لم أعد أدخل بالسيارة إلى الساحة الرملية . أقف على ناصية الشارع الضيق . أخترق الظلمة . أسير على قدمى . أخلف البيوت القصيرة المتلاصقة ، والساحة الرملية . أتعجل صدى الطرقات على باب بيت الريامى فى حضن الجبل .
ينفتح الباب ، فيغمرنى الضوء . أعاود التأكد من إغلاق الباب وأنا أمضى ـ وراء سالم الريامى ـ إلى داخل الشقة . تأخذنا المناقشات ، نشرق ونغرب . يظل فى بالى ما رواه لى عن الأشباح التى تتحرك من مراقدها ، وتسير فى الظلمة ..
كنت أحب الجلوس ، والتجول ، فى البيت ذى الحجرات الثلاث ، تذكرنى بسوق نور الظلام فى مطرح : الجدران المزينة بالسيوف والخناجر ومشغولات الفضة والسجاجيد الصغيرة والمسابح وزجاجات العطر والأوعية الخزفية الملونة وأوعية البخور والخرائط وصور القلاع والأبراج والحصون ..
قال :
ـ أحب التاريخ وما يتصل به .
حين علا صوت سالم الريامى يحذرنى من العودة بالسيارة : ـ وراءك مقبرة ، تلفت ـ بتلقائية ـ من نافذة السيارة . الظلمة المتكاثفة لم تتح لى رؤية أى شىء ..
شعرت بتململ الأرض تحت السيارة . كأن الأرض تضطرب ، كأنها تتهاوى من تحتى ، تبتلعنى . ثم سكنت . حدست أنه قد تحرك تحتها ما لم أتبينه .
كيف لم أفطن ـ من قبل ـ إلى وجود هذه المقبرة ؟
وجدت فى سالم الريامى ونساً وميلاً لمشاركتى كلام السياسة . نناقش ما نستمع إليه فى الراديو ، أو نقرأه فى الصحف . لا تستوقفنا قضية بالذات ، ما نلتقط خيطه نكره حتى يلتقى بخيط آخر ، أو يتشابك معه . ربما امتدت أحاديثنا ، نتكلم فى أحوال الجو ، وأسعار العملات ، ومباريات المصارعة الحرة التى يقدمها التليفزيون مساء كل جمعة .
أتهيأ ـ بالتعب ، أو بتقدم الليل ـ للانصراف . المشوار طويل من الحمرية إلى سمائل ، حيث أقيم .
قلت :
ـ لماذا هنا ؟ ألا توجد مدافن ؟
ـ كنا نحرص على أن يدفن الموتى بالقرب من أسرهم !
كان سالم الريامى مدرساً فى المعهد الدينى بالوطية . تتناثر فى كلماته أسماء النبهانى والفراهيدى وصحار وجبرين ونزوى وبهلا وسمائل ومناطق أخرى تنتسب إلى التاريخ العمانى . يستعيد حكايات فى التاريخ ، يعرفها ، ولا أعرفها ، بالشخصيات والأحداث والتفاصيل التى ربما أهملها المؤرخون ، أو لم تستوقفهم طويلاً .
يسحب كتباً من المكتبة الخشبية لصق الجدار ، وسط الحجرة ، ومن الكتب المكدسة فى زوايا الحجرة ، من الأرض إلى السقف . يقرأ أحداث أيام البرتغال ، ومقاومة العمانيين ، والقتلى الذين دفنوا فى مواضع موتهم . اقتحم جنود البرتغال بوابات المدينة : الباب الكبير ، الباب الصغير ، باب المثاعيب . امتد القتال إلى مطرح وروى والوادى الكبير والوالجة والحمرية ، حتى المدن البعيدة عن مسقط . دافع العمانيون من شارع إلى شارع ، ومن بيت إلى بيت . قاتلوا بالسيوف والبنادق والبلط ، بكل ما وصلت إليه أيديهم من سلاح . استعادوا ما استولى عليه البرتغاليون من أراض وحصون قلاع . ما استخدمه الجيش البرتغالى من أسلحة متقدمة ـ حينذاك ـ أتاح له أن يقتل الآلاف من العمانيين ، ويستولى ـ ثانية ـ على ما استرده المقاتلون العمانيون . توالت الأشهر والسنوات ، وهم يحاربون ، ويموتون ، دون أن يلقوا السلاح ، أو يعترفوا بالهزيمة . من يموت ، يدفن حيث هو بثيابه وسلاحه . مئات ، وربما آلاف ، القتلى ، دفنوا فى الساحة الترابية الواسعة . نقل لى رواية أبيه : قد يحزن الأسلاف ما يواجهه ـ فى دنياهم ـ الأبناء والأحفاد ، يخرجون لمناصرتهم حتى يقضوا على ما يعانون .
***
هل كان ما رواه سالم الريامى دافعاً لما حدث ؟
رأيت ـ وأنا أطل من نافذة السيارة ـ أشخاصاً يتحركون بين القبور الحجرية المتناثرة أعلى الجبل .
أنا لا أومن بالأشباح ، ولا رؤية الأطياف والخيالات فى الليل .
أرجعت ما رأيت لأنه حدثنى عن أطياف الموتى ، تغادر قبورها فى الليل ، تطل على الأحياء ، وتعنى بأحوالهم . يربط بين ما يراه ، وما ترويه الحكايات القديمة . تداخله سكينة ، تشوبها لحظات من التوتر . توالى الوقائع والتصرفات ، دون أن تسفر عما يؤذى .
حيرته ـ فى البداية ـ ظواهر لا تفسير لها : اصطفاق أبواب ، تحرك أثاث من موضعه ، إضاءة الأنوار وإطفائها ، تعالى صيحات أو نداءات من مواضع لا يتبينها . لم يستتبع أية ظاهرة ضرر مادى من أى نوع . أهمل ما يراه ، أو يستمع إليه . ألف التعامل مع الأطياف . لاحظ أنها تختفى من الحجرة التى ينيرها ، أو التى يستضيف فيها من يسامره . هو ينير البيت أن احتاج إلى الراحة ، أو إذا تهيأ للنوم فى الليل . وإن صحا على الخوف من تحطم الأثاث ، الأصوات العالية ، المختلطة والمتشابكة ، تشى بحدوث شىء ما .
ظلت تطالعه ـ فى الظلمة ـ كائنات غير واضحة ، وتترامى ـ من مواضع لا يتبينها ـ أصوات لم يسبق له سماعها .
الأيدى التى لا يراها ، تنقل الأثاث من موضعه ، تأخذه إلى غير أماكنها فى حجرات البيت ، أو إلى الشرفة المطلة على الساحة الترابية ..
لاحظ ـ ذات صباح ـ أن ضلفة دولاب الملابس مفتوحة . راجع ما بها ، فوجد كل شىء على حاله . تفقد ـ حين أتى الليل ـ داخل دولاب حجرة النوم ، وتحت السرير ، وخلف الأبواب ، وفى الطرقة المفضية إلى المطبخ والحمام .
أغلق ـ بإحكام ـ باب حجرة النوم . ترك النور مضاء إلى الصباح . تحوط لانقطاع التيار الكهربائى ، بوضع شمعة وكبريت على الكومودينو المجاور للسرير .
لم تعد تشغله ـ بتوالى الأيام ـ فكرة أن بشراً آخرين ـ يعرف أنهم موتى ـ أو كائنات لم يستطع تمييزها فى الظلمة ، يشاركونه الإقامة فى البيت . أدرك أنهم لا يقصدونه بالشر ..
اعتاد اختفاء كتب من المكتبة الصغيرة ، أو من رصات الكتب ، وإعادتها إلى مواضعها . لا فوضى . يدرك اختفاء الكتب فى بحثه عنها ، فى المواضع التى يعرفها . يجول بنظره فى يوم تال . يجدها حيث كانت قد اختفت . تعلو أصوات سعال فى داخل البيت ، ومن الساحة الخلفية ، ومن ناحية المقابر . يترامى ـ كالهسيس ـ صوت الراديو . إغلاقه له فى يوم كامل ينبهه إلى أن الراديو فتح فى أثناء الليل . ثمة من حرصوا على سماع ما يشغلهم متابعته ، ثم نسوا الراديو مفتوحاً ، أو أنه صحا فانصرفوا قبل أن يغلقوه . تتقابل الكراسى ، أو تصنع دائرة ، فى الشرفة المطلة على الساحة الترابية الصغيرة فى وضع المناقشة ، كأنه قد جلس عليها من أمضوا الليل فى الحديث ، أو فى القراءة . يصحو على صوت ارتطام فى حجرة نومه ، أو فى الحجرة المجاورة . كل شىء على حاله . يثق أن الأطياف لا تقدم على فعل الأذى . ذلك ما تقدر عليه فى نومه ، هى تبحث عن شىء معين ، وتعيده . يفز لرؤية الملاءة تغطيه ، بعد أن نحاها أول نومه لحرارة الجو . بعد لحظات استعادة نفسه ، يدرك أنه لا يوجد ما يخيف .
لم يعد يشغله صوت الأبواب وهى تفتح أو تغلق ، أو خرير الماء فى المطبخ ، أو هدير سيفون الحمام بما يعنى استخدامه .
ربما وجد نور الحجرة المطلة على الواجهة مضاء . يطمئن إلى أنه أطفأ نور البيت . عدا لمبة صغيرة فى الطرقة الموصلة بين الحمام والمطبخ وبين بقية حجرات البيت . يثق العمانى ـ فى تصميم البيت ـ أن دورات المياه ملاذ للجان والعفاريت . يحرص أن يفصلها عن البيت . يضىء ما حولها ، فلا تتسلل المخلوقات النارية إلى بقية البيت . تحولت الأطياف إلى جزء من مألوف يومه ، يتحركون فى البيت منذ العشاء إلى ما بعد الفجر .
***
هل كان ما يسمعه سالم الريامى فى الليل حقيقة ؟
أمضيت زمناً لا أتردد على بيت الريامى . أستعيد ـ فى تكرار دعوته ـ أطياف الأسلاف ، وما رأيته بالفعل ..
عدت بابتعاد الوقت ..
تسلل إلى أنفى ما تصورته رائحة الموت ، ربما لأنى عرفت طبيعة الساحة التى أقف على حافتها .
حاول أن يطمئننى بوقفته المتابعة ، داخل الشرفة المطلة على الشارع الترابى ، والساحة ، والجبل .
عانيت الارتباك ـ ولعله الخوف ـ وأنا أعود بالسيارة إلى جانب الساحة ، حتى لا أسد الشارع الضيق . تجاهلت الخشخشة فى أسفل ، وإن حدست أنها لا تصدر عن أوراق شجر فى خلو المكان من الأشجار ..
علت الخشخشة ، وما يشبه تساقط الأحجار فى الساحة الترابية أسفل الجبل . توالى انبثاق أطياف لا نهاية لعددها ، كأنهم قاموا فى حركة واحدة ، ملأوا الساحة ، عرايا ، أو لفوا أجسادهم بأردية عسكرية متهرئة . فى أيديهم بنادق قديمة وسيوف ودروع . لعلهم أوسدوها القبور إلى جوارهم . تكاثروا فى الساحة حتى امتلأت بهم تماماً . رءوس معلقة فى الهواء ، وأعين مسملة ، وأجساد بلا رءوس ، أو تمشى على قدم واحدة ، وأكتاف مبتورة الأذرع . يتجهون بأنظارهم إلى الأمام ، لا يلتفتون ، ويحيط بهم الصمت . كأن الأجساد المتقاربة ، والمتلاصقة ، أشجار فى مساحات لا نهاية لها .
تملكنى الذهول لدقات طبول ـ لم أدرك مصدرها ـ ترامت من بعيد . انطلق الرصاص من بندقية طيف ، تبعها انطلاق الرصاص من بنادق الأطياف المتلاصقة .
توالى إطلاق الرصاص ، فغطى الساحة وما حولها . علت دقات الطبول ، كأنها تريد نهايات المدى ..
تراقص الأطياف بالبنادق والسيوف والعصى . أفسحوا وسط الساحة لطيف ، تدلى من صدره دف هائل ، توالى ارتفاع طرقاته عليه باشتداد حركات الراقصين ..
بدا كأن الأطياف تتخذ تكوينات وتشكيلات ، ثم بدا كأنها تتحرك . تحركت إلى خارج الساحة ، غطت الشارع الضيق ، والبنايات على الجانبين ، وأسفل الجبل .
تركت السيارة وعدوت ناحية بيت الريامى ..
من وقفتى إلى جانبه فى النافذة المواربة ، شاهدت الأطياف تتجه ناحية الشارع الرئيس والشوارع الفرعية ، تتحرك فى خطوات بطيئة ، صامتة ، صفوف طويلة ، تمتد إلى غير نهاية .
ظلت مساحة الأطياف تتسع ، وتتسع . ترافقها أصوات خشخشة وتكسير وهمهمات تشى بالتهيؤ لفعل ما .
* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل
ينفتح الباب ، فيغمرنى الضوء . أعاود التأكد من إغلاق الباب وأنا أمضى ـ وراء سالم الريامى ـ إلى داخل الشقة . تأخذنا المناقشات ، نشرق ونغرب . يظل فى بالى ما رواه لى عن الأشباح التى تتحرك من مراقدها ، وتسير فى الظلمة ..
كنت أحب الجلوس ، والتجول ، فى البيت ذى الحجرات الثلاث ، تذكرنى بسوق نور الظلام فى مطرح : الجدران المزينة بالسيوف والخناجر ومشغولات الفضة والسجاجيد الصغيرة والمسابح وزجاجات العطر والأوعية الخزفية الملونة وأوعية البخور والخرائط وصور القلاع والأبراج والحصون ..
قال :
ـ أحب التاريخ وما يتصل به .
حين علا صوت سالم الريامى يحذرنى من العودة بالسيارة : ـ وراءك مقبرة ، تلفت ـ بتلقائية ـ من نافذة السيارة . الظلمة المتكاثفة لم تتح لى رؤية أى شىء ..
شعرت بتململ الأرض تحت السيارة . كأن الأرض تضطرب ، كأنها تتهاوى من تحتى ، تبتلعنى . ثم سكنت . حدست أنه قد تحرك تحتها ما لم أتبينه .
كيف لم أفطن ـ من قبل ـ إلى وجود هذه المقبرة ؟
وجدت فى سالم الريامى ونساً وميلاً لمشاركتى كلام السياسة . نناقش ما نستمع إليه فى الراديو ، أو نقرأه فى الصحف . لا تستوقفنا قضية بالذات ، ما نلتقط خيطه نكره حتى يلتقى بخيط آخر ، أو يتشابك معه . ربما امتدت أحاديثنا ، نتكلم فى أحوال الجو ، وأسعار العملات ، ومباريات المصارعة الحرة التى يقدمها التليفزيون مساء كل جمعة .
أتهيأ ـ بالتعب ، أو بتقدم الليل ـ للانصراف . المشوار طويل من الحمرية إلى سمائل ، حيث أقيم .
قلت :
ـ لماذا هنا ؟ ألا توجد مدافن ؟
ـ كنا نحرص على أن يدفن الموتى بالقرب من أسرهم !
كان سالم الريامى مدرساً فى المعهد الدينى بالوطية . تتناثر فى كلماته أسماء النبهانى والفراهيدى وصحار وجبرين ونزوى وبهلا وسمائل ومناطق أخرى تنتسب إلى التاريخ العمانى . يستعيد حكايات فى التاريخ ، يعرفها ، ولا أعرفها ، بالشخصيات والأحداث والتفاصيل التى ربما أهملها المؤرخون ، أو لم تستوقفهم طويلاً .
يسحب كتباً من المكتبة الخشبية لصق الجدار ، وسط الحجرة ، ومن الكتب المكدسة فى زوايا الحجرة ، من الأرض إلى السقف . يقرأ أحداث أيام البرتغال ، ومقاومة العمانيين ، والقتلى الذين دفنوا فى مواضع موتهم . اقتحم جنود البرتغال بوابات المدينة : الباب الكبير ، الباب الصغير ، باب المثاعيب . امتد القتال إلى مطرح وروى والوادى الكبير والوالجة والحمرية ، حتى المدن البعيدة عن مسقط . دافع العمانيون من شارع إلى شارع ، ومن بيت إلى بيت . قاتلوا بالسيوف والبنادق والبلط ، بكل ما وصلت إليه أيديهم من سلاح . استعادوا ما استولى عليه البرتغاليون من أراض وحصون قلاع . ما استخدمه الجيش البرتغالى من أسلحة متقدمة ـ حينذاك ـ أتاح له أن يقتل الآلاف من العمانيين ، ويستولى ـ ثانية ـ على ما استرده المقاتلون العمانيون . توالت الأشهر والسنوات ، وهم يحاربون ، ويموتون ، دون أن يلقوا السلاح ، أو يعترفوا بالهزيمة . من يموت ، يدفن حيث هو بثيابه وسلاحه . مئات ، وربما آلاف ، القتلى ، دفنوا فى الساحة الترابية الواسعة . نقل لى رواية أبيه : قد يحزن الأسلاف ما يواجهه ـ فى دنياهم ـ الأبناء والأحفاد ، يخرجون لمناصرتهم حتى يقضوا على ما يعانون .
