أحمد عبدالله إسماعيل - أشلاء حب

جلست في زهو كأنها على كرسي العرش، ترتدي معطفًا زاهيًا، تعلم أنه كان دومًا يفضله، ورغم بعده عنها قليلًا، اخترق عطرها أنفه، و رشق يدها وتسريحة شعرها التي يهواها ببصره.
وبعد أعوام من الغياب، لم يعلم خلالها كيف انتهى بقلبها الحال؛ فأخذ يحدث نفسه:
"بالطبع نسيت حبنا القديم، نعم، بكل تأكيد أحبت و تزوجت رغم أنها لم تتغير؛ فوجهها يخطف الأبصار، خفيفة المشية، تتمتع بذكاء فطري، وتكسب ود الجميع، لكن أصابعها خالية، وعينها شاردة".
رآها من أدمن لسنوات حبها والحديث إليها، فإن تأخر اتصالها لحظات كانت تغلبه الحيرة؛ إذ جُنَّ عشقًا بها حتى كاد يمشي يحدث نفسه، أخذ ينظر إلى أصابعها، واعتراه الذهول؛ فجلس مأخوذًا بكل حواسه، وبعد دقائق، قدم لها باقة من زهور التوليب الحمراء مع دعوات قلبية تصدقها نظراته، وقال بصوت مهتز:
أنت دومًا إنسانة راقية.
أعادت النظر مرة بعد أخرى، جلس أمامها ينهشها بعينيه، فقالت بصوت خافت:
لا يرقى إلى كلامك شك، لكنك توقفت فجأة عن التواصل مع تلك الراقية، ألم تعدني أن تبقى معي لألف سنة؟! أين نحن الآن؟! ماذا حدث؟! هل تظن أني سعيدة ؟!
حاول الإمساك بيدها؛ فارتجفت، وقالت:
نسيتك تمامًا.
سألها منكرًا:
وهل يُنسى الحب الصادق؟!
بلهجة مليئة باللوم سألته:
صادق؟! هل علمت ما فعلت بقلبي؟!
جلس يتنهد في صمت لم يقطعه إلا صوتها المحاصر بحشرجة النحيب حين قالت:
أعيش كأني راهبة معتزلة، ولأكثر من عشرين سنة، أكتب كلمة سر البريد الإلكتروني حروف اسمك، أما الرقم السري لبطاقة الصراف الآلي فتاريخ ميلادك!
دمعت عيناه وهو يقول:
لم يستطع الزمن أن يغيرك؟!
بلهجة مضطربة قالت:
حاولت ونسيتك، لا، لم أستطع، كتبتُ لك آلاف الرسائل.
أجاب في دهشة:
لم تصلني منها شيئ !
أوضحت السبب في حسرة:
بحثت عنك بكل ما أوتيت من حب، وفي النهاية أرسلتها كلها لنفسي!
نظر إلى يديها وأشار إلى أصابعها فأجابت بصوت ملؤه الشفقة :
أنا حرة حتى الآن؛ لأنك عميُّ القلب!
مدَّ لها يده مرة أخرى بالزهور محاولًا الاعتذار:
كانت أقرب صديقاتك، ولم أتوقع كذبها!
وبينما كانت تبعد يده عنها، يرتجف جسدها، وتتسارع خفقات قلبها، تحاول لملمة أشلاء روحها، سألته:
كيف فتر قلبك بعدما كان مولعًا؟! كيف انطفأ وهجك، وهدأ توقك و ارتوى تعطشك فجأة؟! كيف تجرأت وألقيت بكل أحلامنا وذكرياتنا في أقرب سلة مهملات؟!
أخذ يقلب كفيه على ما فات، ثم أجابها بعين دامعة:
بعدما دالستني ووالستني، حظرَتكِ على الهاتف وكل برامجه؛ فكلما رأت هاتفي تمد إليّ يدها بحجج شتى، وبعد دقائق من العبث به أرى على وجهها ابتسامة الارتياح المعتادة، وبعدها أبعدتني بعيدًا إلى أقصى حدود الدنيا!
تعاقبت اللحظات بطيئة حتى أطلقت الكلمات كطلقة الرصاص الطائشة:
حرص كثير من الرجال على ترك انطباع جيد بداخلي لكني كنت دومًا أنفرد بنفسي؛ لكي أنزف دمعًا، والآن لا تتردد في ذهني إلا مسألة واحدة أريد معرفة إجابتها :
وإذا المحظورة أُخبرت، بأي ذنب، عن السعادة، أُبعدت؟!
أمعن عاصم النظر إليها، ورأى المحبة تتدفق من وجهها، فاستجمع قواه قائلًا:
حبك يحاصر جسدي، وأشعر بدفء همساتك، بجوار أذني يصيبني بالقشعريرة من جديد، ودموعي، التي أحاول جاهدًا ألا تنحدر على وجهي، تجعلني أتيقن أني لم أحب غيرك.
حانت اللحظة الفارقة، ابتهج قلب نور، وبعد فترة صمت، تداخلت الأصوات في رأسها، وتسابقت الدموع على خدها، وحاولت رؤيته مرارًا، لكن دون جدوى؛ فكلما نظرت إليه رأت ملامحه مشوهة، واهتزت يدها غير المقيدة؛ فانسكبت قهوتها فجأة، وتحررت من ثقل جاثم على قلبها حين ارتفع صوت رنين هاتفها : فات الميعاد…
ابتسمت والدموع تنحدر من عينيها، وتشق طريقًا في قسمات وجهها، وهي تردد في داخلها: فات فات فات الميعاد.

أحمد عبدالله إسماعيل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى