استأذنت سادتى فى محكمة الديوان أن أسجل ما يطرحون من أقوال وأفكار، وما يقضون، فأذنوا لى. لا أسجل إلا ما أعرفه، أقف عليه، أتثبت منه.
ترك الناس لمحكمة الديوان أمر البت فيما يطلبون من النصفة والمدد، وتصريف أمورهم الخاصة والعامة. يقتصر حضور المحكمة على السيدة الرئيسة وسادتى الأولياء الأربعة: الرفاعى، البدوى، الجيلانى، الدسوقى، ربما لجأت المحكمة إلى أولياء الله، وإلى سيدى الخضر والمهدى المنتظر، يقضون بالرأى الصواب، لا يراها البشر العاديون مهما رقت المكانة بين المتصوفة.يأخذنى الإشفاق على اللائذين بالمقام، يتمسحون بالأعتاب، يكنسون تراب الأرضية، يلمسون أعمدة النحاس المتشابكة، يقبلونها، يطيلون النظر من انفراجاتها إلى المقام ذى الكسوة الخضراء يضوى بألق الشموع، فى تضوع روائح المسك والزعفران والبخور الجاوى، تعلو خيمة من الهمسات والأصوات الداعية، العالية، والابتهالات والتسابيح والإنشاد.
أرقب الساعين إلى مقام المحكمة، هى الملجأ لمن تضيق بهم الأمور، لا يرون القضاة العظام، وإن عرفوا الموضع، قبلة القاصى والدانى، يقصده الناس من أحياء القاهرة، ومن المدن الأخرى، يستفتون قضاة الديوان فيما غمض عنهم من أمور دينهم، يرفعون إليهم مشكلات دنياهم.أكتم الأمر حتى عن الذين أعرفهم، ولى بهم صلة، للمحكمة خدمها وموظفوها، يتلقون الصدقات والنذور باسم أقطاب المحكمة، يأمر سادة الديوان بإنفاقها فى فعل الخير، ورفع الظلم، أرباب الطرق وأصحاب المكاشفات والكرامات، ألتقيهم فى صحن الجامع الزينبى، أجالسهم، أشاركهم حضرات الذكر والإنشاد والتسابيح والابتهالات وتلاوة القرآن، وقراءة الأوراد، أفارقهم فى موعد المحكمة، بمفردى فلا يلحظ أحد مقصدى. اعتادوا مغادرتى المكان دون أن أبلغهم بالمكان الذى سأتوجه إليه، أعود برفقة الصمت، لا أتكلم، ولو للرد على الأسئلة.
أخطو من باب القاعة إلى عمود، أذن لى السادة قضاة المحكمة بالجلوس عنده، يقبلون من موضع لا أتبينه. فى المقدمة رئيسة الديوان، يتبعها الأقطاب الأربعة، أحمد الرفاعى، عبد القادر الجيلانى، إبراهيم الدسوقى، أحمد البدوى، ينزع السيف من غمده، يسنده إلى الجدار، ويمضى إلى موضع الجلسة.الهالة النورانية تحتوى قضاة المحكمة، أولياء الله، لا أبواب ولا نوافذ ولا جدران أو نهايات، كأنهم انعزلوا بالأوراق عن الدنيا المحيطة. أذن لى الأقطاب، فأراهم رؤية العين، يجرى قلمى بما يدور من مناقشات، وما يصدر - لطالبى النصفة – من أحكام. يبدو كل شيء بانتهاء الجلسة، كأنه لم يكن، تختفى الأوراق من أمامى، أعرف أن الخدم حملوها إلى مقاصدها، يعود المكان إلى تشابك همساته وأدعيته وتسابيحه ونداءاته.رضى الأولياء برئاسة السيدة زينب، كلمتها نافذة، وما تقضى به يلقى استجابة. أراهم – بحول الله – ويروننى، يلتقون فى قاعة الديوان، يعزلون أنفسهم – بإرادة الله – عن الصخب الملتم حول مقام رئيسة الديوان، أو صحن الجامع، واللغط المترامى من الميدان والشوارع المحيطة. القنديل يعلو أوسط المكان، دون أن يصله بالسقف سلسلة، أو رباط من أى نوع، أقعد بالتهيب، فى يدى القلم، على ركبتى الأوراق، أذناى ترهفان السمع لما يدور فى الجلسات، الخير، الحكمة، القدرة، المعرفة.تشرق الأحاديث – قبل أن تفض أوراق الناس – وتغرب، يروى سيدى الجيلانى عن زياراته لآل البيت فى مراقدهم، يخلى لملامحه إمارات الحب والـورع والزهادة. ربما مال إلى أضرحة أولياء الله القريبين ومقاماتهم، يتبادلون الكلام، يأخذ منهم ويعطى. قد يقرأ الفاتحة، ويمضى لأمر يشغله. يستعيد سيدى أحمد البدوى طفولته وشبابه فى فاس المغربية، رحيله إلى الحجاز والعراق ومصر، يتهدج صوت سيدى إبراهيم الدسوقى بالحمد لله على التزام طريقته، والطرق المتفرعة، بالمقامات الثلاثة: الآداب، الأخلاق، الأحوال.أقصر مهمتى على تدوين ما يدور فى جلسات الديوان، أصغى لكل ما يدور من أسئلة وأجوبة وملاحظات، لا أجاوز ما عهد لى به السادة قضاة الديوان من التدوين، ما يلفظه الأقطاب من محكم الكلام، وما يتبادلون من آراء فى مشكلات الناس، والأحكام التى يقضون بها، أخط ما تمليه السيدة الرئيسة، أصيخ السمع حتى لا أسأل، ولا أطلب الإعادة، أقصر جهدى على فعل الكتابة دون أن أعقب، أو أومئ برأى، أسجل كل ما أشهده وأسمعه، لا أترك واقعة مهما بدت تافهة.المحكمة صلة الناس بالعدل الإلهى، تجاوز فضاء الحياة الأرضية إلى آفاق تسمو عن الدنيا، تحلق فى السماء، لا شأن للقضاة بزمان ولا مكان، هم مسئولون عن ناس العالم، أى أرض يعيش فوقها مسلمون، تلغى المحيطات والبحار والأنهار والجزر والجبال والأودية، تذوب جميعها فى الجلسة المباركة، يتصرفون فى الكون، فى نفوسهم مشكلات المسلمين، وما يعانون. يخضعون الأحوال والكرامات والصفات لصالح الناس، انتهت إليهم جميع أحكام الدين من أصل وفروع.يجاهدون فى طلب الحق، يحرصون على صفاء العلاقة بينهم وبين الذات الإلهية. يتشفعون ليعينهم الله على جميع مرادهم، لهم قدرات روحية تفوق ما لدى البشر، يعرفون أسرار الحروف والطلسمات، يحظون بخصوصية الكرامة، واستجابة الدعوة، يحيط بهم ما لا حصر له من ملائكة السماء.