***
هل كان ما رواه سالم الريامى دافعاً لما حدث ؟
رأيت ـ وأنا أطل من نافذة السيارة ـ أشخاصاً يتحركون بين القبور الحجرية المتناثرة أعلى الجبل .
أنا لا أومن بالأشباح ، ولا رؤية الأطياف والخيالات فى الليل .
أرجعت ما رأيت لأنه حدثنى عن أطياف الموتى ، تغادر قبورها فى الليل ، تطل على الأحياء ، وتعنى بأحوالهم . يربط بين ما يراه ، وما ترويه الحكايات القديمة . تداخله سكينة ، تشوبها لحظات من التوتر . توالى الوقائع والتصرفات ، دون أن تسفر عما يؤذى .
حيرته ـ فى البداية ـ ظواهر لا تفسير لها : اصطفاق أبواب ، تحرك أثاث من موضعه ، إضاءة الأنوار وإطفائها ، تعالى صيحات أو نداءات من مواضع لا يتبينها . لم يستتبع أية ظاهرة ضرر مادى من أى نوع . أهمل ما يراه ، أو يستمع إليه . ألف التعامل مع الأطياف . لاحظ أنها تختفى من الحجرة التى ينيرها ، أو التى يستضيف فيها من يسامره . هو ينير البيت أن احتاج إلى الراحة ، أو إذا تهيأ للنوم فى الليل . وإن صحا على الخوف من تحطم الأثاث ، الأصوات العالية ، المختلطة والمتشابكة ، تشى بحدوث شىء ما .
ظلت تطالعه ـ فى الظلمة ـ كائنات غير واضحة ، وتترامى ـ من مواضع لا يتبينها ـ أصوات لم يسبق له سماعها .
الأيدى التى لا يراها ، تنقل الأثاث من موضعه ، تأخذه إلى غير أماكنها فى حجرات البيت ، أو إلى الشرفة المطلة على الساحة الترابية ..
لاحظ ـ ذات صباح ـ أن ضلفة دولاب الملابس مفتوحة . راجع ما بها ، فوجد كل شىء على حاله . تفقد ـ حين أتى الليل ـ داخل دولاب حجرة النوم ، وتحت السرير ، وخلف الأبواب ، وفى الطرقة المفضية إلى المطبخ والحمام .
أغلق ـ بإحكام ـ باب حجرة النوم . ترك النور مضاء إلى الصباح . تحوط لانقطاع التيار الكهربائى ، بوضع شمعة وكبريت على الكومودينو المجاور للسرير .
لم تعد تشغله ـ بتوالى الأيام ـ فكرة أن بشراً آخرين ـ يعرف أنهم موتى ـ أو كائنات لم يستطع تمييزها فى الظلمة ، يشاركونه الإقامة فى البيت . أدرك أنهم لا يقصدونه بالشر ..
اعتاد اختفاء كتب من المكتبة الصغيرة ، أو من رصات الكتب ، وإعادتها إلى مواضعها . لا فوضى . يدرك اختفاء الكتب فى بحثه عنها ، فى المواضع التى يعرفها . يجول بنظره فى يوم تال . يجدها حيث كانت قد اختفت . تعلو أصوات سعال فى داخل البيت ، ومن الساحة الخلفية ، ومن ناحية المقابر . يترامى ـ كالهسيس ـ صوت الراديو . إغلاقه له فى يوم كامل ينبهه إلى أن الراديو فتح فى أثناء الليل . ثمة من حرصوا على سماع ما يشغلهم متابعته ، ثم نسوا الراديو مفتوحاً ، أو أنه صحا فانصرفوا قبل أن يغلقوه . تتقابل الكراسى ، أو تصنع دائرة ، فى الشرفة المطلة على الساحة الترابية الصغيرة فى وضع المناقشة ، كأنه قد جلس عليها من أمضوا الليل فى الحديث ، أو فى القراءة . يصحو على صوت ارتطام فى حجرة نومه ، أو فى الحجرة المجاورة . كل شىء على حاله . يثق أن الأطياف لا تقدم على فعل الأذى . ذلك ما تقدر عليه فى نومه ، هى تبحث عن شىء معين ، وتعيده . يفز لرؤية الملاءة تغطيه ، بعد أن نحاها أول نومه لحرارة الجو . بعد لحظات استعادة نفسه ، يدرك أنه لا يوجد ما يخيف .
لم يعد يشغله صوت الأبواب وهى تفتح أو تغلق ، أو خرير الماء فى المطبخ ، أو هدير سيفون الحمام بما يعنى استخدامه .
ربما وجد نور الحجرة المطلة على الواجهة مضاء . يطمئن إلى أنه أطفأ نور البيت . عدا لمبة صغيرة فى الطرقة الموصلة بين الحمام والمطبخ وبين بقية حجرات البيت . يثق العمانى ـ فى تصميم البيت ـ أن دورات المياه ملاذ للجان والعفاريت . يحرص أن يفصلها عن البيت . يضىء ما حولها ، فلا تتسلل المخلوقات النارية إلى بقية البيت . تحولت الأطياف إلى جزء من مألوف يومه ، يتحركون فى البيت منذ العشاء إلى ما بعد الفجر .
***
هل كان ما يسمعه سالم الريامى فى الليل حقيقة ؟
أمضيت زمناً لا أتردد على بيت الريامى . أستعيد ـ فى تكرار دعوته ـ أطياف الأسلاف ، وما رأيته بالفعل ..
عدت بابتعاد الوقت ..
تسلل إلى أنفى ما تصورته رائحة الموت ، ربما لأنى عرفت طبيعة الساحة التى أقف على حافتها .
حاول أن يطمئننى بوقفته المتابعة ، داخل الشرفة المطلة على الشارع الترابى ، والساحة ، والجبل .
عانيت الارتباك ـ ولعله الخوف ـ وأنا أعود بالسيارة إلى جانب الساحة ، حتى لا أسد الشارع الضيق . تجاهلت الخشخشة فى أسفل ، وإن حدست أنها لا تصدر عن أوراق شجر فى خلو المكان من الأشجار ..
علت الخشخشة ، وما يشبه تساقط الأحجار فى الساحة الترابية أسفل الجبل . توالى انبثاق أطياف لا نهاية لعددها ، كأنهم قاموا فى حركة واحدة ، ملأوا الساحة ، عرايا ، أو لفوا أجسادهم بأردية عسكرية متهرئة . فى أيديهم بنادق قديمة وسيوف ودروع . لعلهم أوسدوها القبور إلى جوارهم . تكاثروا فى الساحة حتى امتلأت بهم تماماً . رءوس معلقة فى الهواء ، وأعين مسملة ، وأجساد بلا رءوس ، أو تمشى على قدم واحدة ، وأكتاف مبتورة الأذرع . يتجهون بأنظارهم إلى الأمام ، لا يلتفتون ، ويحيط بهم الصمت . كأن الأجساد المتقاربة ، والمتلاصقة ، أشجار فى مساحات لا نهاية لها .
تملكنى الذهول لدقات طبول ـ لم أدرك مصدرها ـ ترامت من بعيد . انطلق الرصاص من بندقية طيف ، تبعها انطلاق الرصاص من بنادق الأطياف المتلاصقة .
توالى إطلاق الرصاص ، فغطى الساحة وما حولها . علت دقات الطبول ، كأنها تريد نهايات المدى ..
تراقص الأطياف بالبنادق والسيوف والعصى . أفسحوا وسط الساحة لطيف ، تدلى من صدره دف هائل ، توالى ارتفاع طرقاته عليه باشتداد حركات الراقصين ..
بدا كأن الأطياف تتخذ تكوينات وتشكيلات ، ثم بدا كأنها تتحرك . تحركت إلى خارج الساحة ، غطت الشارع الضيق ، والبنايات على الجانبين ، وأسفل الجبل .
تركت السيارة وعدوت ناحية بيت الريامى ..
من وقفتى إلى جانبه فى النافذة المواربة ، شاهدت الأطياف تتجه ناحية الشارع الرئيس والشوارع الفرعية ، تتحرك فى خطوات بطيئة ، صامتة ، صفوف طويلة ، تمتد إلى غير نهاية .
ظلت مساحة الأطياف تتسع ، وتتسع . ترافقها أصوات خشخشة وتكسير وهمهمات تشى بالتهيؤ لفعل ما .
* من مجموعة «ما لا نراه» لمحمد جبريل