أخاف أن تفلت يدك يدي؛ فيبتلعك الزحام. عادة ما تردد تلك الجملة بوجه تشع منه الطيبة، و الجدية في آن واحد. أفرد قامتي القصيرة، و أمط رقبتي، و أقف على أطراف أصابعي؛ لأبدو أكثر طولا، و أجهد في إقناعها بأنني أستطيع العودة بمفردي إلى الدار، إن توهت في زحمة السوق. أذكرها بأنني أقطع تلك المسافة مئات المرات على مدار الأسبوع، عندما أتسابق مع صبيان النجع؛ فالساحة موضع السوق أيام السبت، و ملعبنا الدائم فيما تبقى من أيام الأسبوع. تذهب محاولاتي سدى، و يشتد بكائي، تجلس بعد عنت و مشقة؛ فظهرها استوطنته الغضاريف، و لكنها أم لخمسة أولاد، و أنى لمن كان مثلها أن يستريح؟! تفترش الأرض، تستقبلني بوجهها، تفتح ذراعيها، أدفن رأسي بين أحضانها. تربت على ظهري بحنو بالغ، تمسد شعري بأصابعها الناعمة، تملأ رائحتها أنفي؛ يقر قلبي، و أنسى أمر البكاء تماما. تعدني بإحضار كل ما طلبت، تبعدني قليلا، و يداها لا تزالان تقبضان على ساعدي، أتمكن من النظر إلى وجهها، تبتسم، و تجاهد؛ كي تقف. تسير بخطوات ثقيلة، تغلق الباب خلفها. أرتقي خمسا و ثلاثين درجة من درجات سلم خرساني داخلي، يسلمني إلى السطح، أدحرج دلوا من الصاج، أقف عليه، و أشرئب إلى حافة السور المبني بالطوب الأحمر، و الذي زاده عامل البناء خمسة مداميك عن المعتاد؛ مخافة سقوط أي من صغار الدار؛ يلامس ذقني الحافة بالكاد؛ تلسعني الحرارة. أمد بصري، أرى حشودا من طرح سوداء، و عمائم بيضاء، و رءوس حاسرة، أرى أجساد رجال، و نساء تتحرك في جميع الاتجاهات، ألمح ألوانا متناثرة في الأفق البعيد؛ حيث ترفرف شيلان، و فساتين، و جلاليب، و أقمشة، أرى خياما و مظلات منصوبة، يقف تحتها الباعة، لا أكترث بلهيب الشمس، و أعد اللحظات، و أنتظر عودتها بفارغ الصبر.
(٢)
ما زلت أقف مكاني، أنتبه، بدا الأمر غريبا للوهلة الأولى؛ فقد لامس خصري حافة السور، بينما تطوح نصفي الأعلى في الهواء، أصبح لي ساعدان قويان أتكئ عليهما، و أصبح لي شارب، و لحية خشنة، تجري عليها أمواس الحلاقة من وقت إلى آخر، ما زالت الشيلان ترفرف على مرمى البصر، لكن ألوانها صارت باهتة في عيني. متى زاد وزني إلى هذه الدرجة؟! أخفض بصري، أرى دلو الصاج مهملا في زاوية، و قد اعتراه الصدأ. قد تأخرت كثيرا اليوم؛ يحرقني الانتظار، أتلهف إلى قطعة الهريسة، و الكرات الملونة الخفيفة، و الحذاء الرياضي الرخيص، الذي سأرمح به وسط الساحة عصرا؛ فأطير كالعصفور، و لا يلحق بي أي من الصبيان. أتلهف إلى حضنها الدافئ، و رائحتها الهادئة الحانية، أتلهف إلى روحي، فعادة ما تغلق الباب خلفها؛ فتسبقها روحي في الطريق، أينما ذهبت.
السوق ينفض، والباعة يلملمون بضائعهم. أنتبه، فجأة إلى يد صغيرة، تجذب طرف قفطاني الطويل الفضفاض؛ ألتفت إليه، و ابتسم، بمجرد أن تقع عيني عليه؛ فيبادلني الابتسام، يقولون: إنه يشبهها كثيرا، تلك التي طالت غيبتها. ألم تبصر استدارة عينيه، و " دقة الحسن" في ذقنه؟! ألم تلحظ لون بشرته، و شكل جبهته، و أنفه، و شفتيه، و خديه؟! كأنه هي؛ كأنه استحوذ على شبهها وحده، و لم يترك للآخرين شيئا. أحاول الجلوس بصعوبة، و عنت، تؤلمني ركبتان، استوطنتهما الخشونة، أحمله بين ذراعي، أشير إلى الساحة الفارغة، أقص عليه حكاية صبي، يقف منذ سنوات طويلة تحت الشمس الحارقة، منتظرا عودة أمه، وقد أضناه الشوق إلى رؤية وجهها، الذي تشع منه الطيبة والنور.
كرم الصباغ
(٢)
ما زلت أقف مكاني، أنتبه، بدا الأمر غريبا للوهلة الأولى؛ فقد لامس خصري حافة السور، بينما تطوح نصفي الأعلى في الهواء، أصبح لي ساعدان قويان أتكئ عليهما، و أصبح لي شارب، و لحية خشنة، تجري عليها أمواس الحلاقة من وقت إلى آخر، ما زالت الشيلان ترفرف على مرمى البصر، لكن ألوانها صارت باهتة في عيني. متى زاد وزني إلى هذه الدرجة؟! أخفض بصري، أرى دلو الصاج مهملا في زاوية، و قد اعتراه الصدأ. قد تأخرت كثيرا اليوم؛ يحرقني الانتظار، أتلهف إلى قطعة الهريسة، و الكرات الملونة الخفيفة، و الحذاء الرياضي الرخيص، الذي سأرمح به وسط الساحة عصرا؛ فأطير كالعصفور، و لا يلحق بي أي من الصبيان. أتلهف إلى حضنها الدافئ، و رائحتها الهادئة الحانية، أتلهف إلى روحي، فعادة ما تغلق الباب خلفها؛ فتسبقها روحي في الطريق، أينما ذهبت.
السوق ينفض، والباعة يلملمون بضائعهم. أنتبه، فجأة إلى يد صغيرة، تجذب طرف قفطاني الطويل الفضفاض؛ ألتفت إليه، و ابتسم، بمجرد أن تقع عيني عليه؛ فيبادلني الابتسام، يقولون: إنه يشبهها كثيرا، تلك التي طالت غيبتها. ألم تبصر استدارة عينيه، و " دقة الحسن" في ذقنه؟! ألم تلحظ لون بشرته، و شكل جبهته، و أنفه، و شفتيه، و خديه؟! كأنه هي؛ كأنه استحوذ على شبهها وحده، و لم يترك للآخرين شيئا. أحاول الجلوس بصعوبة، و عنت، تؤلمني ركبتان، استوطنتهما الخشونة، أحمله بين ذراعي، أشير إلى الساحة الفارغة، أقص عليه حكاية صبي، يقف منذ سنوات طويلة تحت الشمس الحارقة، منتظرا عودة أمه، وقد أضناه الشوق إلى رؤية وجهها، الذي تشع منه الطيبة والنور.
كرم الصباغ