انتظرت كثيرًا أن تأتي، كان لابدّ أن تأتي ذات يوم مرصوص الأحزان، دامع النّظرات، كئيب المساء، ولكن أكان ضروريا أن تطلّ من نافذة العطب، أكان ضروريا أن تأتي على حصان أعرج يخطئ الخطى، يتعثّر كلما حاول الرّكض، وأبدا ليس كما الروايات يطير.
مرّ العمر وتناسيت الأمر وهاهو نفس الحصان يعود بتلك العاهة التي رأيتها فيه آخر مرة، وكما اعتدنا بقربي جلست، كنت تحكي عن كل الخوارق التي مررت بها، عن كل الملوك الذين طاردوك من بلاد لبلاد، من عجب لأعجب، ومن قلب لآخر لا ينتهي إلا عندي…
بفرح طفولي أعجبتُ بلباسك الإمبراطوري، قلّبت أجزاءه المتساقطة على كتفك، تأملت طويلا ذلك السّيف الذي اعتلاه: أقاتلت به حقًا؟ أقتلت به روحا ذات يوم؟ كيف إذن ستحبني وأنت بدل أن تحمل لي زهرة حملت سيفا؟.. كنت تحكي بدهشة لم أستوعب معظمها، وتبدأ معي حربا سلمية. هل توجد حقا حرب سلمية؟ كيف وأنت تحمل هذا السّيف على كتفك وذاك العرج على حصانك… قلتَ بعد أن عدلت شالي الأزرق المتدلّي كالذاكرة على كتفي:
– «نلتقي، أنتظرك غدًا».
ثم أردفت:
– «في منزلي… سيكون آخر طلب».
آلمني كثيرا هذا الطلب المتكرّر منك، وآلمني أكثر قولك أنه سيكون آخر طلب، أهي دعوة سرّية للفراق إذن؟ فكرت كثيرًا في طلبك من قبل حتى تآكلت خلايا رأسي، مزعجة جدًا تلك القرارات التي تؤلمنا والخطوات التي نمشيها على عجل بألم ونحن نعلم أنها ممنوعة ومحرّمة ورغم ذلك نمضي حتى لو قيل فيها حتفنا، أشفقت عليك، أعلم أن المرض بدأ ينخر عظامك، ولحظات الحرمان لسنوات قد فاقت حدود المعقول، وأمام كل هذه التناقضات لم أجد ما أقول… أومأت لك برأسي أن سآتي، وذهبت…
بثوب مستعار فكرت أن أزورك غدًا، أحقا أستطيع أن ألقاك في هذا البلد الكتوم الذي لا يلد إلا العاهات ولا يُنطق إلا ليُخرص، ما أتعسنا حين نسكن مدينة لا تسكننا، بل حين نبحث فيها عن هذه المحبة فلا نجد إلا «تلك» حينها نملأ الذاكرة بكل الفراغات التي نخالها وطن…
سرتُ ورعشة الخوف والرغبة تسكن قلب امرأة ما عادت تدري أهي فاجرة أم طاهرة، كنتُ لا أزال في ذلك الشّارع الذي كان يبتلع البشر بخطاهم وخطاياهم، بل لم يكن يسألهم حتى أين وجهتهم، كنت أدري أنّني سأذهب إلى الفاجعة على أصابع ضياعي. في الواجهة أين محل العطور، كان ينبغي أن أتجه يمينا ولكن لا أعلم لماذا دخلته، بما أنني امرأة تهتمّ بأنوثتها فالمؤكد أن فكرة ابتياع عطر فاتن لن تفوتني. حملت عطرا رأيته أنسب لعرس الوداع، وضعته على عجل داخل حقيبة يدي بعدما عطرت به جيدي ليمتزج برائحة جسدي، دون أن أكترث لسعره وتابعت النسمات الموصلة إليك علني ألتقيك خارج ذلك المنزل بعيدا عن الريبة والقلق…
تتعبني طلباتك الثّقيلة بحجم مدينة عانس تنوح كلما ضاع منها عريس، ما أشفقنا على أنفسنا حين نحاول أن نسمو بحبّ جميل فنتفاجأ بأننا كنا يوما بعد آخر ننزل به إلى الحضيض، ما أغرب قصصنا والحبّ… ما أتعس كلّ من سعوا إليه فجرفهم التّيار وساروا عكسه يسبحون طمعا في الوصول، لكن دون أن يصلوا…
طرقة خفيفة ثم طرقتان متتابعتان كانتا كلمة المرور، فتحتَ مُخفيا جسمك وراء الباب، فاندلفت… أخيرا، انتهت لحظات القلق والخوف، حين نتجه نحو الحماقة والخطأ بوعي فمن المؤكد سوف نخاف وتتسارع نبضات قلوبنا عند كل شارع أو منعطف لأننا نشكّ أن عينا جاسوسة ترقبنا من حيث لا ندري ولا نحتسب…
كيف لامرأة تعشق الورق وتكتب بمداد مستحيل الترويض أن تنسى فكرة ملاقاة رجل أحبت نصفه داخل كتاب ووجدت نصفه الآخر مطروحا في الطريق، أيكون مثل المعاني التي قال عنها الجاحظ أنها مطروحة في الطريق؟ وأنا من ركضت إليه بذاكرة امرأة محشوّة بالأحلام ووهم الأفلام، همّها الوحيد أن تعرف الفعل والفاعل والمفعول به لتجد نفسها لا تقع في النّهاية إلاّ على الجمل المبنية للمجهول ولا تعرب إلاّ نائب الفاعل الذي بات أمره يقلقها… امرأة لا تفهم من الحبّ سوى الرّسم على لوحات الجنون سمفونية لا تكتمل، كلما زاد فيها خطّ اتسعت كمحيط بائس.
آخر مرة حين التقينا… كان هناك مساحة كبيرة للفرجة داخل قلبي بعضها للفرح وبعضها للحزن والكثير الكثير للذكرى… كانت نظراتنا أشبه بتلك التي تحدث الزلازل، تحدث الزلل، والأكثر من هذا وذاك كانت تخلق الفواجع، فلماذا رميتُ بذاكرتي على هامش صفحة كانت لا تختزل الحزن بقدر ما اختزلت صوري؟ ولا أتعس وأشقى عند امرأة من أن يقدم شخص تهواه على اختزالها داخل مساحة لا تعدو كونها مستقيما يملأ هوامش الصفحات…
فرح الفؤاد حين أجبت على الهاتف بتلقائيتك الجميلة التي كانت ترسم لك في ذاكرتي ملامح أجمل وأروع من تلك التي يمكن أن يخلفها اتصال:
– «أنا في طريقي إليك»
وسعدتُ كما الأطفال وهم يستعدون لدهشة قد تخلّفها رؤية لحديقة سرية ساحرة:
– «حقا؟»…
ولم تجب بعدها… منذ ذلك الاتصال انقطع بيننا كل اتصال لأسكن أنا هامشك وتهرب أنت داخل سواد معطفك، ولم نعلّق…
آه شاعري… كيف صرت شاعرًا وقد حملت ذات يوم سيفا على كتفك وعرجا على حصانك… فتجيبني بسخرية:
– «أولم يكن ابن شداد فارسا وشاعرا معا؟».
فأضحك ببلاهة على سذاجتي:
– «نسيت…فقط نسيت…».
يحدث أن يصبح النسيان عدوًا يقتحمنا في أكبر اللحظات حماقة ليحرجنا فقط لا غير.
لم أكن أبدا أشبه هيلين ولا كانت لدي جرأة كليوباترا وجمالها فلماذا تحاول أن تجعلني نسخة عن إحداهما وأنا أدرك تماما أنني لا أشبههما سوى في كوني امرأة.
ها أنت اليوم أمامي، تقف بمحاذاة جرحي… تنتعل صمتك وتمشي إليّ على مهل. تصافحنا كما لم نفعل من قبل، كدنا أن نقترب أكثر لكننا انتبهنا إلى المكان العام الذي رُمينا فيه. قلتَ لي:
– «كيف أنت …توحشتك بزاف».
أوه شاعري… ما أروع كلماتك حتى في بساطتها، أسعدتني كثيرا، ذكرتني بأيام الجامعة حين كنا نلتقي للحظات، نراوغ ذاكرتنا المشتركة… نتعانق بالنظرات لا غير… هاهي سنوات الجامعة ولّت لنلتقي بعد خمس سنوات أطفأنا فيها خطايانا بعيدا عن الأمكنة، شاديين بالأمكنة:
«الأماكن كلّها مشتاقة لك…والعيون الّلي انرسم فيها خيالك… والحنين اللّي سرى بروحي وجا لك… وما هو بس أنا حبيبي… الأماكن كلها مشتاقة لك…»
فأبكي و تبكي الأماكن لغيابك، كيف إذن لا أحن للأماكن التي قبّلت ذات مساء جنوننا فجُنّت… وجننّا… منذ ذلك الحين سكننا الجنون ولم يغادرنا… لكننا غادرنا ذلك المكان… منذ سنوات… ها أنا اليوم أحتفي برؤيتك على أرض لم تستوعب بعدُ هذا الجنون، أرض كلّها حياء… طيبة… هدوء… فرُحنا احتراما لها نمارس طقوسها فنصمت ونصمت ووحدها الرغبة تصهل… تنفلت…
قلتُ بعد أن ضغطت بقوة على يدك:
– «سعيدة…سعيدة حدّ البكاء».
أجبت و أنت تمرّر سبابتك على خدي كأنك تلاطف طفلا:
– «لا تبك أيتها الغبية… أنا هنا… أنا معك…».
فتنزل رغما عني دموعي المشتاقة قبل أن تصلها كلماتك…
مشينا معًا إلى حيث يُقام عرس الأدباء الذي كان سبب زيارتك بلدتي… وكورق خريف أرتجف… أغتسل بما أغدقت به نظراتك ثم أعانقك… ورقة خريفية أنا، وشجرة شتاء عارية… أنت، فلماذا سقطتُ من عمرك يا كلّ العمر؟… ولماذا أهملتني في الأواخر من هذا الشّهر؟…
هي ذي أنا… أعود مرّة أخرى إلى بدائيتي الأولى، أريد أن أدخل عالم الحضارة على يديك، تعلم أنني امرأة أضناها الرّكض وراء كلماتك الهاربة وأتعبها تعب استعاراتك المستعرة وكناياتك المستترة… أريد أن تأخذ مرّة أخرى حروفي بين أحضانك علّها تحبو على يديك، فتمدّ لها يد الحرف لتمشي من جديد نحو غد جديد… آه شاعري… متعب جدا هو الرّكض وراء حروفك، ومتعب أكثر هو غيابك… أتراك مثل الغيم حين تحزن تذهب بعيدا بألمك وحزنك لتخفي في أحد الصّحاري الخالية دمعاتك وخيباتك… مثلي أنا؟…
الوقت ظهر، والرّبيع يبتسم لأول مرّة بعد شتاء قارس لم يهدأ إلا في أواخر مارس. تحدّثنا معا، تذكّرنا اللحظات التي سعدنا بها ولم تسعدنا، تذكرنا نظراتنا، كلماتنا، حزننا الغريب… تذكرنا… وذكّرنا آذان العصر بموعد الرّحيل.
سعدتَ كثيراً، شعرتُ بذلك، كانت يداك تساعدانك على تجسيد أقوالك كطفل بريء… قلت لك بسعادة:
– «تغيّرت قليلا، لقد صرت تنكّت وتبتسم وأنت من يمتلك أكبر عرش للحزن».
أجبت والابتسامة لا تزال تطبع فرحة على شفتيك وتمنحك ملامحا أخرى أجمل:
– «لقد نقل لي أصدقائي الذين يسكنون معي عدوى التنكيت، صدقيني حتى طاولة لو باتت معهم لأصبحت تنكّت».
– «ولكن لا يزال السواد يسكنك… أنظر… لا زلت ترتدي الأسود و يرتديك».
صمتنا قليلا… كنا نجلس بالقرب من تلك البوابة التي تستقبل الضيوف، الجوّ كان متواطئا معنا… غطّى الشّمس بياض حزين بينما أبحرت أنا في حزنك وفي معطفك الحالك السواد… مدّدت يدي إليك في شجاعة أذهلتك،عجبا… أما علمت شوقي إليك؟…
حضنت يدي، ومعها احتضنت عمري وصار بيدك أمري…
– «سمعت أنكَ كتبت محاولة روائية، أهي بحوزتك الآن؟».
ضغطت على يدي وأنت تطالع ملامح وجهي التي غابت عنك لسنوات، ثم قلت بعد أن استعدت نبرتك المحاضرة:
– «لم أنهها بعد، لكن يمكنك قراءتها فهي معي».
ودون أن أواسيك بكلمات تشجيع أو أفرط في الفرح، أمسكت بتلك الوريقات التي سحبتها من محفظتك، تاركة يدك للفراغ طمعا في أن تفتش عن باقي الشهوة وترتدي ذاك الجنون الحزين الذي لطالما ارتديناه أيام جامعة النصر التي نصرت علينا أحزاننا أكثر من نصرتها الوطن…
بعينين تعشق الورق وأنامل تفرط في الارتباك والقلق قلّبت الصّفحات، أقرأ ما وقعت عليه من تعابير تشبه حزنك إلى حدّ كبير… أوقفتني كلمة لم أتوقّع أن أجدها داخل روايتك، أو ربما كنت أخشى أن أجدها تندسّ مرة أخرى داخل كتاباتك مثلما وجدتها ذات لقاء جامعي:
– «ألم تتب عن هذا الاسم بعد؟ ألم تجد غيرها لتزيّن بها روايتك؟».
وبنبرة من يخشى اكتشاف أمر مريب أو يوجّه له اتهام غريب، قلت:
– «من؟».
ودون أن انطق بالاسم لفرط حقدي عليه، وضعت سبابتي اليسرى على كلمة «كريمة»، موجّهة إليك الصفحة لتراها…
– «لم أتعمّد ذلك، ولا أظنّ أنني أقصدها».
– «بل أنت حتى الآن ما تنفك تذكرها ولا تتوان لحظة واحدة في تقبيلها بكلماتك وتزينها بأساليبك، و…»، و قبل أن أكمل وضعتَ إصبعيك: الوسطى والسبابة على شفتي فارتجفت وسكتت شهرزاد داخلي بعدما صاح الدّيك، وحان وقت العودة، وقفت مشيرة لساعة يدي، معتذرة عن رحيلي الذي كان لابد منه، قلتَ كمن يلقي قصيدة:
– «أنت في حياتي كريمة أخرى… كلماتك… ارتباك خطك… نقاط الحذف برسالاتك… لا أقصد من وراء ذلك أنني لا أفكر فيك إلا لأفكر بكريمة… لا… أنت إنسانة تجعلني أحزن، والأجمل من ذلك هو أنها تجعلني أعشق لحظة الحزن تلك …»
ودّعتك بابتسامة حزينة، مشيتُ بضع خطوات، ارتعشت اللحظات وبكى القلب كما الأطفال، ثم بأعلى صوت صرخ… حينها لم أحتمل، عدت أمحو تلك الخطوات التي مشيتها، كنتَ لا تزال واقفا على دهشتك، ترقب بسوادك الحزين رحيلي، قلتُ لك بعد أن تأملتك طويلا:
– «نبغيك…»
حينها اهتز ملكوت حزنك، أحسست بذلك لأن تردد اهتزازه قد أصاب بعضي، بل كلّي وأدركت أخيرا أنني استطعت أن أنحت على قلبك لحظة لن تنساها ولو أحببت ألف امرأة بعدي… ما من امرأة ستقولها لك في هذا المكان وعلى هذه الطريقة، وفي مثل هذا الوقت المحاذي للجنون… رحلتُ بعدما تيقنت أنني أحمل الآن بعضا من أسلحتك البريئة التي ستحميني من رجولة حرفك ولو لشبه عمر… في تلك اللّحظة توقف الكلام وابتلعت الرّيح آثارنا المنسية قرب ذلك الباب الهادئ…
…
جمعت رسائلك التي جادت بها أناملك يوما، أعدتها إلى مخبئها الذي لا يعرفه غيري و أنا أقول:«كان ينبغي أن تموت، رغما عني كان ينبغي أن أخفيك من عالمي ومن ذاكرتي مذ أشهرت في وجهي مسدسك الذي لم يكن يحمل سوى رصاصة واحدة كانت: «كريمة»، وقبل أن تصلني الرصاصة كنت قد مزقت أمامك وريقات «زمن الورقاء»، بعد أن قتلتُ ياسر الذي تقمصت دوره وأخفيت نفسك فيه، كان بريئا ورغم ذلك قتلته بعدما قررتَ العودة إلى وطنك… إلى حزنك… إلى السياسة التي كانت تقف شراعا في وجه رياح حبنا فتسير ويسير لنصل في الأخير إلى شبه وطن ونصبح أشباه مواطنين لا أكثر.
يسكننا الفراغ والرّغبة والرّهبة، ونساء ناقصات عقل ودين يحلمن أن يخطفهن رجل كائنا من يكون من مدينة العنوسة تلك، فتسعدن وتخضبن أيديهن بالحنّاء استعدادا لهذا العريس، إلا أنا… لم أهدك شيئا… لم أتزين لأجلك، كان الوقت لا يكفي لذلك ولا خيار أمامي سوى أن أختار الطريقة المناسبة لأقتلك بعدما قتلت كل أحاسيس المرأة الجميلة داخلي، فأرقب اليوم موتك البطيء، ودعني أحتفي بموتك على يدي مادمت قد تمرّدت على قانوني وخنت ثقتي وأنت تعلم أن عالمك ينتهي عندي و أن كل الأشياء ليست إلا تجليات لشيء واحد وفريد كما قال الخيميائي، أنسيته هو الآخر مثلما نسيتني… ودعني لا أكون في حياتك مجرد عابرة سرير وعابرة خطيئة منتظمة… و… جوع… دع هاتفي هو الآخر يرتاح من اهتزازة كل ليلة على طاولة شوق، ففي النّهاية لن يحصل إلا على طاولة شوك، صار مثلي لا يغريه اللقاء بقدر ما يغريه البعد والفراق… أنظر… صرت أشبهك، أحترف الصّبر كما تفعل أنت دائما، تعلمته قهرًا منك وصرت أنضج بهدوء على حزنك مثلما ينضج الفول السوداني على رمال أدرار الحارقة، فلا تغريني بعد اليوم بالصبر، يكفيني ما لقيت من صبر الصبر…
سنوات كثيرة مضت، اختلفنا… ابتعدنا… تهنا… وتقاطعت كلماتنا عند منعرج النسيان، أفلا كنتَ رسمتنا على مربع غريماس المبني على التّقابل والتّضاد… يشبهنا حقا… يفهمنا جيدا حين يرمي بكل واحد منا إلى زاوية لا تحقق معها التقابل بقدر ما تحقق التضاد…
كان الشّاطئ أشبه بجزيرة هجرها عشاقها، عافها صيادوها بعدما ماتت أسماكها، وكنت أنا هنا أتعقب أشواقك… عفوا… أشواكك التي كانت تهاجر مع النوارس إلى الضّفة الأخرى وأنظف ما علق من خطاياك على نعلي وفي طرف ثوبي الأسود الذي كان يشبهك أكثر مما يشبهني ويتواطأ مع حزنك أيضا… وهناك فوق موج البحر الحزين تنقل وجهك الأسمر، حزينا كعادته، وبجواره وريقات بيضاء وبيدك محفظة، متأكدة أن كلماتك كانت في صراع داخلي مع كلماتي حتى أن صوت شجارها وصلني، فكيف لم تنتبه لها وأنت تدعي أنك أستاذ لغة…
لوّحتُ لك… لوّحت بكلتا فرحتي وراحتي… ناديتك مهرولة… مستدركة… مدركة… المطر ينزلق على وجهك… كأنما من الخطايا يغسلك، وصورتك تُمحى خطيئة فخطيئة وقطرة فقطرة… ويهطل المطر… أخيرا اغتسلت جميع ملامحك وأجزائك وإذا بالمطر قد أذابك ومحى آثارك التي ذابت كملح البحر لتزيده ملحا على ملحه دون أن يأبه…
ها أنت يا شاعري… مرّة أخرى رحلت… فرُحت بقطرات المطر أغسلك مما ترسب فيك من ألم ولم أعلم أنني غسلت كامل ذاكرتك منها… ومنّي… وقد نويت أن تغسلها منها فقط… من كريمة… لاغير… رحلت أخيرا يا شاعري… قررت أن تتركنا معا مقدما حروفك قربانا للصّمت… والفجيعة… رحلت ولم تترك سوى سيفك ولباسك الإمبراطوري الذي بهرني يوما… وذاك العرج الذي كان على حصانك يوما منقوشا على بلاط ذاكرتي لتمطر بغزارة… الصّور… فتسكن أنت هذا الصمت… وأسكن أنا ذاك الحلم…
…
بعد سنوات قرأ قصّتها فكتب لها خطابا:
«غاليتي:
أن يُكتب عمرك على هامش صفحة قد يعني ذلك أنّ في حياتك ما يستحق… فالحياة الحقيقية هي تلك الّتي يصنعها الهامش باقتدار ثمّ ينسحب تاركا للغوغاء كلّ الأضواء القذرة».
هكذا أجابها وانسحب تاركا لها أن تعتز بهامشية العلاقة التي جمعتهما على الورق دهرا وفي الواقع حينا من الدهر، علّمها طيلة كلّ الفجائع العشقية الماضية كيف تقتات من جثة أحلامها على أمل اللّقاء وعلّمته أنّ الحبّ مزيج من الكذب المتبادل وشعرة من صبر يمدّ في عمرها صبر طرف عاشق ليس إلاّ…
في الحبّ كما في الحلم الجميل لا ينبغي أن تستيقظ لأنّك إن فعلت تبخّر كلّ شيء…
على هامش صفحة مضى بعض العمر وعلى هامش صفحة أخرى قضى كلّ الحلم…
قال لها إنّ اسمها بلقيس ولكن لسوء حظّها لا هدهد ينقل الأخبار الجميلة في هذا الزّمن البوار ولا سليمان في هذا الزمن يهتم لأمر يحمله طائر من سبأ إلى قلبه ولا جان باستطاعته إحضار عرشها قبل خفقة من قلبه أو حتى قبل أن ترتدّ إليه إنسانيته… فمذ رحلت بلقيس بحّ صوت النّاي وارتحل البجع إلى غير رجعة…
* القصّة الفائزة بالمرتبة الثّانية في مسابقة مجلة «نفحة» للقصّة القصيرة 2015
* منقول عن موقع نفجة
مرّ العمر وتناسيت الأمر وهاهو نفس الحصان يعود بتلك العاهة التي رأيتها فيه آخر مرة، وكما اعتدنا بقربي جلست، كنت تحكي عن كل الخوارق التي مررت بها، عن كل الملوك الذين طاردوك من بلاد لبلاد، من عجب لأعجب، ومن قلب لآخر لا ينتهي إلا عندي…
بفرح طفولي أعجبتُ بلباسك الإمبراطوري، قلّبت أجزاءه المتساقطة على كتفك، تأملت طويلا ذلك السّيف الذي اعتلاه: أقاتلت به حقًا؟ أقتلت به روحا ذات يوم؟ كيف إذن ستحبني وأنت بدل أن تحمل لي زهرة حملت سيفا؟.. كنت تحكي بدهشة لم أستوعب معظمها، وتبدأ معي حربا سلمية. هل توجد حقا حرب سلمية؟ كيف وأنت تحمل هذا السّيف على كتفك وذاك العرج على حصانك… قلتَ بعد أن عدلت شالي الأزرق المتدلّي كالذاكرة على كتفي:
– «نلتقي، أنتظرك غدًا».
ثم أردفت:
– «في منزلي… سيكون آخر طلب».
آلمني كثيرا هذا الطلب المتكرّر منك، وآلمني أكثر قولك أنه سيكون آخر طلب، أهي دعوة سرّية للفراق إذن؟ فكرت كثيرًا في طلبك من قبل حتى تآكلت خلايا رأسي، مزعجة جدًا تلك القرارات التي تؤلمنا والخطوات التي نمشيها على عجل بألم ونحن نعلم أنها ممنوعة ومحرّمة ورغم ذلك نمضي حتى لو قيل فيها حتفنا، أشفقت عليك، أعلم أن المرض بدأ ينخر عظامك، ولحظات الحرمان لسنوات قد فاقت حدود المعقول، وأمام كل هذه التناقضات لم أجد ما أقول… أومأت لك برأسي أن سآتي، وذهبت…
بثوب مستعار فكرت أن أزورك غدًا، أحقا أستطيع أن ألقاك في هذا البلد الكتوم الذي لا يلد إلا العاهات ولا يُنطق إلا ليُخرص، ما أتعسنا حين نسكن مدينة لا تسكننا، بل حين نبحث فيها عن هذه المحبة فلا نجد إلا «تلك» حينها نملأ الذاكرة بكل الفراغات التي نخالها وطن…
سرتُ ورعشة الخوف والرغبة تسكن قلب امرأة ما عادت تدري أهي فاجرة أم طاهرة، كنتُ لا أزال في ذلك الشّارع الذي كان يبتلع البشر بخطاهم وخطاياهم، بل لم يكن يسألهم حتى أين وجهتهم، كنت أدري أنّني سأذهب إلى الفاجعة على أصابع ضياعي. في الواجهة أين محل العطور، كان ينبغي أن أتجه يمينا ولكن لا أعلم لماذا دخلته، بما أنني امرأة تهتمّ بأنوثتها فالمؤكد أن فكرة ابتياع عطر فاتن لن تفوتني. حملت عطرا رأيته أنسب لعرس الوداع، وضعته على عجل داخل حقيبة يدي بعدما عطرت به جيدي ليمتزج برائحة جسدي، دون أن أكترث لسعره وتابعت النسمات الموصلة إليك علني ألتقيك خارج ذلك المنزل بعيدا عن الريبة والقلق…
تتعبني طلباتك الثّقيلة بحجم مدينة عانس تنوح كلما ضاع منها عريس، ما أشفقنا على أنفسنا حين نحاول أن نسمو بحبّ جميل فنتفاجأ بأننا كنا يوما بعد آخر ننزل به إلى الحضيض، ما أغرب قصصنا والحبّ… ما أتعس كلّ من سعوا إليه فجرفهم التّيار وساروا عكسه يسبحون طمعا في الوصول، لكن دون أن يصلوا…
طرقة خفيفة ثم طرقتان متتابعتان كانتا كلمة المرور، فتحتَ مُخفيا جسمك وراء الباب، فاندلفت… أخيرا، انتهت لحظات القلق والخوف، حين نتجه نحو الحماقة والخطأ بوعي فمن المؤكد سوف نخاف وتتسارع نبضات قلوبنا عند كل شارع أو منعطف لأننا نشكّ أن عينا جاسوسة ترقبنا من حيث لا ندري ولا نحتسب…
كيف لامرأة تعشق الورق وتكتب بمداد مستحيل الترويض أن تنسى فكرة ملاقاة رجل أحبت نصفه داخل كتاب ووجدت نصفه الآخر مطروحا في الطريق، أيكون مثل المعاني التي قال عنها الجاحظ أنها مطروحة في الطريق؟ وأنا من ركضت إليه بذاكرة امرأة محشوّة بالأحلام ووهم الأفلام، همّها الوحيد أن تعرف الفعل والفاعل والمفعول به لتجد نفسها لا تقع في النّهاية إلاّ على الجمل المبنية للمجهول ولا تعرب إلاّ نائب الفاعل الذي بات أمره يقلقها… امرأة لا تفهم من الحبّ سوى الرّسم على لوحات الجنون سمفونية لا تكتمل، كلما زاد فيها خطّ اتسعت كمحيط بائس.
آخر مرة حين التقينا… كان هناك مساحة كبيرة للفرجة داخل قلبي بعضها للفرح وبعضها للحزن والكثير الكثير للذكرى… كانت نظراتنا أشبه بتلك التي تحدث الزلازل، تحدث الزلل، والأكثر من هذا وذاك كانت تخلق الفواجع، فلماذا رميتُ بذاكرتي على هامش صفحة كانت لا تختزل الحزن بقدر ما اختزلت صوري؟ ولا أتعس وأشقى عند امرأة من أن يقدم شخص تهواه على اختزالها داخل مساحة لا تعدو كونها مستقيما يملأ هوامش الصفحات…
فرح الفؤاد حين أجبت على الهاتف بتلقائيتك الجميلة التي كانت ترسم لك في ذاكرتي ملامح أجمل وأروع من تلك التي يمكن أن يخلفها اتصال:
– «أنا في طريقي إليك»
وسعدتُ كما الأطفال وهم يستعدون لدهشة قد تخلّفها رؤية لحديقة سرية ساحرة:
– «حقا؟»…
ولم تجب بعدها… منذ ذلك الاتصال انقطع بيننا كل اتصال لأسكن أنا هامشك وتهرب أنت داخل سواد معطفك، ولم نعلّق…
آه شاعري… كيف صرت شاعرًا وقد حملت ذات يوم سيفا على كتفك وعرجا على حصانك… فتجيبني بسخرية:
– «أولم يكن ابن شداد فارسا وشاعرا معا؟».
فأضحك ببلاهة على سذاجتي:
– «نسيت…فقط نسيت…».
يحدث أن يصبح النسيان عدوًا يقتحمنا في أكبر اللحظات حماقة ليحرجنا فقط لا غير.
لم أكن أبدا أشبه هيلين ولا كانت لدي جرأة كليوباترا وجمالها فلماذا تحاول أن تجعلني نسخة عن إحداهما وأنا أدرك تماما أنني لا أشبههما سوى في كوني امرأة.
ها أنت اليوم أمامي، تقف بمحاذاة جرحي… تنتعل صمتك وتمشي إليّ على مهل. تصافحنا كما لم نفعل من قبل، كدنا أن نقترب أكثر لكننا انتبهنا إلى المكان العام الذي رُمينا فيه. قلتَ لي:
– «كيف أنت …توحشتك بزاف».
أوه شاعري… ما أروع كلماتك حتى في بساطتها، أسعدتني كثيرا، ذكرتني بأيام الجامعة حين كنا نلتقي للحظات، نراوغ ذاكرتنا المشتركة… نتعانق بالنظرات لا غير… هاهي سنوات الجامعة ولّت لنلتقي بعد خمس سنوات أطفأنا فيها خطايانا بعيدا عن الأمكنة، شاديين بالأمكنة:
«الأماكن كلّها مشتاقة لك…والعيون الّلي انرسم فيها خيالك… والحنين اللّي سرى بروحي وجا لك… وما هو بس أنا حبيبي… الأماكن كلها مشتاقة لك…»
فأبكي و تبكي الأماكن لغيابك، كيف إذن لا أحن للأماكن التي قبّلت ذات مساء جنوننا فجُنّت… وجننّا… منذ ذلك الحين سكننا الجنون ولم يغادرنا… لكننا غادرنا ذلك المكان… منذ سنوات… ها أنا اليوم أحتفي برؤيتك على أرض لم تستوعب بعدُ هذا الجنون، أرض كلّها حياء… طيبة… هدوء… فرُحنا احتراما لها نمارس طقوسها فنصمت ونصمت ووحدها الرغبة تصهل… تنفلت…
قلتُ بعد أن ضغطت بقوة على يدك:
– «سعيدة…سعيدة حدّ البكاء».
أجبت و أنت تمرّر سبابتك على خدي كأنك تلاطف طفلا:
– «لا تبك أيتها الغبية… أنا هنا… أنا معك…».
فتنزل رغما عني دموعي المشتاقة قبل أن تصلها كلماتك…
مشينا معًا إلى حيث يُقام عرس الأدباء الذي كان سبب زيارتك بلدتي… وكورق خريف أرتجف… أغتسل بما أغدقت به نظراتك ثم أعانقك… ورقة خريفية أنا، وشجرة شتاء عارية… أنت، فلماذا سقطتُ من عمرك يا كلّ العمر؟… ولماذا أهملتني في الأواخر من هذا الشّهر؟…
هي ذي أنا… أعود مرّة أخرى إلى بدائيتي الأولى، أريد أن أدخل عالم الحضارة على يديك، تعلم أنني امرأة أضناها الرّكض وراء كلماتك الهاربة وأتعبها تعب استعاراتك المستعرة وكناياتك المستترة… أريد أن تأخذ مرّة أخرى حروفي بين أحضانك علّها تحبو على يديك، فتمدّ لها يد الحرف لتمشي من جديد نحو غد جديد… آه شاعري… متعب جدا هو الرّكض وراء حروفك، ومتعب أكثر هو غيابك… أتراك مثل الغيم حين تحزن تذهب بعيدا بألمك وحزنك لتخفي في أحد الصّحاري الخالية دمعاتك وخيباتك… مثلي أنا؟…
الوقت ظهر، والرّبيع يبتسم لأول مرّة بعد شتاء قارس لم يهدأ إلا في أواخر مارس. تحدّثنا معا، تذكّرنا اللحظات التي سعدنا بها ولم تسعدنا، تذكرنا نظراتنا، كلماتنا، حزننا الغريب… تذكرنا… وذكّرنا آذان العصر بموعد الرّحيل.
سعدتَ كثيراً، شعرتُ بذلك، كانت يداك تساعدانك على تجسيد أقوالك كطفل بريء… قلت لك بسعادة:
– «تغيّرت قليلا، لقد صرت تنكّت وتبتسم وأنت من يمتلك أكبر عرش للحزن».
أجبت والابتسامة لا تزال تطبع فرحة على شفتيك وتمنحك ملامحا أخرى أجمل:
– «لقد نقل لي أصدقائي الذين يسكنون معي عدوى التنكيت، صدقيني حتى طاولة لو باتت معهم لأصبحت تنكّت».
– «ولكن لا يزال السواد يسكنك… أنظر… لا زلت ترتدي الأسود و يرتديك».
صمتنا قليلا… كنا نجلس بالقرب من تلك البوابة التي تستقبل الضيوف، الجوّ كان متواطئا معنا… غطّى الشّمس بياض حزين بينما أبحرت أنا في حزنك وفي معطفك الحالك السواد… مدّدت يدي إليك في شجاعة أذهلتك،عجبا… أما علمت شوقي إليك؟…
حضنت يدي، ومعها احتضنت عمري وصار بيدك أمري…
– «سمعت أنكَ كتبت محاولة روائية، أهي بحوزتك الآن؟».
ضغطت على يدي وأنت تطالع ملامح وجهي التي غابت عنك لسنوات، ثم قلت بعد أن استعدت نبرتك المحاضرة:
– «لم أنهها بعد، لكن يمكنك قراءتها فهي معي».
ودون أن أواسيك بكلمات تشجيع أو أفرط في الفرح، أمسكت بتلك الوريقات التي سحبتها من محفظتك، تاركة يدك للفراغ طمعا في أن تفتش عن باقي الشهوة وترتدي ذاك الجنون الحزين الذي لطالما ارتديناه أيام جامعة النصر التي نصرت علينا أحزاننا أكثر من نصرتها الوطن…
بعينين تعشق الورق وأنامل تفرط في الارتباك والقلق قلّبت الصّفحات، أقرأ ما وقعت عليه من تعابير تشبه حزنك إلى حدّ كبير… أوقفتني كلمة لم أتوقّع أن أجدها داخل روايتك، أو ربما كنت أخشى أن أجدها تندسّ مرة أخرى داخل كتاباتك مثلما وجدتها ذات لقاء جامعي:
– «ألم تتب عن هذا الاسم بعد؟ ألم تجد غيرها لتزيّن بها روايتك؟».
وبنبرة من يخشى اكتشاف أمر مريب أو يوجّه له اتهام غريب، قلت:
– «من؟».
ودون أن انطق بالاسم لفرط حقدي عليه، وضعت سبابتي اليسرى على كلمة «كريمة»، موجّهة إليك الصفحة لتراها…
– «لم أتعمّد ذلك، ولا أظنّ أنني أقصدها».
– «بل أنت حتى الآن ما تنفك تذكرها ولا تتوان لحظة واحدة في تقبيلها بكلماتك وتزينها بأساليبك، و…»، و قبل أن أكمل وضعتَ إصبعيك: الوسطى والسبابة على شفتي فارتجفت وسكتت شهرزاد داخلي بعدما صاح الدّيك، وحان وقت العودة، وقفت مشيرة لساعة يدي، معتذرة عن رحيلي الذي كان لابد منه، قلتَ كمن يلقي قصيدة:
– «أنت في حياتي كريمة أخرى… كلماتك… ارتباك خطك… نقاط الحذف برسالاتك… لا أقصد من وراء ذلك أنني لا أفكر فيك إلا لأفكر بكريمة… لا… أنت إنسانة تجعلني أحزن، والأجمل من ذلك هو أنها تجعلني أعشق لحظة الحزن تلك …»
ودّعتك بابتسامة حزينة، مشيتُ بضع خطوات، ارتعشت اللحظات وبكى القلب كما الأطفال، ثم بأعلى صوت صرخ… حينها لم أحتمل، عدت أمحو تلك الخطوات التي مشيتها، كنتَ لا تزال واقفا على دهشتك، ترقب بسوادك الحزين رحيلي، قلتُ لك بعد أن تأملتك طويلا:
– «نبغيك…»
حينها اهتز ملكوت حزنك، أحسست بذلك لأن تردد اهتزازه قد أصاب بعضي، بل كلّي وأدركت أخيرا أنني استطعت أن أنحت على قلبك لحظة لن تنساها ولو أحببت ألف امرأة بعدي… ما من امرأة ستقولها لك في هذا المكان وعلى هذه الطريقة، وفي مثل هذا الوقت المحاذي للجنون… رحلتُ بعدما تيقنت أنني أحمل الآن بعضا من أسلحتك البريئة التي ستحميني من رجولة حرفك ولو لشبه عمر… في تلك اللّحظة توقف الكلام وابتلعت الرّيح آثارنا المنسية قرب ذلك الباب الهادئ…
…
جمعت رسائلك التي جادت بها أناملك يوما، أعدتها إلى مخبئها الذي لا يعرفه غيري و أنا أقول:«كان ينبغي أن تموت، رغما عني كان ينبغي أن أخفيك من عالمي ومن ذاكرتي مذ أشهرت في وجهي مسدسك الذي لم يكن يحمل سوى رصاصة واحدة كانت: «كريمة»، وقبل أن تصلني الرصاصة كنت قد مزقت أمامك وريقات «زمن الورقاء»، بعد أن قتلتُ ياسر الذي تقمصت دوره وأخفيت نفسك فيه، كان بريئا ورغم ذلك قتلته بعدما قررتَ العودة إلى وطنك… إلى حزنك… إلى السياسة التي كانت تقف شراعا في وجه رياح حبنا فتسير ويسير لنصل في الأخير إلى شبه وطن ونصبح أشباه مواطنين لا أكثر.
يسكننا الفراغ والرّغبة والرّهبة، ونساء ناقصات عقل ودين يحلمن أن يخطفهن رجل كائنا من يكون من مدينة العنوسة تلك، فتسعدن وتخضبن أيديهن بالحنّاء استعدادا لهذا العريس، إلا أنا… لم أهدك شيئا… لم أتزين لأجلك، كان الوقت لا يكفي لذلك ولا خيار أمامي سوى أن أختار الطريقة المناسبة لأقتلك بعدما قتلت كل أحاسيس المرأة الجميلة داخلي، فأرقب اليوم موتك البطيء، ودعني أحتفي بموتك على يدي مادمت قد تمرّدت على قانوني وخنت ثقتي وأنت تعلم أن عالمك ينتهي عندي و أن كل الأشياء ليست إلا تجليات لشيء واحد وفريد كما قال الخيميائي، أنسيته هو الآخر مثلما نسيتني… ودعني لا أكون في حياتك مجرد عابرة سرير وعابرة خطيئة منتظمة… و… جوع… دع هاتفي هو الآخر يرتاح من اهتزازة كل ليلة على طاولة شوق، ففي النّهاية لن يحصل إلا على طاولة شوك، صار مثلي لا يغريه اللقاء بقدر ما يغريه البعد والفراق… أنظر… صرت أشبهك، أحترف الصّبر كما تفعل أنت دائما، تعلمته قهرًا منك وصرت أنضج بهدوء على حزنك مثلما ينضج الفول السوداني على رمال أدرار الحارقة، فلا تغريني بعد اليوم بالصبر، يكفيني ما لقيت من صبر الصبر…
سنوات كثيرة مضت، اختلفنا… ابتعدنا… تهنا… وتقاطعت كلماتنا عند منعرج النسيان، أفلا كنتَ رسمتنا على مربع غريماس المبني على التّقابل والتّضاد… يشبهنا حقا… يفهمنا جيدا حين يرمي بكل واحد منا إلى زاوية لا تحقق معها التقابل بقدر ما تحقق التضاد…
كان الشّاطئ أشبه بجزيرة هجرها عشاقها، عافها صيادوها بعدما ماتت أسماكها، وكنت أنا هنا أتعقب أشواقك… عفوا… أشواكك التي كانت تهاجر مع النوارس إلى الضّفة الأخرى وأنظف ما علق من خطاياك على نعلي وفي طرف ثوبي الأسود الذي كان يشبهك أكثر مما يشبهني ويتواطأ مع حزنك أيضا… وهناك فوق موج البحر الحزين تنقل وجهك الأسمر، حزينا كعادته، وبجواره وريقات بيضاء وبيدك محفظة، متأكدة أن كلماتك كانت في صراع داخلي مع كلماتي حتى أن صوت شجارها وصلني، فكيف لم تنتبه لها وأنت تدعي أنك أستاذ لغة…
لوّحتُ لك… لوّحت بكلتا فرحتي وراحتي… ناديتك مهرولة… مستدركة… مدركة… المطر ينزلق على وجهك… كأنما من الخطايا يغسلك، وصورتك تُمحى خطيئة فخطيئة وقطرة فقطرة… ويهطل المطر… أخيرا اغتسلت جميع ملامحك وأجزائك وإذا بالمطر قد أذابك ومحى آثارك التي ذابت كملح البحر لتزيده ملحا على ملحه دون أن يأبه…
ها أنت يا شاعري… مرّة أخرى رحلت… فرُحت بقطرات المطر أغسلك مما ترسب فيك من ألم ولم أعلم أنني غسلت كامل ذاكرتك منها… ومنّي… وقد نويت أن تغسلها منها فقط… من كريمة… لاغير… رحلت أخيرا يا شاعري… قررت أن تتركنا معا مقدما حروفك قربانا للصّمت… والفجيعة… رحلت ولم تترك سوى سيفك ولباسك الإمبراطوري الذي بهرني يوما… وذاك العرج الذي كان على حصانك يوما منقوشا على بلاط ذاكرتي لتمطر بغزارة… الصّور… فتسكن أنت هذا الصمت… وأسكن أنا ذاك الحلم…
…
بعد سنوات قرأ قصّتها فكتب لها خطابا:
«غاليتي:
أن يُكتب عمرك على هامش صفحة قد يعني ذلك أنّ في حياتك ما يستحق… فالحياة الحقيقية هي تلك الّتي يصنعها الهامش باقتدار ثمّ ينسحب تاركا للغوغاء كلّ الأضواء القذرة».
هكذا أجابها وانسحب تاركا لها أن تعتز بهامشية العلاقة التي جمعتهما على الورق دهرا وفي الواقع حينا من الدهر، علّمها طيلة كلّ الفجائع العشقية الماضية كيف تقتات من جثة أحلامها على أمل اللّقاء وعلّمته أنّ الحبّ مزيج من الكذب المتبادل وشعرة من صبر يمدّ في عمرها صبر طرف عاشق ليس إلاّ…
في الحبّ كما في الحلم الجميل لا ينبغي أن تستيقظ لأنّك إن فعلت تبخّر كلّ شيء…
على هامش صفحة مضى بعض العمر وعلى هامش صفحة أخرى قضى كلّ الحلم…
قال لها إنّ اسمها بلقيس ولكن لسوء حظّها لا هدهد ينقل الأخبار الجميلة في هذا الزّمن البوار ولا سليمان في هذا الزمن يهتم لأمر يحمله طائر من سبأ إلى قلبه ولا جان باستطاعته إحضار عرشها قبل خفقة من قلبه أو حتى قبل أن ترتدّ إليه إنسانيته… فمذ رحلت بلقيس بحّ صوت النّاي وارتحل البجع إلى غير رجعة…
* القصّة الفائزة بالمرتبة الثّانية في مسابقة مجلة «نفحة» للقصّة القصيرة 2015
* منقول عن موقع نفجة