تطوى لأحدهم الأرض، حتى يتعرف إلى مشكلات يعيشها مريدون فى طريقة صوفية، يعيشون على بعد مسافات بعيدة، يعود بما يثيرونه من مشكلات، يطرحونها أمام سادة المحكمة، ويطلبون الرأى. يقضى السادة الأجلاء الحاجات، يدفعون الملمات، يفضون الكروب، يتشفعون، فيشفى الله المرضى، يغيث الملهوفين، ينصف المظلومين، يسعون لتحقيق أمنيات الغلابة والمساكين، ومن لا صوت لهم.
الديوان يتشفع فى المصائر، ولا يقررها، المصائر بيد الله، هو وحده صاحب الأمر والنهى، الأولياء يتعرفون إلى المشكلات بحكم بشريتهم، يقضون فيها بالصفة نفسها، خصّهم الله بمعرفة ما فى الضمائر، وما تخفى النفوس. ينظرون المظالم، ينتصرون للحق، يضرعون إلى الذات العلية بالشفاعة.لا تعبر النظرات ما بين الأيدى من شكايات، تعيد القراءة، تحدق، تتأمل السطور وما بين السطور، تستقصى، تتحرى الصدق، تستعين بما خصها الله به من شفافية البصيرة.ينصت القضاة الأجلاء – فى استغراق – إلى نداءات المستغيثين، يتحرون المعاناة والمشكلات والظروف الصعبة، يمتلكون القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وعلى تسخير الملائكة والجان والحيوان والكائنات الساكنة.انتهت إلى محكمة الديوان جميع أحكام الدين من أصل وفروع. ما تقوله يجاوز الحكمة، أو النصيحة، إلى قول فصل يقبل المريدون على أداء أحكامه، أو السعى لها، بنفوس مستريحة.
ما حاصرت امرءاً ضائقة، ولجأ إلى مقام المحكمة، بالاستجارة والاستخارة، حتى يفرج الله ضائقته، يبدل بعسره يسراً، ويفك الكرب.
لم تعد الدهشة تتملكنى – كما حدث فى أول الأمر – لرؤية أولياء الله الصالحين، الأوتاد والأبدال والنقباء، من يحيا فى رعايتهم وبركة شفاعتهم، محبى آل البيت وملايين الصوفية، يطلبون الإذن بالمثول فى الحضرة، يعرضون ما غمض من المواقف، ما صعب حله من مشكلات الناس، قضاء الشريعة فى الصلات بين الحكام والمحكومين: الشاذلى، أبو العباس، الشعرانى، البسطامى، القبارى، الغزالى، ابن الفارض، ياقوت العرش، أبو الحجاج الأقصرى، عشرات القلوب النضرة، والوجوه الطيبة، يقبلون على الحضرة، يدركون من تلفتى المرتبك أن الإذن بالدخول أمر تلقيته، والإيماءة الخاضعة هى ما أقدر على فعله.من يتأخر عن موعد بدء المحكمة، يضطر إلى القعود، أو التمدد، فى ساحة الضوء حتى تنفض الجلسات، هاتف يوقفهم فى مسافة من الحضرة النورانية، الهاتف نفسه يلزمنى الحركة والجلوس فى موضع، لا أبتعد عنه.
يفد إلى الحضرة مئات العباد والزهاد والأقطاب والأولياء الصالحين، يعطون أسماعهم، ولا يعطون أبصارهم، يراهم الأقطاب العظام، ولا يرونهم.أتعرف إلى الضيف فى صوته، يأخذنى من انشغالى فى كومات الورق، أعرف شخص الزائر فى الظلمة، الملامح والقسمات، يحتويها تكوين البدن.غادر أبو زيد جاب الله خادم مسجد السبع بنات مغضباً، بعد أن دس فى صندوق النذور شكوى إلى محكمة الديوان، يطلب نصفتها من المعاملة القاسية للشيخ جلاء أبو حامد واعظ المسجد.
قال سيدى أحمد البدوى بلهجة مغضبة: - لم يعد أمام الناس للخلاص من المعاناة سوى نفخ الصور، وبعثرة القبور، والوقوف- يوم الحشر العظيم - بين يدى الله، يثيب كل امرئ على ما فعل من خير، ويعاقبه جزاء ما جنت يداه.فطن سيدى إبراهيم الدسوقى إلى أن نفسية السيدة زينب تغيرت منذ ألزم أولو الأمر مواكب الصوفية أن تختصر مواكب الرؤية والمولد النبوى ورأس السنة الهجرية، ما بين مسجدى الأخوين، اقتصرت المسافة من مسجد صالح الجعفرى إلى مسجد الحسين، غاب الوصال بلا سبب. تناثرت المواكب فى الشارع الواصل بين مقامه الشريف وجامع السلطان حسن، وفى ميدان الرميلة، والطريق إلى مقابر الدراسة والسيدة نفيسة.أشارت أميرة أهل البيت إلى حزنها المقيم، لن يغادرها ما لم تعرف مصير رأس الشهداء، يؤلمها، يشقيها، أن يظل الرأس مفصولاً عن الجسد.انعكس الحزن فى صوت سيدى أحمد الرفاعى، تحدث عن زياراته إلى موضع الرأس الشريف. ألف – منذ فجر يوم انعقاد محكمة الديوان – أن يزور الشهيد، ربما سبق قدومه إلى المقام الزينبى زيارات إلى أضرحة نفيسة العلم، وسيدتى سكينة، وسيدتى رقية، وسيدى على زين العابدين، وسيدتى فاطمة النبوية، يبادل العطر الفواح من آل البيت ما يهم الناس من أمور دينهم ودنياهم.يمضى من فوق أسطح البنايات حتى ميدان الحسين، يخترق سطح الجامع إلى داخل الضريح. يتمدد لصق جدار المقصورة الفضية فى اتصاله بالقاعة الصغيرة للمخلفات النبوية، يستروح نسائم السيرة العطرة، يذكّر نفسه بأنه فى حضرة بضعة من جسد الحسين، وليس الجسد كله، لا يغادر موضعه إلا عند تعالى أذان الظهر، يلحق المحكمة فى موعدها.رنا سيدى أحمد البدوى - بعينين مشفقتين - إلى أم العواجز:- تريدين استعادة ما تحقق فى مصر من لم إيزيس أجزاء زوجها أوزوريس.قال سيدى الجيلانى:- أسطورة اخترعها الخيال، آل البيت عاشوا بيننا، ولقوا الجزاء الأليم لمعاناتهم من أجلنا.مشكلات الناس لا تنتهى أمام محكمة الديوان، تيقن سيدى عبد القادر الجيلانى أن عودة الجسد الشريف مكتملاً تهب الناس أملاً فى علاج المشكلات. قدّر للسيدة الطاهرة اختيارها له فى عضوية الديوان، أحنى رأسه بالتواضع لتزكية سيدة الطهر: أحب الفقراء، فأحبوه، رأى اللقمة فى بطن الجائع خيراٍ من بناء المساجد، خير من كسوة الكعبة، ومن جهاد الكفر بالسيف، ومن صوم الدهر كله. استعادت قوله لخليفة الوقت: ولّيت على المسلمين أظلم الظالمين، وما جوابك غداً عند رب العالمين، طيرانه إلى الحق بجناحى الكتاب والسنة، مواقف حرصه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وحفظ الحدود، وتطبيق الشريعة، تحذيره الناس من الانصياع للحكام بما يخالف صحيح الدين، انتقاده الولاة والموظفين الذين عنوا – دون تدبر - بتنفيذ أوامر الحكام، إدانته لمن يدعون الخلق، ولا يقفون على باب الخالق، يظلمون الناس، يصادرون أموالهم، فكان دعاء الناس وبالاً عليهم.قالت سيدة المجاهدين:- النسيان هو الموت الحقيقى، عندما ننسى الراحل، لا نتذكره، فإننا نلغى وجوده، نقذف به إلى العدم، واستشهاد الحسين أسس لرسالة باقية. وهزت إصبعها تأكيدا للمعنى:- من حق الجسد والرأس أن يعود إليهما الاكتمال.قال سيدى الدسوقى: - السؤال الذى يبحث عن إجابة: هل دفن الرأس الشريف فى موضعه الحالى؟قال سيدى البدوى: - لذلك الأمر ندعو المريدين والمحبين إلى البحث والتقصى سعياً لاكتمال المعنى الجميل.لاح التأثر فى صوته:- من مات لن يعود إلى الحياة، لكن معنى اكتمال الجسد بلا حدود.وأغمض عينيه، تاه فى عالم بلا أفق:- هو ابن بنت رسول الله، وهو كذلك أمل الناس فى حياة تخلو من الظلم.عمق من حزنه نسبه الشريف إلى بيت النبوة، جعل من سيرة الحسين مثلاً يهتدى به، إن كانت نصرة دين الله بقتلى، فيا سيوف خذينى. اعتاد شقيقه شرف الدين موسى أن يقف لحظات أمام ضريحه المجاور، يتبادلان حواراً عن هموم المريدين وعامة الناس، قبل أن يمضى سيدى أبو العينين فى رحلته إلى الحضرة الزكية.لم يغادر دسوق فى حياته سوى مرات قليلة، لكنه بدّل عادته منذ انضم إلى قضاة الديوان، يسير على الأرضية الخضراء، فى الصحن الواسع، يرنو – فى التفاتته إلى القبة، تتوسط المآذن الأربع، أمامها الميدان الفسيح والحدائق والنافورات وصخب المرور، البيوت على جانبى الميدان يأتنس أهلها بالقرب من ضريح ولى الله.
خرجت – بلا قصد – عما تعهدت به، وألزمت نفسى من الاقتصار على التدوين، أدون ما أراه، أو أسمعه. ساعد الناس إيزيس فى لم أجزاء أوزوريس، اكتمل الجسد، فعادت العافية إلى الروح التى طال رقادها، ذلك ما تأمله سلطانة الصابرين، رئيسة الديوان، المحكمة، من عودة رأس الحسين الشهيد إلى جسده، تسرى الحياة فى اكتمال الجسد.
مضت القرون، الناس يضربون الصدور، ويلطمون الخدود، حزناً لاستشهاد الحسين. آن الأوان كى نتجاوز بكاء الندم إلى الفعل السليم.
أزمعت أن أحرك الناس، أدفعهم إلى هجر الندم والبكاء وإيذاء البدن، والسعى – كل بطريقته – إلى إعادة الجسد المفصول إلى باقى الجسد.
منذ استشهد الحسين، يبكى الناس خذلانه. تخلوا عن الحسين، لم يعانوا الندم إلا بعد أن اجتث الرأس الشريف، من حقه أن ينتصروا له، لا معنى لقبر الجسد فى مدينة، والرأس فى مدينة أخرى، أربعة عشر جزءاً أعادت بها إيزيس جسد أوزوريس إلى تمام اكتماله وعافيته. استشهد الحسين فى دفاعه عن الإسلام، ونصرته للغلابة والمستضعفين.ألفت تردد آل البيت والأقطاب على قاعة المحكمة، عرفتهم بالاسم والسحنة، حفظت الإيماءات والتعبيرات والتصرفات. أشير – دون أن أتثبت – إلى باب القاعة المغلق، ينقرونه للاستئذان، يدخلون.فى ذلك الصباح، تبدل الحال: قدم إلى الجامع من تحل بركاتهم فى القاهرة القديمة، اعتادوا الزيارة فرادى، فى أوقات متباعدة، لم يتخلف عن المجيء أحد: السيدة نفيسة، سيدى على زين العابدين، السيدة عائشة، السيدة سكينة، السيدة رقية، السيدة فاطمة النبوية. تبعهم ما اعتدت قدومه - فى مدى الأيام – على القاعة الشريفة، من نجوم الدين الزاهرة: الأوتاد الأربعة، النقباء العشرة، العرفاء السبعة، المختارون الثلاثة، أحدهم القطب الغوث، البدلاء والنجباء السبعة، الأولياء الثلاثمائة، تركوا حظوظ أنفسهم من جميع ما فى الدنيا، لا يزيدون ولا ينقصون فى توالى الأزمنة، من أخذه الموت، حل مكانه من هو فى مثل علمه. فى أيديهم الشفاعات والشكايات والالتماسات، ما تحفل به صناديق النذور، ويصدر عن الواقفين أمام المقامات والأضرحة، ما حجمه اتساع البلاد من البقاع الطاهرة، يأملون الغوث والاستجابة والفرج، حتى طلاب العلم والمعرفة من المترددين على مكتبة الجامع الإبراهيمى المزدحمة بالمصادر والمراجع فى الفقه والحديث والسير والأدب، كأن زحامهم، داخل الصحن، إشارة القدوم لمريدى الطرق، اتجهوا من حضراتهم والمساجد والأضرحة والمقامات والزوايا، إلى موضع محكمة الديوان، لبى الدعوة مريدون من كل العالم، فاض بهم المكان، علت البيارق والأعلام الملونة، ودقات الطبول والمزاهر والدفوف والطارات. اختلطت أصوات المنشدين وقارئى الأوراد وابتهالات الذاكرين. انطلقوا من الميدان إلى الشوارع المتفرعة، ما لا يحصى عدده من المحبين والتابعين والمحاسيب، وباعة المصاحف وكتب السيرة والأدعية والأوراد والبخور والسبح والمناديل المحلاوى والطواقى المنقوشة.غاب موضعى، لم يعد بوسعى السؤال، ولا الإذن بالدخول، انتظم الولوج من حاله ونفسه. شغل الألوف الميدان، توزعوا فى الشوارع المتفرعة. ميزت صوت نفيسة العلم رائق النبرة:- جئنا لنعين أختنا سيدة الطهر فى استعادة زين شباب الجنة.
عدت إلى جلستى، بعد أن مضت الحشود فى مساراتها. يشغلهم التحرك فى مدى المساحة بين مثوى الجسد فى كربلاء، ومثوى الرأس فى الجامع العتيق، ينتظرون الفيض الإلهى. تعالى الأذان من مئذنة الباتعة، جاوبه رفع الأذان من مآذن الحى الأخرى, وثمة طير انطلق فى تكوينات، وسحب بيضاء متداخلة.
تأمل الذهن ما أفاضت عقيلة بنى هاشم فى شرحه من كرامة لملمة إيزيس للأجزاء الأربعة عشر من جسد أوزوريس، استرد بها الجسد اتصاله، وعافيته.داخلنى يقين أن الحال – باستعادة جسد الحسين العفى – لن يكون هو الحال فى زمن يخلو من النصفة، ثأر الحسين ليس بالقتل وإنما باكتمال الجسد. ذلك هو ثأر إيزيس لأوزوريس، انتصرت – بلم أجزاء جسده – على الشر.إذا كانت أجزاء جسد أوزوريس قد تناثرت فى امتداد نهر النيل، فإننا لن نحتاج إلاّ إلى وصل الجسد المدفون فى كربلاء، والرأس المدفون فى القاهرة، لا يكون يوم استشهاد الحسين يوم نشيج وبكاء ولطم وعذاب للنفس، تسطع البشارة، يقضى على الفوضى والشر والنقصان، يتحقق الاكتمال.
ترك الناس لمحكمة الديوان أمر البت فيما يطلبون من النصفة والمدد، وتصريف أمورهم الخاصة والعامة. يقتصر حضور المحكمة على السيدة الرئيسة وسادتى الأولياء الأربعة: الرفاعى، البدوى، الجيلانى، الدسوقى، ربما لجأت المحكمة إلى أولياء الله، وإلى سيدى الخضر والمهدى المنتظر، يقضون بالرأى الصواب، لا يراها البشر العاديون مهما رقت المكانة بين المتصوفة.يأخذنى الإشفاق على اللائذين بالمقام، يتمسحون بالأعتاب، يكنسون تراب الأرضية، يلمسون أعمدة النحاس المتشابكة، يقبلونها، يطيلون النظر من انفراجاتها إلى المقام ذى الكسوة الخضراء يضوى بألق الشموع، فى تضوع روائح المسك والزعفران والبخور الجاوى، تعلو خيمة من الهمسات والأصوات الداعية، العالية، والابتهالات والتسابيح والإنشاد.
أرقب الساعين إلى مقام المحكمة، هى الملجأ لمن تضيق بهم الأمور، لا يرون القضاة العظام، وإن عرفوا الموضع، قبلة القاصى والدانى، يقصده الناس من أحياء القاهرة، ومن المدن الأخرى، يستفتون قضاة الديوان فيما غمض عنهم من أمور دينهم، يرفعون إليهم مشكلات دنياهم.أكتم الأمر حتى عن الذين أعرفهم، ولى بهم صلة، للمحكمة خدمها وموظفوها، يتلقون الصدقات والنذور باسم أقطاب المحكمة، يأمر سادة الديوان بإنفاقها فى فعل الخير، ورفع الظلم، أرباب الطرق وأصحاب المكاشفات والكرامات، ألتقيهم فى صحن الجامع الزينبى، أجالسهم، أشاركهم حضرات الذكر والإنشاد والتسابيح والابتهالات وتلاوة القرآن، وقراءة الأوراد، أفارقهم فى موعد المحكمة، بمفردى فلا يلحظ أحد مقصدى. اعتادوا مغادرتى المكان دون أن أبلغهم بالمكان الذى سأتوجه إليه، أعود برفقة الصمت، لا أتكلم، ولو للرد على الأسئلة.
أخطو من باب القاعة إلى عمود، أذن لى السادة قضاة المحكمة بالجلوس عنده، يقبلون من موضع لا أتبينه. فى المقدمة رئيسة الديوان، يتبعها الأقطاب الأربعة، أحمد الرفاعى، عبد القادر الجيلانى، إبراهيم الدسوقى، أحمد البدوى، ينزع السيف من غمده، يسنده إلى الجدار، ويمضى إلى موضع الجلسة.الهالة النورانية تحتوى قضاة المحكمة، أولياء الله، لا أبواب ولا نوافذ ولا جدران أو نهايات، كأنهم انعزلوا بالأوراق عن الدنيا المحيطة. أذن لى الأقطاب، فأراهم رؤية العين، يجرى قلمى بما يدور من مناقشات، وما يصدر - لطالبى النصفة – من أحكام. يبدو كل شيء بانتهاء الجلسة، كأنه لم يكن، تختفى الأوراق من أمامى، أعرف أن الخدم حملوها إلى مقاصدها، يعود المكان إلى تشابك همساته وأدعيته وتسابيحه ونداءاته.رضى الأولياء برئاسة السيدة زينب، كلمتها نافذة، وما تقضى به يلقى استجابة. أراهم – بحول الله – ويروننى، يلتقون فى قاعة الديوان، يعزلون أنفسهم – بإرادة الله – عن الصخب الملتم حول مقام رئيسة الديوان، أو صحن الجامع، واللغط المترامى من الميدان والشوارع المحيطة. القنديل يعلو أوسط المكان، دون أن يصله بالسقف سلسلة، أو رباط من أى نوع، أقعد بالتهيب، فى يدى القلم، على ركبتى الأوراق، أذناى ترهفان السمع لما يدور فى الجلسات، الخير، الحكمة، القدرة، المعرفة.تشرق الأحاديث – قبل أن تفض أوراق الناس – وتغرب، يروى سيدى الجيلانى عن زياراته لآل البيت فى مراقدهم، يخلى لملامحه إمارات الحب والـورع والزهادة. ربما مال إلى أضرحة أولياء الله القريبين ومقاماتهم، يتبادلون الكلام، يأخذ منهم ويعطى. قد يقرأ الفاتحة، ويمضى لأمر يشغله. يستعيد سيدى أحمد البدوى طفولته وشبابه فى فاس المغربية، رحيله إلى الحجاز والعراق ومصر، يتهدج صوت سيدى إبراهيم الدسوقى بالحمد لله على التزام طريقته، والطرق المتفرعة، بالمقامات الثلاثة: الآداب، الأخلاق، الأحوال.أقصر مهمتى على تدوين ما يدور فى جلسات الديوان، أصغى لكل ما يدور من أسئلة وأجوبة وملاحظات، لا أجاوز ما عهد لى به السادة قضاة الديوان من التدوين، ما يلفظه الأقطاب من محكم الكلام، وما يتبادلون من آراء فى مشكلات الناس، والأحكام التى يقضون بها، أخط ما تمليه السيدة الرئيسة، أصيخ السمع حتى لا أسأل، ولا أطلب الإعادة، أقصر جهدى على فعل الكتابة دون أن أعقب، أو أومئ برأى، أسجل كل ما أشهده وأسمعه، لا أترك واقعة مهما بدت تافهة.المحكمة صلة الناس بالعدل الإلهى، تجاوز فضاء الحياة الأرضية إلى آفاق تسمو عن الدنيا، تحلق فى السماء، لا شأن للقضاة بزمان ولا مكان، هم مسئولون عن ناس العالم، أى أرض يعيش فوقها مسلمون، تلغى المحيطات والبحار والأنهار والجزر والجبال والأودية، تذوب جميعها فى الجلسة المباركة، يتصرفون فى الكون، فى نفوسهم مشكلات المسلمين، وما يعانون. يخضعون الأحوال والكرامات والصفات لصالح الناس، انتهت إليهم جميع أحكام الدين من أصل وفروع.يجاهدون فى طلب الحق، يحرصون على صفاء العلاقة بينهم وبين الذات الإلهية. يتشفعون ليعينهم الله على جميع مرادهم، لهم قدرات روحية تفوق ما لدى البشر، يعرفون أسرار الحروف والطلسمات، يحظون بخصوصية الكرامة، واستجابة الدعوة، يحيط بهم ما لا حصر له من ملائكة السماء.
تطوى لأحدهم الأرض، حتى يتعرف إلى مشكلات يعيشها مريدون فى طريقة صوفية، يعيشون على بعد مسافات بعيدة، يعود بما يثيرونه من مشكلات، يطرحونها أمام سادة المحكمة، ويطلبون الرأى. يقضى السادة الأجلاء الحاجات، يدفعون الملمات، يفضون الكروب، يتشفعون، فيشفى الله المرضى، يغيث الملهوفين، ينصف المظلومين، يسعون لتحقيق أمنيات الغلابة والمساكين، ومن لا صوت لهم.
الديوان يتشفع فى المصائر، ولا يقررها، المصائر بيد الله، هو وحده صاحب الأمر والنهى، الأولياء يتعرفون إلى المشكلات بحكم بشريتهم، يقضون فيها بالصفة نفسها، خصّهم الله بمعرفة ما فى الضمائر، وما تخفى النفوس. ينظرون المظالم، ينتصرون للحق، يضرعون إلى الذات العلية بالشفاعة.لا تعبر النظرات ما بين الأيدى من شكايات، تعيد القراءة، تحدق، تتأمل السطور وما بين السطور، تستقصى، تتحرى الصدق، تستعين بما خصها الله به من شفافية البصيرة.ينصت القضاة الأجلاء – فى استغراق – إلى نداءات المستغيثين، يتحرون المعاناة والمشكلات والظروف الصعبة، يمتلكون القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وعلى تسخير الملائكة والجان والحيوان والكائنات الساكنة.انتهت إلى محكمة الديوان جميع أحكام الدين من أصل وفروع. ما تقوله يجاوز الحكمة، أو النصيحة، إلى قول فصل يقبل المريدون على أداء أحكامه، أو السعى لها، بنفوس مستريحة.
ما حاصرت امرءاً ضائقة، ولجأ إلى مقام المحكمة، بالاستجارة والاستخارة، حتى يفرج الله ضائقته، يبدل بعسره يسراً، ويفك الكرب.
لم تعد الدهشة تتملكنى – كما حدث فى أول الأمر – لرؤية أولياء الله الصالحين، الأوتاد والأبدال والنقباء، من يحيا فى رعايتهم وبركة شفاعتهم، محبى آل البيت وملايين الصوفية، يطلبون الإذن بالمثول فى الحضرة، يعرضون ما غمض من المواقف، ما صعب حله من مشكلات الناس، قضاء الشريعة فى الصلات بين الحكام والمحكومين: الشاذلى، أبو العباس، الشعرانى، البسطامى، القبارى، الغزالى، ابن الفارض، ياقوت العرش، أبو الحجاج الأقصرى، عشرات القلوب النضرة، والوجوه الطيبة، يقبلون على الحضرة، يدركون من تلفتى المرتبك أن الإذن بالدخول أمر تلقيته، والإيماءة الخاضعة هى ما أقدر على فعله.من يتأخر عن موعد بدء المحكمة، يضطر إلى القعود، أو التمدد، فى ساحة الضوء حتى تنفض الجلسات، هاتف يوقفهم فى مسافة من الحضرة النورانية، الهاتف نفسه يلزمنى الحركة والجلوس فى موضع، لا أبتعد عنه.
يفد إلى الحضرة مئات العباد والزهاد والأقطاب والأولياء الصالحين، يعطون أسماعهم، ولا يعطون أبصارهم، يراهم الأقطاب العظام، ولا يرونهم.أتعرف إلى الضيف فى صوته، يأخذنى من انشغالى فى كومات الورق، أعرف شخص الزائر فى الظلمة، الملامح والقسمات، يحتويها تكوين البدن.غادر أبو زيد جاب الله خادم مسجد السبع بنات مغضباً، بعد أن دس فى صندوق النذور شكوى إلى محكمة الديوان، يطلب نصفتها من المعاملة القاسية للشيخ جلاء أبو حامد واعظ المسجد.
قال سيدى أحمد البدوى بلهجة مغضبة: - لم يعد أمام الناس للخلاص من المعاناة سوى نفخ الصور، وبعثرة القبور، والوقوف- يوم الحشر العظيم - بين يدى الله، يثيب كل امرئ على ما فعل من خير، ويعاقبه جزاء ما جنت يداه.فطن سيدى إبراهيم الدسوقى إلى أن نفسية السيدة زينب تغيرت منذ ألزم أولو الأمر مواكب الصوفية أن تختصر مواكب الرؤية والمولد النبوى ورأس السنة الهجرية، ما بين مسجدى الأخوين، اقتصرت المسافة من مسجد صالح الجعفرى إلى مسجد الحسين، غاب الوصال بلا سبب. تناثرت المواكب فى الشارع الواصل بين مقامه الشريف وجامع السلطان حسن، وفى ميدان الرميلة، والطريق إلى مقابر الدراسة والسيدة نفيسة.أشارت أميرة أهل البيت إلى حزنها المقيم، لن يغادرها ما لم تعرف مصير رأس الشهداء، يؤلمها، يشقيها، أن يظل الرأس مفصولاً عن الجسد.انعكس الحزن فى صوت سيدى أحمد الرفاعى، تحدث عن زياراته إلى موضع الرأس الشريف. ألف – منذ فجر يوم انعقاد محكمة الديوان – أن يزور الشهيد، ربما سبق قدومه إلى المقام الزينبى زيارات إلى أضرحة نفيسة العلم، وسيدتى سكينة، وسيدتى رقية، وسيدى على زين العابدين، وسيدتى فاطمة النبوية، يبادل العطر الفواح من آل البيت ما يهم الناس من أمور دينهم ودنياهم.يمضى من فوق أسطح البنايات حتى ميدان الحسين، يخترق سطح الجامع إلى داخل الضريح. يتمدد لصق جدار المقصورة الفضية فى اتصاله بالقاعة الصغيرة للمخلفات النبوية، يستروح نسائم السيرة العطرة، يذكّر نفسه بأنه فى حضرة بضعة من جسد الحسين، وليس الجسد كله، لا يغادر موضعه إلا عند تعالى أذان الظهر، يلحق المحكمة فى موعدها.رنا سيدى أحمد البدوى - بعينين مشفقتين - إلى أم العواجز:- تريدين استعادة ما تحقق فى مصر من لم إيزيس أجزاء زوجها أوزوريس.قال سيدى الجيلانى:- أسطورة اخترعها الخيال، آل البيت عاشوا بيننا، ولقوا الجزاء الأليم لمعاناتهم من أجلنا.مشكلات الناس لا تنتهى أمام محكمة الديوان، تيقن سيدى عبد القادر الجيلانى أن عودة الجسد الشريف مكتملاً تهب الناس أملاً فى علاج المشكلات. قدّر للسيدة الطاهرة اختيارها له فى عضوية الديوان، أحنى رأسه بالتواضع لتزكية سيدة الطهر: أحب الفقراء، فأحبوه، رأى اللقمة فى بطن الجائع خيراٍ من بناء المساجد، خير من كسوة الكعبة، ومن جهاد الكفر بالسيف، ومن صوم الدهر كله. استعادت قوله لخليفة الوقت: ولّيت على المسلمين أظلم الظالمين، وما جوابك غداً عند رب العالمين، طيرانه إلى الحق بجناحى الكتاب والسنة، مواقف حرصه على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وحفظ الحدود، وتطبيق الشريعة، تحذيره الناس من الانصياع للحكام بما يخالف صحيح الدين، انتقاده الولاة والموظفين الذين عنوا – دون تدبر - بتنفيذ أوامر الحكام، إدانته لمن يدعون الخلق، ولا يقفون على باب الخالق، يظلمون الناس، يصادرون أموالهم، فكان دعاء الناس وبالاً عليهم.قالت سيدة المجاهدين:- النسيان هو الموت الحقيقى، عندما ننسى الراحل، لا نتذكره، فإننا نلغى وجوده، نقذف به إلى العدم، واستشهاد الحسين أسس لرسالة باقية. وهزت إصبعها تأكيدا للمعنى:- من حق الجسد والرأس أن يعود إليهما الاكتمال.قال سيدى الدسوقى: - السؤال الذى يبحث عن إجابة: هل دفن الرأس الشريف فى موضعه الحالى؟قال سيدى البدوى: - لذلك الأمر ندعو المريدين والمحبين إلى البحث والتقصى سعياً لاكتمال المعنى الجميل.لاح التأثر فى صوته:- من مات لن يعود إلى الحياة، لكن معنى اكتمال الجسد بلا حدود.وأغمض عينيه، تاه فى عالم بلا أفق:- هو ابن بنت رسول الله، وهو كذلك أمل الناس فى حياة تخلو من الظلم.عمق من حزنه نسبه الشريف إلى بيت النبوة، جعل من سيرة الحسين مثلاً يهتدى به، إن كانت نصرة دين الله بقتلى، فيا سيوف خذينى. اعتاد شقيقه شرف الدين موسى أن يقف لحظات أمام ضريحه المجاور، يتبادلان حواراً عن هموم المريدين وعامة الناس، قبل أن يمضى سيدى أبو العينين فى رحلته إلى الحضرة الزكية.لم يغادر دسوق فى حياته سوى مرات قليلة، لكنه بدّل عادته منذ انضم إلى قضاة الديوان، يسير على الأرضية الخضراء، فى الصحن الواسع، يرنو – فى التفاتته إلى القبة، تتوسط المآذن الأربع، أمامها الميدان الفسيح والحدائق والنافورات وصخب المرور، البيوت على جانبى الميدان يأتنس أهلها بالقرب من ضريح ولى الله.
خرجت – بلا قصد – عما تعهدت به، وألزمت نفسى من الاقتصار على التدوين، أدون ما أراه، أو أسمعه. ساعد الناس إيزيس فى لم أجزاء أوزوريس، اكتمل الجسد، فعادت العافية إلى الروح التى طال رقادها، ذلك ما تأمله سلطانة الصابرين، رئيسة الديوان، المحكمة، من عودة رأس الحسين الشهيد إلى جسده، تسرى الحياة فى اكتمال الجسد.
مضت القرون، الناس يضربون الصدور، ويلطمون الخدود، حزناً لاستشهاد الحسين. آن الأوان كى نتجاوز بكاء الندم إلى الفعل السليم.
أزمعت أن أحرك الناس، أدفعهم إلى هجر الندم والبكاء وإيذاء البدن، والسعى – كل بطريقته – إلى إعادة الجسد المفصول إلى باقى الجسد.
منذ استشهد الحسين، يبكى الناس خذلانه. تخلوا عن الحسين، لم يعانوا الندم إلا بعد أن اجتث الرأس الشريف، من حقه أن ينتصروا له، لا معنى لقبر الجسد فى مدينة، والرأس فى مدينة أخرى، أربعة عشر جزءاً أعادت بها إيزيس جسد أوزوريس إلى تمام اكتماله وعافيته. استشهد الحسين فى دفاعه عن الإسلام، ونصرته للغلابة والمستضعفين.ألفت تردد آل البيت والأقطاب على قاعة المحكمة، عرفتهم بالاسم والسحنة، حفظت الإيماءات والتعبيرات والتصرفات. أشير – دون أن أتثبت – إلى باب القاعة المغلق، ينقرونه للاستئذان، يدخلون.فى ذلك الصباح، تبدل الحال: قدم إلى الجامع من تحل بركاتهم فى القاهرة القديمة، اعتادوا الزيارة فرادى، فى أوقات متباعدة، لم يتخلف عن المجيء أحد: السيدة نفيسة، سيدى على زين العابدين، السيدة عائشة، السيدة سكينة، السيدة رقية، السيدة فاطمة النبوية. تبعهم ما اعتدت قدومه - فى مدى الأيام – على القاعة الشريفة، من نجوم الدين الزاهرة: الأوتاد الأربعة، النقباء العشرة، العرفاء السبعة، المختارون الثلاثة، أحدهم القطب الغوث، البدلاء والنجباء السبعة، الأولياء الثلاثمائة، تركوا حظوظ أنفسهم من جميع ما فى الدنيا، لا يزيدون ولا ينقصون فى توالى الأزمنة، من أخذه الموت، حل مكانه من هو فى مثل علمه. فى أيديهم الشفاعات والشكايات والالتماسات، ما تحفل به صناديق النذور، ويصدر عن الواقفين أمام المقامات والأضرحة، ما حجمه اتساع البلاد من البقاع الطاهرة، يأملون الغوث والاستجابة والفرج، حتى طلاب العلم والمعرفة من المترددين على مكتبة الجامع الإبراهيمى المزدحمة بالمصادر والمراجع فى الفقه والحديث والسير والأدب، كأن زحامهم، داخل الصحن، إشارة القدوم لمريدى الطرق، اتجهوا من حضراتهم والمساجد والأضرحة والمقامات والزوايا، إلى موضع محكمة الديوان، لبى الدعوة مريدون من كل العالم، فاض بهم المكان، علت البيارق والأعلام الملونة، ودقات الطبول والمزاهر والدفوف والطارات. اختلطت أصوات المنشدين وقارئى الأوراد وابتهالات الذاكرين. انطلقوا من الميدان إلى الشوارع المتفرعة، ما لا يحصى عدده من المحبين والتابعين والمحاسيب، وباعة المصاحف وكتب السيرة والأدعية والأوراد والبخور والسبح والمناديل المحلاوى والطواقى المنقوشة.غاب موضعى، لم يعد بوسعى السؤال، ولا الإذن بالدخول، انتظم الولوج من حاله ونفسه. شغل الألوف الميدان، توزعوا فى الشوارع المتفرعة. ميزت صوت نفيسة العلم رائق النبرة:- جئنا لنعين أختنا سيدة الطهر فى استعادة زين شباب الجنة.
عدت إلى جلستى، بعد أن مضت الحشود فى مساراتها. يشغلهم التحرك فى مدى المساحة بين مثوى الجسد فى كربلاء، ومثوى الرأس فى الجامع العتيق، ينتظرون الفيض الإلهى. تعالى الأذان من مئذنة الباتعة، جاوبه رفع الأذان من مآذن الحى الأخرى, وثمة طير انطلق فى تكوينات، وسحب بيضاء متداخلة.
تأمل الذهن ما أفاضت عقيلة بنى هاشم فى شرحه من كرامة لملمة إيزيس للأجزاء الأربعة عشر من جسد أوزوريس، استرد بها الجسد اتصاله، وعافيته.داخلنى يقين أن الحال – باستعادة جسد الحسين العفى – لن يكون هو الحال فى زمن يخلو من النصفة، ثأر الحسين ليس بالقتل وإنما باكتمال الجسد. ذلك هو ثأر إيزيس لأوزوريس، انتصرت – بلم أجزاء جسده – على الشر.إذا كانت أجزاء جسد أوزوريس قد تناثرت فى امتداد نهر النيل، فإننا لن نحتاج إلاّ إلى وصل الجسد المدفون فى كربلاء، والرأس المدفون فى القاهرة، لا يكون يوم استشهاد الحسين يوم نشيج وبكاء ولطم وعذاب للنفس، تسطع البشارة، يقضى على الفوضى والشر والنقصان، يتحقق الاكتمال.