منقول - جمعية زهرة الآداب

"زهرة الآداب" واحدة من الجمعيات الأدبية التي ظهرت في الربع الآخير من القرن التاسع شعر في سوريا، والتي لم تغب عن نظر أدب الاستعراب. ولكن – كقاعدة – لم يقترن ذكرها بالتفاصيل الدقيقة عن نشاطها، وبالتالي لم تحظ بالتقييم الموضوعي. ومن هنا ظلت الجمعية في جوهر الأمر لغزا من الألغاز وسرا مكنونا على أفهام المستعربين والدارسين. وبالفعل، فان أدبيات علم الاستعراب السوفيتي والأوربي والدراسات والأبحاث العربية التي لا تعد ولا تحصى تقدم لنا صورة مبتورة عن هذه الجمعية تتلخص في صفحتين لا أكثر: "زهرة الآداب" جمعية أدبية خالصة، وكانت وريثة "الجمعية العلمية السورية" في بيروت (1868-1873) واصلت نشاطها وأكسبته نوعية جديدة رفيعة المستوى. حصلت على رخصة من "الارادة السنية" للسلطات العثمانية ونشطت برعاية أسعد باشا متصرف بيروت في ذلك العهد. من المرجح أن سليم البستاني استلم رئاستها في تخوم سنتي 1872-1873. انتظم في سلكها أديب اسحاق سنة 1873 وأصبح رئيسها الفعلي، انخرط في عضويتها فريق من الأدباء ذوي الميول التحررية الراديكالية كانوا أعضاء سابقين في الجمعية العلمية السورية الملغاة. وفيما يتعلق بالأعضاء المراسلين وأعضاء الشرف فلم تصلنا لوائح بأسمائهم ولكن يمكن التنبؤ بذلك من خلال مراجعة قوائم الجمعية السورية. ومن الثابت أن جريدة "التقدم" التي استلم تحريرها أديب اسحاق اصبحت لسان حال الجمعية في نهاية عام 1874. وليست هناك أية معلومات دقيقة عن توقف أعمال الجمعية.

من اليسير جدا الاستنتاج أن الصورة المرسومة لجمعية "زهرة الآداب" لا تعدو كونها رسما بيانيا يليق بدائرة معارفة موجزة. وعلى كل حال، فالمعلومات المشار اليها كانت ولا تزال تتنتقل من كتاب لأخر رغم أنها لا تسمن ولا تغني من جوع – كما يقال. وأكثر من ذلك، فأمثال هذه المعطيات تثير المزيد من الالتباس والغموض في ظروف الارادة السنة التركية، التي تشكك في طبيعة ومهام كل من الجمعيات القائمة أنذاك. وقد وقع الكثيرون من الدارسين أسرى هذه المعطيات المتضاربة، فاضطروا الى تحاشي ذكرها. فها هو ذا مثلا المستشرق كوتلوف يتوانى عن ذكر "زهرة الآداب" في عداد الجمعيات التنويرية التي أثرت "تأثيرا محسوسا على تطور الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. ان في سورية أو في العالم العربي كله". وليس هذا وحسب، فهو لم يشر ايضا الى جريدة "التقدم" في سياق حديثه عن الصحف "الداعية الى الفكر الجديد الأكثر تقدمية". وأكثر من كل ذلك، فهو رغم تكراره للتقييم الرفيع والمحق الذي أورده ليفين عن أديب اسحاق بوصفه "الرائد الداعي الحقيقي الى نزعة القومية العربية" ، واتفاقه في الراي مع الكتاب العرب الذين أكدوا ان اسحاق كان أول رائد دعا "لاقامة دولة عربية" نقول رغم كل هذا وقع كوتلوف في تناقض حاد مع نفسه. فبعد تأكيده أن "اسحاق نفسه" .. اتخذ موقف المدافع عن النزعة العثمانية و"الوحدة الاسلامية"، أصر جازما على أن أديب اسحاق كغيره من الرواد العرب "ظل يدور في اطار العثمانية" وعلى أن مواقف الرواد العرب المؤيدة للاتحاد العثماني "لم تكن اضطرارية قسرية أبدا، ولا من قبل مراعاة أحوال الرقابة المشددة".

تبقى كلمة لابد منها، فكوتلوف ليس المستعرب الأول أو الوحيد بين الباحثين السوفييت الذين أهملوا كلية "جمعية زهرة الآداب" خلال حديثهم عن سلسلة الجمعيات والتنظيمات التنويرية التي تركت آثارا هامة في تاريخ الفكر السياسي – الاجتماعي العربي. فالأديبة دولينينا والمستشرق زلمان ليفين أشارا بوضوح الى حلقات هذه السلسلة: "الجمعية السورية لترويج العلوم والفنون" (1847) و"الجمعية العلمية السورية" (1857) و"المجتمع العلمي الشرقي" (1882). وفي حديثه عن أديب اسحاق يولد ليفين نوعا من الوهم وكأن اسحاق ألقى محاضرات في جمعية "زهرة الآداب المحية" (البيروتية – المؤلف) بمعنى أنه كان غريبا عن ذلك المناخ الثقافي فيقول: "وهنا تجلت مواهبة الفائقة كأديب اجتماعي وخطيب وكذلك تجلت شجاعته الفكرية".

وكريمسكي الذي أخذ بالحسبان تأكيدات جرجي زيدان بشأن القرابة والتماثل بين الجمعيتين السوريتين وهو ما لقى استحسانا وقبولا عند كراتشكوفسكي أيضا فطور وجهة النظر التالية من خلال أبحاثه الهادفة لحل الاشكال القائم في مسألة التأريخ لنشوء وتوقف الجمعيتين المذكورتين : كانت الحركة التنويرية في بيروت تصب في مجرى واحد، بمعنى أن جمعيتي 1847 و1868 وجمعية زهرة الآداب ليست سوى تسميات مختلفة لمسمى واحد، أو بالأخرى محطات متباينة لجمعية واحدة ، فكتب يقول: "أحدقت ظنون الأتراك بالجمعية السورية التي أعيد انشاؤها للمرة الثانية فتوقفت بعد عامين من النشاط المثمر"، ثم بعثت مجددا سنة 1873 كجمعية أدبية خالصة باسم "زهرة الآداب". وبتعبير آخر: استبدلت تسمية "الجمعية العلمية السورية" باسم "جمعية زهرة الآداب".

ولكن كاتب كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" المجهول يؤكد بكل وضوح أن جمعية زهرة الآداب لم تكن وريثة شرعية ومباشرة للجمعية العلمية السورية واستمرارا متواصلا لها، بل تولدت عن الانقسام الذي وقع داخلها، فجاءت جمعية جديدة في نوعيتها ذات أهداف تنويرية سامية وغايات اجتماعية بعيدة المدى، يقول الكتاب بالحرف الواحد:

"كانوا ينظرون الينا شزرا عندما كنا نجتمع في اطار الجمعية العلمية السورية ونتأمل في مسألة تثقيف وتنوير أنفسنا ورفع مستوى أبناء وطننا، ولم يكونوا يومئذ يسامحوننا، لأننا كنا نخفي استيائنا من الزاد الفكري المقدم لنا في المدارس التابعة للكنيسة (الكاثوليكية) وحسب، بل لأننا كنا – على حد مزاعمهم – نختلف الى أساتذة كفار – هراطقة (بروتستانت) ونغترب عن طائفتنا الكاثوليكية . بيد أن هاجسنا الأساسي تجلى في تطلعنا لاستيعاب العلوم والمعارف. وكانت السجلات الدينية والمذهبية خارجة عن دائرة اهتماماتنا، اذ كان في صفوفنا أناس من النصارى والمسلمين على اختلاف مللهم وأجناسهم من الموارنة والدروز والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والسريان والأرمن والبروتستانت. وحين توقفنا عن المشاركة في جلسات الجمعية العلمية السورية قررنا تأسيس جمعيتنا الجديدة (يقصد زهرة الآداب – المؤلف). لادراكنا حق الادراك أن معارفنا كانت كافية تماما لوقف حياتنا فداء لاستعادة كرامة وطننا سورية وعزته وبعث روح الحماسة الوطنية بين مواطنينا. وعندئذ لم يعودوا يعدوننا في عداء التائهين الساذجين، بل مارقين كفرة يستحقون الموت. وعدوا كل ارتباط بنا خطيئة منكرة لا تغتفر".

ويكشف كاتب الكراسة النقاب عن الحقيقة القائلة بأن اعضاء جمعية زهرة الآداب ابتعدوا عن بطرس البستاني بسبب الخلافات المبدئية بين الطرفين، وليس من المستبعد أنهم تخلوا عن رئيسهم سليم البستاني للأسباب ذاتها.

يقول الكاتب: "لقد اتهمونا بالفريسييين لادعائهم بأننا ألقمنا الحجر معلمنا (بطرس البستاني – المؤلف). لقد أجللنا واحترمنا معلمنا ونحن نكبره. ونطلب له الرحمة فقيدا، ولكننا – كما كنا في حياته والآن بعد وفاته – نجل الحقيقة أكثر من الجميع، لأنها تنبع من مبادئنا، ونحن لم تخف عنه قط أن الحقيقة والمبادئ تدفعنا للسير في دروب مختلفة. واذا كان بوصفه علامة بارزا قد حرم من رؤية حبته سنبلة حبلى، وغرسته شجرة يانعة، فاللوم يقع عليه وحده لأن الزهو أشره، وكما يقول المثل :اذا زل العالم زل بزلته عالم".

منذ عام 1876 حتى خريف 1882 عاش أديب اسحاق وعمل في مصر وفرنسة، وعاد للسكن في بيروت سنة واحدة (80/1881)و ومدامت جل المراجع المعروفة لا تقدم أية معلومات موثقة عن نشاط جمعية زهرة الآداب بعد فترة 1873-1876، فان يصح الافتراح أن الجمعية توقفت عن العمل بعيد ذهاب رئيسها أديب اسحاق الى مصر سنة 1876. بيد أن الكراسة الفرنسية وكذلك "تباشير الفجر ومسبة البشير" أكدتا أن الجمعية واصلت نشاطها ابان غياب اسحاق وأنها استمرت في الوجود بعد وفاته. ومن اللافت للنظر أن الكراسة العربية ركزت في ذات الوقت على المكانة الخاصة التي كان يتمتع بها أديب اسحاق حتى في غيابه: "وأديب معنا في غيابه أيضا، فعندما كان بعيدا عنا في الديار المصرية يكون حاضرا معنا عبر رسالته ومقالاته وبكل ما يذكرنا بما قال وفعل يوم كان بين ظهرانينا. واليوم بعد افتراقه عنا الى الأبد، يظل كالسابق حضورا كاملا بالنسبة لجمعيتنا. فعندما نبدأ بأي عمل نتساءل: ماذا كان يقول ويفعل أديب لو كان بيننا الآن؟ فهو أنى توجه – حتى في عواصم الافرنج الباردة. كان يحرق روحه ليمنحنا الدفء والحرارة والنور، فكان على صغر سنة نبراسا ينيرسراطنا بحكمة الكبار، ذلك السراط المستقيم الذي يؤدي بنا حتما الى الهدف المنشود الذي يصبو اليه هذا البلد وهذا الشعب".

ان كلا من الكراستين العربية والفرنسية رأتا من واجبهما التشديد على الطابع الأدبي والثقافي لجمعية زهرة الآداب، وهاذ ما يتساوق أولا مع اسم الجمعية، ويخلق ثانيا مظلة واقية لدفع التهم التي كان يوجهها خصوم الجمعية وأعداؤها. والكراسة الفرنسية النازعة قدر الامكان الى الايجاز والبلاغ تقول عن الجمعية: "انها جمعية أدبية صريحة .. هدفها الأساسي يتلخص في أنها حلقة وصل بين الشباب الذين يرومون الكمال ويصبون الى الجمال .. السياسة والدين لا صلة لهما بالجمعية. ينتسب الأعضاء من جميع الطوائف الى الجمعية، بصرف النظر عن انتمائهم السياسي أو الديني. ومن المتوخي أن يكون الأعضاء على قدر كاف من الثقافة الأصيلة، وان يكونوا من الأتقاياء الصالحين والناس المتسامحين ومحبي الصداقة وذوي الأخلاق الحسنة. ولذا فان جميع الآراء والمعتقدات يتعايش بعضها مع بعض داخل جمعيتنا. وقد يحدث بينها تضارب وتنافر ولكن ذلك لا يؤدي أبدا الى القطيعة والخصام. فلا وجود بيننا لأية مجادلات دينية لاهوتية، فالايمان في صدورنا والأديان في قلبونها. وكل من يتخذ من الدين برقعا للتحكم وذريعة لفرض السيطرة، وكل من يرغب في أن تكون الكنيسة في كل زاوية من الزوايا، وأن يكون اللاهوت محورا للنقاش والجدل، فهؤلاء لا يدركون ويستوعبون أن بمقدور الانسان أن يدع جانبا يقينياته ومعتقداته في سلام وأمان. وهم عاجزون كل العجز عن فهم الرابطة الإنسانية والالتقاء على أرضية الحياد المتمثلة في الأدب والعلم والأخلاقية. أجل، فليعلم الحاقدون الحاسدون أن جمعيتنا تضم في صفوف الأحرار والأخيار، والمؤمنين الأبرار الذين يتعايشون في جو من الوئام والانسجام رغم تعدد الآراء والأفكار.

اذا كانت الكراسة الفرنسية الموجهة أساسا الى الأوروبيين، ولاسيما الى الدوائر الدبلوماسية في بيروت، واذا كانت الكراسة العربية "تباشير الفجر ومسبة البشير" بأسلوبها العربي البليغ وحجتها الدافعة موجهة الى علية القوم من أبناء العرب والحكام والموظفين الأتراك العارفين بلغة الضاد – اذا كانتا كلتاهما تؤكدان بكل جدية واصرار الهوية الأدبية المطلقة للجمعية وتركزان على عدم اهتمامها بالشؤون السياسية والدينية، فان كراسة "بشر البشير وجمعية التبشير" تتخذ وجهة مغايرة تماما. فالكاتب مجهول الهوية يبدي مزيدا من الجزم والعزم فينطق باسم "جمعية زهرة الآداب" ويتحدث باسهام ولغة شاعرية عن مذهب أدبي نقرأ ما بين سطوره مضمونا اجتماعيا وسياسيا: "أدبنا في باديتنا وخيمتنا، في نبعنا وتمرنا، في نوقنا ووطبنا، في خيولنا وسيوفنا التي ستعيد لنا عزة بلادنا وأمجادنا كما كانت عليه قبل المسيح وبعد هجرة النبي محمد، ستعيد لنا الخلافة وكل ما بقي في أيدي أولئك (يقصد الأتراك – المؤلف) الذين يذلون أبناء العرب، أولئك الذين أعماهم بريق الذهب فشرعوا في اجلال واكبار المبشرين (اليسوعيين). لن يفهمنا لا وجهاء الجمعية التبشيرية، ولا أسيادهم وزعماؤهم (يقصد الأوروبيين – المؤلف) الذين يطمعون في السيطرة علينا. ولن يفهمنا أيضا أولئك الأسياد (يقصد الأتراك) الذين يدعون أنهم اخوة لنا في الايمان مع أبناء العرب (المسلمين) لكنهم في الحقيقة يتحكمون برقابنا وأرواحنا. لن يفهمنا سوى أبناء العرب الأقحاح المنتشرون من هذا البحر الى ذك وذلك. ونحن نتذاكر الأدب لهم (العرب – المؤلف) كي نحدد موعد ومكان فورتنا لاستعادة أمجاد أجدادنا وآبائنا وانتصاراتهم الغابرة الظافرة".

ورغم أن الكراريس الثلاث لا تشير الى أديب اسحاق كرئيس للجمعية لكنها تصفه بالركن الأساسي للجمعية وأعظم وأجل واحد من أبناء سورية الأبرار، فكاتب الكراسة الفرنسية مثلا، نظم تقريظا مؤثرا ومرهفا لأديب جاء فيه: "انه الصديق الصدوق ذو القلب الدافئ والطلعة البهية، والروح الفياضة السخية". أما كاتب "بشير البشير .. " فكان أكثر بلاغة وأنصع بيانا في تأبينه لأديب، اذ قال: "الأرز ينوح في لبنان لأنه فقد أعظم أرزة فيه وهو أديب .. وعلى الرغم من كونه أرمني الأصل، فأنه بز أبناء هذه البلاد في صناعة البيان، ولا غرو من ذلك، فأبناء الملل والأقوام والأجناس المختلفة يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل أمجاد سورية والعرب. ومن غير أديب يرفع عقيرته مناديا: أنا ابن هذه البلاد فجميع أبنائها أخوة لي، وقد بذلت الغالي والرخيص في سبيل عزتها وفخارها .. وأديب لا يزال بعد وفاته يخدم هذه البلاد، ويخدمنا نحن أبناء هذه البلاد لا يزال أستاذنا يلمنا: أبناء هذه البلاد تمزقهم الكنيسة شر ممزق على يد الكهنوت الأعمى المتعصب جهلا ونفاقا... يجب أن نتحد سويا لا على أرضية المنشأ والمذهب، وان نسير معا للوصول الى أهدافنا السامية، وأن نعمل كتفا لكتف حتى تستعد هذه البلاد عزتها وكرامتها". وفي موضع آخر من الكراسة يكيل الكاتب الصاع صاعين للكنيسة الكاثوليكية التي حاولت تسويد سمعة أديب اسحاق في أعين الجماهير الشعبية، فيقول: "كلا وألف كلا، فأديب لم يكن يوما جاحدا للدين والايمان، كما تحاول الكنيسة تصويره، فكل ما هو خير وقيم في الدين المسيحي يجري مجرى الدم في عروقه، كما يجري فيها كل ما هو ايجابي في الاسلام والاديان الأخرى، ومذاهب جميع الفلاسفة والحكماء الشرقيين والغربيين على حد سواء، حقا انه ليس عدوا للدين وتعاليمه السمحة، ولكنه ألد عدو للفئات العليا من رجال الدين الذين يستغلون الدين خدمة لمآربهم وأطماعهم، ويوظفونه أداة طيعة لتكريس فساد أخلاقهم ومعاملاتهم واللاإنسانية وجهلهم المطبق، أولئك الذين اتخذوا من الكهان العاديين البسطاء بيادق يحركونها أني ومتى شاؤوا". وفيما يخص مكانة أديب اسحاق في جمعية زهرة الآداب وفي أوساط المفكرين والمثقفين العرب، فان كاتب الأهجية يطعن مرة أخرى "وعاظ الحقد والكراهية" ثم يواصل كلامه قائلا: "لقد أدرك الوعاظ جيدا أنى يصوبون سهامهم: ألى أديب طبعا لأنه عقلنا ولساننا، قلبنا ويدنا، لا بل هو قبضتنا التي بها نضرب الضربة القاضية. إلى أديب الذي يسمو بعقله على حكمة الشيوخ ، معلم أبناء جيله وأقرانه وأترابه، وهو المثل الأعلى للكمال بالنسبة للجيل الناسئ من أبناء العرب الذين سيصبحون آلافا مؤلفة، فيما كان هو قبيل وفاته، الوحيد والفريد والاستثناء، اجل كان وحيد عصره ونسيج وحده".

وكاتب "تباشير الفجر ومسبة التبشير" قدر أديب اسحاق تقديرا عاليا بأسلوبه البلاغي الرفيع وبيانه الساحر البديع بقوله: "كانت السعادة والغبطة تملآن قلوب السامعين والعاشقين له، وكان الذعر والهلع يطوح بأفئدة الأشرار الحاقدين. لا أحد منا قرأ وطالع واستوعب مضامين الكتب كما فعل أديب. وما من كاتب في شتى أبواب العلوم والفنون الا طالعه وخبره وحفظه وعرفه معرفة دقيقة، كما كان عارفا لكل ما كتبه ببراعة، كانت حكمة الماضي تفيض منه فيضا الهاميا اشراقيا، فكان كالنبي يكشف ستر المحجوب، ويهتك أسرار السرائر. عندما كان يتكلم عن المستقبل كان كلامه يندفع اندفاع الماء من النبع، ثم يصير اعصارا هادرا يعصف بقلوب الجائرين المستبدين، ويتحول الى ضياء الفجر لينفير الأرواح العذبة اليائسة فيملؤها حياة وحيوية، لقد عرج الآن الى السماء وغاب وراء الأفق كي يبزغ كالشمس التي تهبنا النور والحرارة الى أن تأزف الساعة".

ولم يكن كاتب الكراسة الفرنسية أقل سخاء في اغداق الأوصاف الحميدة والشمائل الاصيلة على أديب أسحاق، ولكنه ينبري للدفاع عنه ضد اليسوعيين فيقول:

"ما هو الاتهام الذي توجهونه لأديبنا العزيز؟ لعل أول جرم قام به – في نظركم – أنه كان أعظم الأعضاء نشاطا وهمة، وحماسة واندفاعا داخل جمعية زهرة الآداب؟... كيف لا. وأنا الآن أذكر كيف كان خيطبنا المصقع يشدنا الى شفاهه بسحر بيانه وفصاحته لساعات طوال. كانت نبراته المتماسكة المدوية، وبلاغته الرائعة تدهشنا وتسحرنا. وعندما كان يتوجه بكلماته الأخيرة الساحرة كان تصفيق الرفاق ينصب بردا وسلاما على رؤوسنا ، فكيف تريدون منا ألا نعجب وندهش بهذا الانسان العظيم؟ " ثم يتابع كلامه معبرا عن كنونات فؤاده وعواطفه الجياشة فيقول مختتما حديثه "أديب مجد وفخار جمعيتنا".

لقد أظهرت الكراريس الثلاث حقيقة هامة جدا بالنسبة لعلم الاستعراب وهي: أن جمعية زهرة الآداب كانت تواجه اتهامات صريحة من قبل خصومها وأعدائها بشأن سريتها واتجاهها المعادي للأتراك.

والبراهين القاطعة على اتهامات الرجعية المتعلقة بسرية الجمعية تتجلى بوضوح في "تباشير الفجر ومسبة البشير" وفي الكراسة الفرنسية. وقد جاء في الكراسة الأولى ما يلي: "وهل بقي بلد واحد في أوروبة لم تحك فيه الجمعيات التبشيرية (اليسوعية – المؤلف) سلسلة من المؤامرات والدسائس. ولم ترم بخصومها من المناضلين البواسل في غياهب السجون وأقبية وزنزانات الأديرة أو لم توجه الاتهامات المزورة والشايات الكاذبة خدمة لمآرب أسيادها من حكام هذا البلد أو ذاك؟ وها هي ذي هذه الجمعيات تختار اليوم من الشرق ميدانا لدسائسها الخسيسة، وضد من؟ ضد جمعية زهرة الآداب التنويرية التي أخذت على عاتقها تنوير أذهان وعقول الناس ، وتزكية النفوس، وتصفية القلوب. انها جمعية مرخصة تعمل في وضح النهار، يحاول الدعاة والوشاة تصويرها بأنها جماعة من الناس يعملون في السر والخفاء وتحت جنح الليل والظلام في الأقبية والملاجئ السرية. اذ تعد العدة للاطاحة بالسلطات القائمة. وهم يدركون جيدا أن أرباب الحكم على بينة من حقيقة الأمر، ولكنهم يمنون أنفسهم بأن ترديد الأكاذيب مئات المرات لابد أن تجد آذانا مصغية ولو مرة واحدة. ولكنهم ينسون أو يتناسون المثل القائل: "الكذب داء والصدق شفاء"، وهل يا ترى كذبهم يليق باسم جمعية تحمل اسم يسوع عليه السلام؟ أن أنه صنيع شنيع لأتباع يهوذا الأشرار؟ وللقارئ أن يحكم بنفسه".

أما كاتب الكراسة الفرنسية فيعرض ملاحظات عامة عن الماسونية، ثم يوجه كلامه الى اليسوعيين قائلا: "لقد وجهتم الى الماسونية ذات التهم التي توجهونها اليوم الى جمعيتنا. فزعمتم أنها جمعية سرية وأنها بؤرة المروق والالحاد والثورة.. فنحن – لا قدر الله – لسنا جمعية سرية، ولكنا لا نرغب في حب الظهور داخل جمعية زهرة الآداب، ونحن والحق يقال نحب الحياة العائلية الشريفة، ونتحاشى استغلال خشبة المسرح والمدرج لأن اثارة الضجيج ليس في صلب أهدافنا، وكل ما نطلبه من جمعيتنا أن تسعى لاستبدال المتعة النفسية بمعاناتها الروحية، وأوقات الراحة الممتعة المفيدة بمتاعب العمل . ونحن لا نحب ذر الرماد في عيون الناس، ولا نركض وراء شعبية زائفة. ونحن البرجوازيين أناس أتقياء نرتئي العيش في أحضان الأسرة مرتاحين مطمئني البال، اذ لا قدرة لنا على التصرف بغير هذا. فنحن جماعة من الأصدقاء يعرفون بعضهم بعضا حق المعرفة. نجمع اشتراكا يسيرا من مواردنا كلا نكفل وجود جمعيتنا واستمراريتها. ويلمح الكاتب الى التهم الموجهة الى زهرة الآداب بشأن نشاطها السري.

والكراريس الثلاثة تتصرف بالنقد المتوقد والرسالة والجدية البالغتتين، مما يجعلها أكثر اثارة من وجهة نظر الرد على الاتهامات الموجهة الى أنصار وأتباع أديب اسحاق بشأن عدائهم للدولة العثمانية. خاصة أن التساؤلات المطروحة والأجوبة المطروقة فيها تتباين بين كاتب وآخر.

فكاتب الكراسة الفرنسية يواصل أسلوب الجدل المباشر مع اليسوعيين في شتى القضايا: "لقد اتهمتمونا والماسونيين معا بجريمة التآمر على حكومة بلادنا الشرعية، فهل فكرتم يا ترى في النتائج والعواقب التي قد تترتب على أمثال هذا الافتراء الدنئ الخسيس؟!". وحاول كاتب "تباشير الفجر..." ألا يغور في أعماق هذه التساؤلات السمجة وعدم التوسع في الرد عليها: "أولئك الناس يدعون أنهم مبشرو السيد المسيح ، فأطلقوا على جمعيتهم اسم يسوع الفادي الذي جاء من أجل خلاص البشر، فكيف نفسر اذا رغبتهم الجامحة في رؤية فريق كامل من الأعضاء المسيحيين في جمعية زهرة الآداب معلقين على أعواد المشانق، لا لسبب اللهم الا لأنهم – كما يزعمون – تآمروا على حياة رجال الدولة وضد استتباب الحكومة"؟ أما كاتب "بشر البشير" فهو كما عهدناه أكثر اقداما وجرأة في هذا الموضوع وغيره: "للدولة قوانين وبامكانها أن تعاقب الرعايا المتمردين حقا بموجب هذه القوانين. ولكن لب المشكلة كامن في تحديد ماهية التمرد والمتمرد والثائر. وخدمة هذه البلاد واجب مقدس بالنسبة لجمعية زهرة الآداب، فاذا عددتم هذا تمردا فان الصعود الى المشنقة واجب علينا أيضا. ألم ياصل رائدنا أديب اسحاق خدماته الجليلة لهذا البلاد طوال حياته التي قدمها فداء لشعبه؟ ألم يكن يفضل المشنقة عما فعلوه بعد مماته؟... ولعل من سوء حظ المتمردين الذين صعدوا الى المشانق أنهم حرموا من امكانية مشاهدة دموع التماسيح التي يذرفها عليهم أولئك الوشاة الذين أسلموهم الى الجلاد، فذهبوا الى أوربة يتباكون على مصير أخيهم وكل الاخوة المسيحيين كما شاهدنا مرارا وتكرارا إبان حوداث اليونان وسورية المأسوية المفجعة".

لقد قدم لنا كاتب "بشير البشير" أكثر من برهان على ثوريته الأصيلة، ولاسيما على صعيد كشف نوايا ومأرب الدول الأوربية ازاء الدولة العثمانية، والتي جاءت بمثابة حقائق جديدة ومثيرة للغاية: "ترى هل سيحاكمون أبناء هذه البلاد كمتمردين، لأنهم قاتلوا وسيقاتلون ضد أولئك الناس الذين تغلغلوا الى بلادنا كأصدقاء مميزين للحكومة العثمانية؟ ولكنهم يضمرون لنا الحقد والعداوة، ويسعون للقضاء علينا، أناس يظهرون بمظهر جمعية تبشيرية (يسوعية) يرعاها ممثلو الدول الكبرى. أجل، انهم يناضلون ضد كل من لا يحترم بلادنا ولا يجل شعبنا، ولا يقدر لغتنا وتاريخنا، ولا يعترف بعزتنا وكرامتنا. وهذا ينصرف مع بقية الشعوب الأخرى كاليونان والأرمن وهلمجرا. نحن لن ننسى أبدا ما علمنا اياه أديب العظيم: "هل بامكان انسان يذلك ويستعبد الشعوب الأخرى أن يفتخر بأنه ابن بار لشعبه" واذن، فالأفضل لنا أن نستيقظ من سباتنا ونحمل سيوفنا فنموت ثوارا على أن ننام والأغلال في أيدينا، ونعيش كالنعاج أذلاء خانعين".

وللعلم نقول: ان كاتب "بشير البشير وجمعية التبشير" قد جمع في السطور الأخيرة بين أبيات من الشعر لأديب اسحاق وابراهيم اليازجي، استقاها من قضائدهما المشبعة بروح التمرد والثورة، والتي جرت على ألسنة الناس مجرى الأمثال. وهنا نرى الزاما علينا التطرق إلى مسألة العلاقة بين جمعية زهرة الآداب والجمعية السرية البيروتية المعادية للأتراك. وأكثر من ذلك فاننا نميل الى طرح فرضية الرابطة العضوية بين الجمعيتين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى