيدا ً ، منفحصا ً قولي وتصرفي ، مختبرا ً مدى الثقة التي أتحلى بها من خلال معـرفته ، إذ سأل :

ـ أنت لم تخطيء ، ولكن هذا أمر محيـّر لي كثيرا ً .
ـ أنت إليوشا ، وأخوتك إيفان وديمتري وسميراداكوف .. آه .. كم
كان معـذبا ً ذلك الأخ ..!
إحمر وجهه ، وعـرقت جبهته ، كما كان حال وقوعـه في الحرج ، إذ بدت عـليه الدهشة ، مما ساعـدني عـلى الإستمرار في إظهار مدى معـرفتي به ، وتكثيف ذلك ، لكي أسيطر عـلى الموقف الذي أوقعـت نفسي فيه ، قلت :

ـ بل أناتأكدت ما أن لمحتك من بين صفوف الكتب .
ـ حقا ً ، هذا يعـني أنك تراقبني منذ وقت ليس بالقصير ..!
ـ منذ بدء دخولي المكتبة .
ـ وأنا دخلتها ما أن قرأت اليافطة في الواجهة .
ـ وهل كنت تبحث عـن شيء ما ..؟
ـ ليس بالضبط ،ولكن لابد من إقتناء ما يعـمـّر رأسي بالمعـرفة .
ـ وواجهة الصور ماذا بها لك ..؟
إبتسم ، حيث إنفتحت أساريره ، بان وجههه كما عـرفته ، سمحا ً ، رقيقا ً مضيئا ً ،يشي بنقاء السريرة ، قال :

ـ كنت أبحث عـن لوحة العـشاء الرباني .
ـ إنها موجودة .
ـ أيـن ..؟
ـ في الركن الآخر ، وهي ذات حجم مناسب .
ـ هذا يعـني أنك ترتاد المكتبة بإستمرار .
ـ كثيرا ً .
ـ وأين هي اللوحة ..؟
قصدنا الركن الذي كانت مثبتة عـليه اللوحة . كانت مستطيلة وبحجم مناسب . راح يمعـن النظر فيها ؛ ساهما ً ، تائها ً في محتوياتها ، حيث لا زمت الصمت . شعـرت بهيئة الفتى وهو يجلس عـند رأس الأب زوسيما ، مصغـيا ً لإعـترافاته كما لو أنه يتلقى الدرس لا الإعـتراف بالخطايا ، شاردا ً ومبحرا ً ، تنكمش قسمات وجهه وتتغـير ما أن ينفتح أمامه شيء جديد . ثم تتداخل أسراره ، وتضاء جبهته بنور أخاذ ، وهو يراقب ما إنطرح أمامه ؛ جسدا ً لم يبق منه إلا ّ هذا الفم والعـينان اللتان فتحتا لرؤيا بعـيدة ، كدلو الماء والبئر . وعـندما طالعـني وجها ً لوجه لمست في عـينيه لمعانا ً كزجاجتين بـرّاقتين . إستدرك قائلا ً :

ـ حقا ً ، أجد في هذه اللوحة نطقا ً جديدا ً دائما ً ، كلما
نظرت إليها وتفحصتها .
ـ إنها تبقى مجسدة لعـذابات الإنسانية جمعـاء .
ـ بل تجسد الفاجعـة بإستمرار .
ـ وهل ستقتنيها ..؟
ـ طبعـا ً ، إني أبحث عـنها .

ثم خطونا نحو أمين المكتبة ، حيث نجري حسابا ً معـه . طلب إليوشا اللوحة . أسرع الرجل الوقور نحو مكانها وبدأ يغـلفها ، ويقدمها إليه قائلا ً :

ـ إنها هدية المكتبة إليك .
ـ هــدية ..؟ كيف ..!
ـ تقديرا ً لك يا أخي .
ـ لي ..؟!
ـ بلى ، سيما إنك تزورنا لأول مرة .
قلت :
ـ طبعـا ً لك ، ألم تكن من عـائلة كارامازوف ..؟
ـ ولكني لست من هذه المدينة ..!
إبتسم أمين المكتبة ، وشاركته ذلك . .
ـ أنت لك مكانة كبيرة في نفوسنا .
ـ هل تعـرفوني حقا ً ..؟
ـ كيف لا ..؟

راق مزاجه ، شعـر بالزهو والفخر ، حيث عـاد الهدوء إليه أكثر . غـير أنه لم يظهر الإندهاش الذي إنتابه . شكره كثيرا ً ، ثم غـادرنا المكتبة . قلت له ونحن في الخارج :
ـ ألم أقل لك أني أعـرفك ، وها هو الآخر أخبرك بذلك .
ثم سرنا بإتجاه الباب إلى خارج مركز المدينة . بدا هادئا ً في سيره ، متأملا ً في ما حوله . وكثيرا ً ما كان يطأطيء رأسه إلى الأرض ؛ كأنه يبحث عـن شيء ما . بدت أساريره منفتحة ، حيث إستطعـت أن ألمح وجهه المشوب بالإصفرار ، وبنظراته الدائمة إلى الأمام ، دونما تركيز عـلى ما يواجهه . إجتزنا الرصيف نحو المقترب الآخر الذي توفر عـلى ظل يقينا حرارة الشمس ، سيما ما ينطوي عـليه هـذا الشارع من هدوء نسبي . كان يزعـجه صرير عـجلات السيارات ومرورها السريع والخاطف ، إذ يبدو عـليه التأثر , ونحن نواصل السير ، يلفنا الصمت الذي بدا مثل غـلالة شفيفة ، حيث شعـرت بها وأنا أسير إلى جانبه . غـير مصدق ما أنا عـليه الآن . لكني أعـيد مع نفسي التأكيد ؛ عـلى أن ما يحدث هو الحقبقة بذاتها ، إذ هل يعـقل أن يلتقي إثنان في مكان بعـيد عـن موطنيهما ، دونما موعد ..؟ وهذه المصادفة ، ربما كان ثمة تخطيط يتم في الخفاء ، حيث لا يمكن إدراكه . قلت فـي نفسي ؛ إنه ضرب من الخيال ، لكن ما أعـيشه ليس كذلك ، فإليوشا من أصقاع الأرض البعـيدة , وهاهو معـي الآن ، وقد ثبت لدي هذا منة قوله ، وتأكيده بأنه لكذلك ، وأنه جاء لزيارة المدينة عـابرا ً ، إذ تنساب حركته بهدوء تبعـث في داخله النشاط ، وتداخل في ذاتي شيء من الإستقرار الذي لم أعـرفه ، وما زلت أبحث عـنه طالما إمتدت بي الطرق ، وسلمتني إلى الأخرى . كنت أشعـر أن ثمة تشابكا ً مريرا ً يسوّر كل وجودي ، وإن حـافـّات حادة تنتظرني . وليس هناك إستقرار يوشك أن يؤدي إلى حالة مقبولة . فالإشتباك تداخل في كل شيء ، وتواصل الزمن يقضم ما تبقى وسط ضجيج وعـويل ونثار غـبار . وقتها كنت أسير تائها ً دون هدف ما ، لأن في يقيني إن توقفت داستني الأقدام التي يهرع أصحابها نحو الغـامض والفوضى المغـرية . ترى أيصح أن تكون في فوضى هكذا ..؟ وتتسلمنا الأنفاق المجهولة ..؟ حاولت أن أتكلم معـه ، غـير أني شعـرت بسور متين يحجزنا رغـم شفافية هيئته . إنعـطفنا ، حتى شارفنا شارع طولي محفوف بالأشجار ، قال :

ـ هل أنت مستقر في المدينة منذ زمن طويل ..؟
ـ ليس كذلك ، ثم أني لا أستقر في مكان معـين . هذا ما إعـاتي مته .
ـ كيف..؟
ـ هذا ما أشعـر به . الإستقرار يبدو لي حالة مستحيلة ، إنه طريق
إلى المقبرة .
ـ أنا أعـ تقد أن الإستقرار ينبجس من المرء نفسه .
ـ هذا صحيح ، وهو مرتبط أيضا ً بالبحث . ثم للواقع تأثير في ذلك .
ـ البحث قد لا يوصل إلى الحقيقة .
ـ لكنه بحث عـلى أية حال . كذلك لاتوجد حقيقة مطلقة .
ـ الإستقرار في تقديري محطات ، تتطلب النظر إلى ما توفره من راحة .
ـ لكن سرعـان ما يتلاشى وهجها وبريقها .
ـ إنه إستقرار الروح .
ـ وله عـلاقة بالمكان . ألاتعـتقد ذلك . ..؟
ـ هذا صحيح ، فالمكان كساء وإنبعـاث أحاسيس ، لذا تجدني
أهرع إلى الدير ما أن يضجرني المنزل بما كان يكتنفه من تناقضات .
ـ ألا تشعـر داخل الدير بالإستقرار والتجدد ..؟
ـ كثيرا ً . كنت أندفع بشغـف نحوه .
ـ عـلى الرغم من وجود مكان سابق لك . ..؟
ـ لقد سئمت كل تشكلاتي ، وأنت تعـرف ذلك جيدا ً ..!
ـ كانت العـلاقات قد قتلت كبنونة المكان وتأثيراته . أفقدته نكهته وشاعـريته .
ـ لكنها ذات عـلائق باقية . تصور أن إنشدادي للدير لم
يكن مبعـثه رغـبة فقط أول الأمر سيما أني أدركت أنه
كان استجابة لما هو في داخلي .إنه تحول بفعـل
الطقس إلى كينونة .
ـ ربما تأثير الأجواء في المنزل كان سببا ً .
ـ ربما .. بل هي بالتأكيد . إنها خلقت عـندي نوعـا ً
من الفوضى . تصور
كنت أحس بنفسي مثل التائه وسطهم .
ـ كانت العـلاقات بين أفراد أسرتكم متشابكة ، وتنعـطف نحو الغـموض .
ـ ذلك بتأثير الأب .
ـ هذا صحيح .
ـ لذا رحت أنزع إلى العـزلة ، كذلك كان سميراداكوف يعـاني
من غـربة وعـزلة . انفصلت بما عـندي إلى الدير عـلى العـكس بقي يصارع إشكالاته مع الأب .
ـ سميراداكوف كان ينقصه الإيمان بالله .
ـ هذا ما كان ينقصهم جميعـا ً ، غـير أنه كان يختلف عـنهم
في أشياء كثيرة . الخطيئة كانت تلاحقه في عـزلته ، خطيئة الأب
، دفعـته إلى منتهاها .
ـ كان للأب زوسيما تأثير كبير عـليك .
ـ بل لأبي أكثر ، لأنه دفعـني بفعـل أخطائه ونزواته إلى الطريق الصحيح
دون أن أدري ، سوى أني خضعـت لتشكلي
الداخلي الرافض لكل وجوه الخطيئة .
ـ الخطيئة ليس لهل مبرر عـلى الإطلاق .
ـ لاحظت أن خطايا ترتكب بإسم الفضيلة ,
ـ أي بإيجاد مسوغ لها، وهذا مايرتكب عـندنا خاصة في الزواج بدلفع
لشهوة والنزوة .
ـ الفضيلة تنطلق من الذات وليس للشرع هيمنة عـليها .
ـ هذا جدا ً صحيح بدليل أن ما يرتكب من خطايا له ما يبرره شرعـا ً،
القوانين نصنعـها نحن بدوافع المصلحة والإنتفاع .
ـ كثيرة هي الخطايا ، ومثلها بل أكثر صور الفضيلة .
ـ أعـتقد أن إستعـدادك الذاتي هو الحد الفاصل بينك وبين الأب .
ـ وهو الذي أبعـدني عـن وحل الخطيئة .
ـ الخطيئة دائما ً تدفع إلى الفضيلة لأنها نقيضها . وهذا ما حدث معك .
ـ كنت أنظر في المرآة فلا أرى سوى خطاياهم ، وثمة ضوء يشير
لي من بعـيد وهذا لم يحدث مع أخوتك .
ـ ولكن ألا تلاحظ أنهم بعـيدين عـن الخطيئة نسبيا ً إذا ما
قيسوا بسلوك الأب .
ـ فقط كان يجمعـهم التطرف .
ـ تماما ً .. تصور أن اعترافات الأب زوسيما كانت بمثابة تأكيد على ما في داخلي من رواسب طيبة لم تـُخرب . لذا كانت عـلاقتي به قد أينعـت خضرة أرضي .
ـ أعـتقد أن كل شيء كان محفوف بالخطيئة .
ـ والفضيلة كذلك . ,انا أزاء ذلك كنت أدقق فــي كل شيء . الخطيئة
كانت تقذفني وتبعـدني كأنها غـير معـنية بي . أتصورها من خلال
صوت الإنذار ، إذ سرعـان ما تجيب له والكل ان متداخلا ً في ما هو مشتبك في حياتهم . لانهم ينظرون لي كوني يتيم
الأم . أما سميراداكوف فكانت نظرتهم إليه نظرتهم للخطيئة أو أنه إبنها الشرعـي . . كان أبي يعـامله بقسوة ويمنعـني من لتقرب منه .
ـ إنه شخصية معـقدة جدا ً ..!
ـ ليس هذا ذنبه ، بل هو ,وجد كذلك . أنا وجدت نفسي أدخل في ما هو مضيء ، أما هو فقد كان يستدل
بالظلمة عـلى كل ما هو أمامه . وأنت تعـرف نهايته المفجعـة .. آه .. كم كنت أحبه ذاك السميراداكوف الشقي ، المبتلى بالإجحاف .
ـ كانت الحياة قاسية جدا ً ، ليس عـليه فحسب ، بل مع الأب ؛ لأنه أغـلق
باب الخطيئة عـليه .
ـ الإقدام عـلى الموت شجاعـة نادرة ، أعـني يتوجب أن تموت بينك وبين
الواقع المسافة .
ـ هذا ما تجسده قوة الفعـل الدافع لذلك .
ـ سميراداكوف حسم أمره مع الحياة القلقة والباطلة عـلى عـجالة .
عـلى الرغم من سنوات القلق والعـسف . كانت معـاملة الأب له تشعره دائما ً بأنه السبب في الخطيئة التي لم يرتكبها .
ـ إنه ثمرتها ، لكنها بالتالي تحولت عـنده إلى عـقدة وجود كما تعـرف .
ـ نسي الأب كونه أداة الخطيئة .
ـ وهو حسبها بغـير ذلك .
ـ فعـلا ً سميراداكوف دخل في النفق الأكثر ضيقا ً . كنت تلاحظه جيدا ً . إليوشا كم كان يحب الانزواء معـك ، ويستهوي محادثتك وعـشرتك لأنك تعـامله عـلى نحو مغـاير إنك
تخاف الله فعـلا ً لأنك تؤمن بالحقيقة .
ـ لكن عـقدته تحولت إلى الشعـور بالإذلال . كان قد إرتضى أنه نبات
الخطيئة ، غـير إنه بعـد ذلك داخله شعـور بإستحالة العـيش عـلى
نحو مـُذل .
ـ إنها حالة تحولت ألى عـقدة وجود مرضية وقاتلة .
ـ وأنت تعـرف أن الإقدام عـلى الموت إختيارا ً هكذا ، لابد من أن تتوفر له شجاعـة ذاتية .كنت أرى ميتات كثيرة من هذا النوع وبدوافع متباينة ، وكانت تبهرني فيها حالة الموت اختيارا ً، يعـني إشتداد التقاطع مع العـالم ، وتلبية لهذا التقاطع . هذا ما تحقق له عـلى الأقل ، أما أنت فأنك تمتلك المبررات وليس الضعـف . الكل أقدم عـلى الانتحار بطريقته .
ـ تقصد ماتوا في الحياة ..؟
ـ بلى .. إنه كذلك ، إذ ماذا تسمي المنفى ، إن لم يكن موتا ً آخــر ..؟
ـ إنه حالة من الضعـف في إستقبال الموت هكذا .
ـ كان ذلك مرتبطا ً بما هو راسب في داخل المرء .



ـ هنا وجدت أن مواقع الموت مرهونة بالإستقرار . خذ مثلا ً أي فرد من
أفراد أسرتكم فإنهم تعـرضوا إلى نفس الإشكالية ، سواء في عـلاقتهم
بالأب أو بالعـالم .
ـ هذا صحيح ، لكن ألأ ترى أننا عـلى تباين ..؟
ـ كان ذلك ، وأقصد بالمكون الفكري والأخلاقي عـندكم . فإيفان وديمتري
كانا عـلى جانب ، وسميراداكوف في جانب آخر . أما أنت فإن
نزوعـك الإيجابي حال دون الوقوع في فخ الخطيئة . بمعـنى أنك لم تستجب لخطيئة جـرّاء خطيئة أخرى . فعـلا ً حصل في الواقع ، حيث إنسلخ كل منا إلى ما كان يعـيشه ذاتيا ً ، عـلى الرغم من المناخ الأسري الواحد .
ـ إنها مصائر مفجعـة تلك التي نتعـرض لها ..!
ـ العـالم منذ الكينونة الأولى يتعـرض إلى الثنائية ، وهي الدمار
والانبعاث ، كأنها في صراع أزلي . فما وجدته في إسرتنا تجده عـلى نحو
آخر وبشكل أوسع في أخرى . أنك آت من بقعـة بعـيدة ، تدفعـك
أسباب كثيرة .
ـ كل منا يخضع لأسبابه ، لكن بتقديري أن الأسباب لا تدفع إلى التقهقر بقدر ما تحث عـلى البحث .ليس من أجل الإستقرار هذه المرة ، بل من أجل الوصول إلى شيء لا أستطيع تسميته لحد الآن .
ـ ما تقوله يعـني شيئا ً من محطات الإستقرار ، وإذا ما وزعـناه كما الحروف ،
فأنه سيكون الحرف الأول . وهكذا فالمرء بدون محطات ، تكون حياته آيلة للسقوط كما رأيت عـند بعض أفراد أسرتنـ وكما أرى أن ليس هناك ما ينم
عـن الانفراج .
ـ يبدو أن أسبابك كبيرة ومشتبكة ..!ـ هذا صحيح ، لأن التواصل هو ما دفعـني إلى البحث ، لغـرض التجدد والدخول في ما هو غــير محسوب ، وعـدم السقوط كي نجتاز وقع الأقدام للذوات اللاهثة . ـ الدخول في ما هو غـير محسوب هلاك ، لكن وكما ترى ؛ أن المحسوب يعـني الخضوع إلى الميول الذاتية ، وهذا محسوب وواضح .
ـ لا أقصد بغـير المحسوب الضياع في ما هو غـامض ، بل الخضوع إلى الشيء بإرادة وبدونها
ـ لكن ذلك يعـني الإستسلام .إلى المطب المهلك
ـ يبدو أن دوافعـك غـير دوافعـي .
ـ لا أعـني ذلك ، بل ربما الأسباب إختلفت .
ـ هذا ممكن ، فنحن قد خضعـنا لأسباب متباينة ، ولكن ألا تلاحظ أن مقاصدنا
متقاربة ..؟
ـ تعـني بذلك إهتمامتنا .
ـ ربما هي أو غـيرها .
ـ إنه شيء من الإستجابة إلى الفراغ الروحي الذي ربما لم تستطع المادة أن تسده .
ـ هذا ممكن ، ولكن من الممكن أن تكون صلاتنا متقاربة بمثل ما كانت وسائلنا .
ـ نتمنى ذلك .
إبتسم لما قلت ووسمت وجهه حمرة خفيفة ، إذ إنتبهنا إلى نفسينا ، ونحن تلتهمنا الأرصفة المشجرة . ولم نأبه بالإرتفاعـات والإنخفاضات التي تنتظم الطريق ، بل سورتنا الأحاديث ، وأخذتنا المسافات إلى البعـيد . توقف قائلا ً :
ـ ألا تلاحظ أننا تهنا سوية في الطريق ..؟
ـ لا أعـتقد ذلك ، فكل شيء واضح أمامنا ، كما هو خلفنا .
ـ أقصد تمادينا بعـيدا ً عـن كل ما كنا نقصده .
ـ هذا صحيح ، ولكن هي فرصة لإجتياز صحراء العـالم وقفاره .
ـ الطرق مفيدة لمثلنا ، غـير أني أقصد مكانا ً معـينا ً .
ـ وأنا لا قصة لي في هذه المدينة .
ـ أعـتقد أني إبتعـدت عـن طريقي ، لكني لم أتأخر .

ضحكنا سوية ، حيث قررنا العـودة عـلى نفس المقترب من الشارع ، ثم واصلنا السير . وبعـد زمن قصير كان مكبلا ً بالصمت ، إستدرك :
ـ أنا مضطر إلى وداعـك ، لأني سأنعـطف من هنا .. وأنت ..؟
ـ سأقصد وسط المدينة بحثا ً عـن مقهى يأويني ، قبل أ، يستلمني النفق كالعـادة .
صافحني بقوة ، شعـرت بحرارة كفه وقوة نظرته . راح يمعـن في وجهي وعـينيّ المضطربتين . رفع كفه الأخرى وربت بها عـلى كتفي قائلا ً :
ـ لا عـليك ستجد طريقك ، وربما سنلتقي صدفة كما حدث اليوم .
ـ سوف نعـود إلى المكتبة .
ـ هذا مؤكد .
ـ أرجوك زرها بإستمرار ، لي رغـبة في لقائك ثانية .
ـ سأحقق ذلك حتما ً ، لأني بحاجة للقائك أيضا ً .

إبتعـد عـني ، إذ حث قدميه عـلى أرض الشارع الطويل ، بردائه الكهنوتي الأسود ، وأنا واقف أتأمل سيره ، حتى تلاشى في نقطة صغـيرة . ومن يومها وأنا لم أفارق المكتبة المعـمداني بل كثفت الزيارة لها ، عـلـّي أفوز بلقائه مرة أخرى .

________________________
عـمان/ كربلاء .ت1/2000حزيران 2001

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى