الثغاء يملأ الفناء الفسيح، و الكباش تناطح ظل الدار العالية، والنعاج تقرض الدريس، و(عطية) نحيف يفرق زكيبة العلف في المرابط. له شعر خالطه الشيب، و وجه من نحت فرعوني. يرتدي قميصا أسود طويلا، يصل إلى ركبتيه، و بنطالا قصيرا يظهر عرقوبيه. هو صموت خجول يتصبب عرقا، إذا ما حدثته أنثى، هو لم يتزوج قط؛ مما أثار تخرصات أهالي النجع المثرثرين.
لقد ساقت الخطوات أباه؛ فهبط من الصعيد إلى الدلتا، ثم اتجه صوب الغرب، حيث تقبع شركة الكراكات و الحفر في قلب الصحراء. كان العم (عبد العال) حصيفا أدهش نجعا، و ربى أغناما، و غرس قدمي ابنه الوحيد في أديم الشركة كخليفة درب. و كانت أمه عجوزا تصبغ فوديها بالحناء، فيبدو رأسها مثل مكنسة مشتعلة الأطراف أثناء شجارها المستعر مع جاراتها في رائعة النهار. مشهد تكرر كثيرا، الجارات الفارغات ينعتن عطية بالعنين، و يصفنه بأنه جذع شائخ. تلعب إحدى الجارات النمامات دور العصفورة، و تنقل الخبر لأم عطية، و الأم المحترقة تلعق الحسرات، و تستشيط غضبا، و تخرج إلى الشارع، و تفرغ شحنات صدرها في وجوه الجارات، ثم تنزوي في ركن، و تندب حظ ابنها، و تبكي، و تلعن عينا أصابته؛ فجعلته عزوفا عن تسلق تلال اللذة، و اشتهاء النساء.
انتهى عطية من إطعام الأغنام، فأومأ لأمه برأسه، و أسرع صوب الشركة. أتراه تأخر يوما عن دوام الصباح ؟!! كلا ؛ لقد شرب طبع أبيه، فصار كبندول منضبط الحركة.
( ٢)
يعود من موقع الشركة، ملطخا بشحم الكراكات و زيوت الحفارات. لا يضيع وقتا؛ فمع طراوة العصر يسوق أغنامه إلى التل الرحب؛ لقد انهمر مطر الشتاء، و نادى العشب اللين، و البقل اليانع خراف الراعي المتعوذ من شر العين. الكلب ينبح في المقدمة، و غبار القطيع يسد الأفق، و أعين الأهالي الحامية تحصي عدد الكباش و النعجات؛ فيشتعل الحسد في الصدور، و ينهض رجال من مجلسهم أسفل شجرة ( الجزورين)، فيعترضون طريق الراعي المتلعثم، و يشيرون إلى أرجل أغنامه، و ما أثارته من غبار، و ينفضون عن وجوههم و ملابسهم التراب، و يظهرون ما أضمرته قلوبهم من حقد و شحناء، و يهمون بالبطش بعطية، الذي اصفر وجهه، و ارتعد جسده، و أسرف في الاعتذار بلسان ثقيل، و كلمات متآكلة الحروف؛ لقد استرضى من لا يرضى؛ فلا الاعتذار أوقف الثيران الهائجة، و لا الدموع صدت الأيدي الطائشة. و بعد معركة خاسرة، و شجار من طرف واحد، كان (عطية) فيه هو المضروب و المغلوب، تدخل الشيوخ؛ فكف الرجال أيديهم عنه، و ساق (عطية) أغنامه، و أكمل طريقه إلى المرعى بوجه متورم، و قلب مكسور.
( ٣)
جلس منكسرا كغصن مقطوف من حضن شجيرة، فرغت المغسلات من تكفين أمه، و خرجت الرحمة من الباب الواسع، وعربد الظلام في أرجاء الدار. بصمت مطبق و دموع منهمرة سار برفقة الأهالي إلى المقابر ماضغا قات الحزن. كان عطية مختلفا في هذا اليوم عن سائر الأيام؛ فقد تخلى عن حرصه، و دفع المال بسخاء لبائع الأكفان، و أجزل العطاء لحفار القبور. اليوم لم يتعثر لسانه الثقيل؛ كأن الموت فك عقدة لسانه. عاد مطأطئ الرأس مهزوما، و اندس وسط الناس، و ود لأول مرة في حياته أن يطول بزائريه المقام كمن يخشى العزلة التامة، و لكن القوم تفرقوا بعد حين؛ فدار في الأرجاء الخاوية مشبعا باللوعة، و لم يبصر شيئا سوى صورة أمه المعلقة على الجدار، لقد احتضن ثيابها و كيس الحناء الملقى في قعر خزانتها بأسى، وبكى كما لم يبك من قبل.
( ٤)
انتظر الناس أن يتزوج بعد موت أمه؛ كي يؤنس وحدته، و لكنه لم يفعل؛ و كما تتسلق نبتة اللبلاب الحيطان؛ فيعشش داخلها البرص، و الحرباء، إلى جوار العصافير و اليمام، كثرت حوله الأقاويل، و تراوحت ما بين البياض و السواد. قالوا: قد آخى بنات الجان، و صعدت إحداهن إليه من الأرض السفلية؛ فعاشرها، و أنجب منها خمس جنيات، يمشطن شعورهن كل ليلة أمام مرآة أمه الراحلة.
ثمة فريق آخر خرج على الناس بتأويل أشد بياضا، فقالوا: إنه من أهل الخطوة؛ يقطع الأراضي و البحار، و يطير في الهواء، و يسير على الماء بصحبة حورية تهبط إليه كل ليلة من سماء علوية. ربما راق هذا التأويل أهالي النجع؛ فصار في غمضة قطب الأقطاب في نظر مريدين، اصطفوا في الطرقات لنيل عهود، لم يعلم ( عطية) عنها شيئا.
مل عطية رغاء الناس، فاحتجب في داره سبعة أيام، و بينما حار الناس في تصنيفه، أ هو ملك، أم شيطان؟! لم يدرك أي منهم أن خلف الجدران إنسيا محموما، يعاني الوحدة و الأسقام.
حاشية
ثمة جسد هامد، و دار رحبة، و فناء مكتظ بقطيع جائع، قد سافر راعيه إلى مرعى أخضر، يسكنه أب منضبط كبندول الساعة، و أم صارت عروسا في زينتها، خصبت يديها و كعبيها بالحناء.
لقد ساقت الخطوات أباه؛ فهبط من الصعيد إلى الدلتا، ثم اتجه صوب الغرب، حيث تقبع شركة الكراكات و الحفر في قلب الصحراء. كان العم (عبد العال) حصيفا أدهش نجعا، و ربى أغناما، و غرس قدمي ابنه الوحيد في أديم الشركة كخليفة درب. و كانت أمه عجوزا تصبغ فوديها بالحناء، فيبدو رأسها مثل مكنسة مشتعلة الأطراف أثناء شجارها المستعر مع جاراتها في رائعة النهار. مشهد تكرر كثيرا، الجارات الفارغات ينعتن عطية بالعنين، و يصفنه بأنه جذع شائخ. تلعب إحدى الجارات النمامات دور العصفورة، و تنقل الخبر لأم عطية، و الأم المحترقة تلعق الحسرات، و تستشيط غضبا، و تخرج إلى الشارع، و تفرغ شحنات صدرها في وجوه الجارات، ثم تنزوي في ركن، و تندب حظ ابنها، و تبكي، و تلعن عينا أصابته؛ فجعلته عزوفا عن تسلق تلال اللذة، و اشتهاء النساء.
انتهى عطية من إطعام الأغنام، فأومأ لأمه برأسه، و أسرع صوب الشركة. أتراه تأخر يوما عن دوام الصباح ؟!! كلا ؛ لقد شرب طبع أبيه، فصار كبندول منضبط الحركة.
( ٢)
يعود من موقع الشركة، ملطخا بشحم الكراكات و زيوت الحفارات. لا يضيع وقتا؛ فمع طراوة العصر يسوق أغنامه إلى التل الرحب؛ لقد انهمر مطر الشتاء، و نادى العشب اللين، و البقل اليانع خراف الراعي المتعوذ من شر العين. الكلب ينبح في المقدمة، و غبار القطيع يسد الأفق، و أعين الأهالي الحامية تحصي عدد الكباش و النعجات؛ فيشتعل الحسد في الصدور، و ينهض رجال من مجلسهم أسفل شجرة ( الجزورين)، فيعترضون طريق الراعي المتلعثم، و يشيرون إلى أرجل أغنامه، و ما أثارته من غبار، و ينفضون عن وجوههم و ملابسهم التراب، و يظهرون ما أضمرته قلوبهم من حقد و شحناء، و يهمون بالبطش بعطية، الذي اصفر وجهه، و ارتعد جسده، و أسرف في الاعتذار بلسان ثقيل، و كلمات متآكلة الحروف؛ لقد استرضى من لا يرضى؛ فلا الاعتذار أوقف الثيران الهائجة، و لا الدموع صدت الأيدي الطائشة. و بعد معركة خاسرة، و شجار من طرف واحد، كان (عطية) فيه هو المضروب و المغلوب، تدخل الشيوخ؛ فكف الرجال أيديهم عنه، و ساق (عطية) أغنامه، و أكمل طريقه إلى المرعى بوجه متورم، و قلب مكسور.
( ٣)
جلس منكسرا كغصن مقطوف من حضن شجيرة، فرغت المغسلات من تكفين أمه، و خرجت الرحمة من الباب الواسع، وعربد الظلام في أرجاء الدار. بصمت مطبق و دموع منهمرة سار برفقة الأهالي إلى المقابر ماضغا قات الحزن. كان عطية مختلفا في هذا اليوم عن سائر الأيام؛ فقد تخلى عن حرصه، و دفع المال بسخاء لبائع الأكفان، و أجزل العطاء لحفار القبور. اليوم لم يتعثر لسانه الثقيل؛ كأن الموت فك عقدة لسانه. عاد مطأطئ الرأس مهزوما، و اندس وسط الناس، و ود لأول مرة في حياته أن يطول بزائريه المقام كمن يخشى العزلة التامة، و لكن القوم تفرقوا بعد حين؛ فدار في الأرجاء الخاوية مشبعا باللوعة، و لم يبصر شيئا سوى صورة أمه المعلقة على الجدار، لقد احتضن ثيابها و كيس الحناء الملقى في قعر خزانتها بأسى، وبكى كما لم يبك من قبل.
( ٤)
انتظر الناس أن يتزوج بعد موت أمه؛ كي يؤنس وحدته، و لكنه لم يفعل؛ و كما تتسلق نبتة اللبلاب الحيطان؛ فيعشش داخلها البرص، و الحرباء، إلى جوار العصافير و اليمام، كثرت حوله الأقاويل، و تراوحت ما بين البياض و السواد. قالوا: قد آخى بنات الجان، و صعدت إحداهن إليه من الأرض السفلية؛ فعاشرها، و أنجب منها خمس جنيات، يمشطن شعورهن كل ليلة أمام مرآة أمه الراحلة.
ثمة فريق آخر خرج على الناس بتأويل أشد بياضا، فقالوا: إنه من أهل الخطوة؛ يقطع الأراضي و البحار، و يطير في الهواء، و يسير على الماء بصحبة حورية تهبط إليه كل ليلة من سماء علوية. ربما راق هذا التأويل أهالي النجع؛ فصار في غمضة قطب الأقطاب في نظر مريدين، اصطفوا في الطرقات لنيل عهود، لم يعلم ( عطية) عنها شيئا.
مل عطية رغاء الناس، فاحتجب في داره سبعة أيام، و بينما حار الناس في تصنيفه، أ هو ملك، أم شيطان؟! لم يدرك أي منهم أن خلف الجدران إنسيا محموما، يعاني الوحدة و الأسقام.
حاشية
ثمة جسد هامد، و دار رحبة، و فناء مكتظ بقطيع جائع، قد سافر راعيه إلى مرعى أخضر، يسكنه أب منضبط كبندول الساعة، و أم صارت عروسا في زينتها، خصبت يديها و كعبيها بالحناء.