بهاء المري - لنقرأ ما فات

كان لانتشَار "كِتابها" ونَفادِ طبعاته الخَمْس دَويٌّ كانهيار جَليدٍ على جَبل هيمالايا، أصبح خبَرًا يوميًّا ذائع الصِّيت - كما ذاع صيت جمالها -تناولته برامج "التُّوك شو"، الصحف، المَجلاَّت، مواقع التَّواصل الاجتماعى، والبرامج الإذاعية.
كُنَّا صديقين لفترة ما، ضرَبها شيطان الشِّعر ذات يوم فأصدرَتْ ديوانين؛ لم يتجاوز انتشارهما دائرة الأصدقاء والمعارف، ثم التقَمَتْها دوَّامة السَّفر للعمل في الخارج وانقطعَتْ أخبارها حتى عادت إلى مصر وإلى الظهور بهذا الكتاب.
تعجَّبتُ لتحوُّلها من قَرْض الشِّعر إلى البحث الاجتماعي والتَّنظير في مجال الأسرة، أثارت فضولي تلك "البُروبَاجَندا" التي جرَتْ حول الكتاب؛ وعنوانه المثير "كيف تُحافظين على بيتك"؟
مقالات عدة تناولت الكتاب. ما كان لافتا منها ذلك التساؤل الذي أثاره أحدهم يستبعد فيه إيمان الكاتبة بما كتبت ثم أردف يقول: هل ما يَقطع به كاتب من رأي يُعبِّر بالضرورة عن اقتناع شخصي؟ أم أنه يلتمس رضا أمزجة القراء ويَعتنقه لأداء مُهمَّة بعينها؟
وأضاف متسائلا: هل يُفلح الكاتب حينئذ في إقناعنا بوجهة نظر نشك أنه يؤمن بها؟ هل نُصدِّقهُ حين يلبس مُسوح الرُّهبان وقلْبهُ قلب سِباع ضوارٍ؟
هاتَفتُها مهنئا. سُرَّتْ لاتصالي ودعتني لإدارة ندوة جديدة ستعقد لمناقشته.
لم أتردَّد، كانت المناقشة في قاعة مؤتمرات فاخرة، حضور كثيف لم أتوقَّعه، شاشة عَرْض خَلْف المنصة يَظهر عليها صورتها وصورة الغلاف، وجود ثري لصحافيين ومراسلي قنوات فضائية ومصورين.
قدَّمتُ مُوجزًا عن الكتاب وتحدث فيه ضيف حديثا مقتضبا وكانت المساحة الأخيرة من الوقت لمناقشات الحضور.
انهالت أوراق مطويات تحمل أسئلة جُلها يصُب جام غضبه على الكتاب. رتَّبتُها وفق أهميتها، كان أبرزها سؤالا ألقته امرأة أربعينية تقول فيه:
ماذا لو أني لم أعد أحتمل استمرار الحياة مع زوجي؟ هل يمنعني وجود أطفال من حقي في حريتي؟ وماذا لو كُنتِ مكاني؟
توجَّهْتُ إليها لتُجيب، لمحْتُ امتقاع لونها، كانت دقَّاتُ قلبها هي أعلى صوت أسمعهُ على المنصة، ارتباكٌ لحظيٌّ انتابَ حركة يدها حين التقت أعيننا وهي تأخذ مِنِّي "المايك" ربما حرَّك السؤال جذوة حياتها السابقة تحت رماد التناسي وقُربي منها خلال تلك الفترة.
أدرتُ وجهي قليلًا بعيدًا عنها، ثم ما لبث الفضول أن تملَّكني فعدتُ إليها أقرأ تعبير جوارحها، رمقتُها بلحظي فإذا بلحظها يرمُقني تقابَلتْ أطراف أعيننا، تَظاهرَتْ بالثبات، أجابَت في اقتضاب: "يجب التَّحمُّل مهما كانت الأسباب".
في ومضةٍ كالبرق تذكَّرتُ للتوِّ حين أعيتني وآخرين من أهلهما الحِيَل في أن نُثنيها عن طلب التطليق من زوجها الأول. أراد أن تتفرغ لطفليهما وأرادت هي العمل الصحفي المتواصل وطريق الشعر. قالت ساعتها:
لن يُجبرني أطفالي على تَرْك ما أُحب ولا التضحية بحريتي وأضافت: ولِم إذًا شُرِّع الطلاق؟
كان قرارها إمَّا أن تَبقَى على حريتها وإمَّا أن يُطلقها. عجَزْنا عن التوفيق بينهما فطلَّقها وتركت له طفليهما. ثم طلاقها مرة أخرى من زوجها الثاني، وما يحصل في وقتها الراهن من خلافات مستحكمة مع زوجها الثالث.
أعادتْ ليَ المايك، عُدْتُ لأنظرها؛ فإذا بها أطرقَتْ، قلتُ أخاطبها:
- لم يزَلْ الشِّق الثاني من السؤال قائمًا، ماذا لو كُنتِ مكانها؟
سرَتْ بين الحضور همهمةٌ تُعرب عن عدم اقتناع. بعَين مُتلجْلجةٍ خَجْلى رمَقتني واجمةً. مدَّت يدها لتضبطَ نظارتها الأنيقة وأجابَت في إشارة إلى العودة إلى كتابها وما تم طرحه فيه قائلة: "لِنقرأ ما فات"!


بهاء المري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى