أمل الكردفاني - ريميناس.. قصة

وفي ذلك اليوم، هبت عواصف ترابية، ورعدت السماء وأبرقت، واقتادت مجموعة من الرجال المطرب خارج العُرس وضربوه وطردوه لأنه كان يغني أغاني النساء ويرقص مثلهن.
بشكل أو بآخر انتهت ليلة الزفاف على خير، وهذا جل ما أتذكره.
...

تخلق الأزمات رجلاً عصبياً، متوتراً، كثير الخسارة، حتى دخوله القبر.
ويمكن أن تؤثر موسيقى الجاز كتمرد للعبيد ضد الرجل الأبيض أزمتها الخاصة، واندفاعاتها الخاصة، لتخلق ذائقة عصبية جداً، ولكنها عصبية أقل نزقاً من غيرها. ولذلك فقد ظل يحمل حقيبة الساكسفون خلف ظهره، وكانت الجماهير تنظر إليه باستمرار ككائن فضائي. وتمتلئ الأرض بالأتربة والسخونة الإفريقية. ولن يخرج أسد من أطراف الطريق كما قد يتخيل البعض. فصوت الساكس يشبه صراخ الفيلة.. يجب أن تهرب جميع المفترسات البشرية وغير البشرية من حول الساكس. ريميناس تتألق دوماً فوق خشبة المسرح الغنائي. وهو يرمقها بطرف عينيه. ساقها مكتنزة جداً، يقول لنفسه. ويبدو ذلك كمشكلة بالنسبة لرجل يخفي غيرته في أعماقه كما يخفي حبه؛ كأي رجل أسود. ويبدو الفارق بينهما كبيراً فهي في التاسعة والعشرين وهو في الحادية والخمسين. بالفعل كان الأمل ضعيفاً جداً، وستنتهي القصة بلا أي نجاحات عاطفية. إنني أؤكد ذلك.
...
في اليوم التالي للعرس، ارتحلتُ إلى شقة صغيرجداً، لا يمكنني أن أسميها شقة، فهي بمساحة متر مضروب في ثلاثة أمتار وفي نهايتها مرحاض أرضي. إنها زنزانة تمنحني حرية أكبر من غيرها من المساكن، فهي تحصر كل ما أملك ليكون تحت يدي، وتحت قدمي ورأسي وظهري..الخ. لذلك أتذكر تلك الفوضى التي يخلقها لويجي بيرانديلو دائماً في مسرحياته العبثية.. وأتذكر أيضاً نفخات الساكس الضالة في الهواء كصرخات الفيلة. ومن اللطيف أن عازفي الساكس قديماً كانوا دائماً يرتدون البدلة ورابطة العنق، فأشعر بأنني مع النمر الوردي.
....
تغني ريميناس وتتمايل راقصة، ويصفق الجمهور بحرارة لأن ساقها مكتنزة وليس لأن صوتها جميل. لكن صوتها كان جميلاً أيضاً. ويدخل لها في غرفة تغيير الملابس ويحاول تقبيلها، لكنها تدفعه فيجلس على الأرض حزينا ويمسح مخاط أنفه. ومن هنا تبدأ اللعبة، إذ تبدأ ريميناس بالتلاعب به واستنزاف أمواله القليلة التي يحصل عليها كعازف ساكس.
...
لا يمكنك أن تجرد نفسك من ذكريات السبعينات، لأن للسبعينات طعمها الخاص، موضتها الخاصة في كل شيء.. الثقافة الأمريكية تغزو أفريقيا بعنف خفي، حتى كان ليبدو أن الموت أكثر ابتعاداً من ذي قبل.. وكان الساكس أكثر ذلك الاقتحام قوة للطبول الإفريقية القديمة.
...

وكانت هناك تلك السيارات التي لا أعرف أسماءها، ذات المقدمة الطويلة المتماسكة. اما اليوم فإن الأمركة تبددت لأنها تجاوزت أرسطية الأنماط.
....
كان المسرح يستهويني باستمرار، وحفلات الجاز، والتكيلا كذلك، وأيضاً الباروكات العالية للفتيات اللائي يرتدين تنورات قصيرة تظهر سيقانهن السمراء اللامعة. وأصبحت أراه باستمرار يتبع ريميناس في كل الحفلات ككلب وفي، ويجلس قريباً وبعيداً عنها في نفس الوقت. كما أن صوت الساكس الذي كان يعزفه أضحى أكثر عشوائية من ذي قبل.
"لا يمكنك ان تتعشى بدون وضع المريلة على صدرك".
وبوجه حائر يضع الملعقة داخل فمه.
إنها قصة معهودة بالنسبة لنا في مجتمع الفن. لأن الفتيات الفنانات أكثر ثقة بأنفسهن من غيرهن. وكان الموت عند الفنانين الذكور كثيرٌ جداً لهذا السبب بالذات.
...

صراخ الفيلة، صراخ الفيلة، صراخ الفيلة.
رقص رقص رقص..
تيكيلا، تكيلا، تكيلا..
باروكات، باروكات، باروكات..
ولذلك أفضل الحصول على دعم اجتماعي، وتمشيط شوارع باريس التي لم أزرها من قبل، ثم الجلوس على مقهى لأكتب وأكتب وأكتب، ككاتب عظيم مغمور.
إنها حياة رائعة حقاً، ان تنطق بالفرنسية، وتحرك ذراعيك كما يفعل فوكو ودريدا ودولوز، وباقي مجانينهم، رغم أن الأفكار الرائعة لا تأتي إلا أثناء الجلوس في المرحاض.. باقي اليوم يمتلئ بالبكاء الداخلي، والفزع من استمرار هذه الحياة كما هي عليه.
...
رأسه طويل كصندوق الأحذية، وعلى ضفتيه شعر ناعم تجري وسطهما صلعة سوداء لامعة، أنفه طويلة وصارمة كالقداحة، شفتاه مرسومتان بألم فظ. جسده فارع الطول، وأطرافه كبيرة، ويبدو أن كل امرأة تراه تتخيل حجم ما يملكه بين فخذيه من آلة قتل. كل امرأة ما عدا ريميناس، لأنها جربت كل الأحجام منذ مراهقتها ولم تجد فيها اختلافاً يذكر، فانصرفت عنها وبدأت في رسم مسارها المالي عبر الفن وكل وسيلة أخرى. وستنجح بقدر ضئيل، لأنها دخلت عش الدبابير، وأصبح موتها مؤكداً في كل خطوة تخطوها إلى الأمام.
وهكذا عادت في صباح ما ووجهها متورم وآثار عضات جارحة على ثدييها الصغيرين. وكانت رائحتها عفنة. فدخلت إلى حمام المسرح واغتسلت ثم نامت نوماً عميقاً لأنها لم تكن قادرة على البكاء.
...

عندما يخرج صوت الساكس في موسيقى الجاز، تتحرك الكائنات، تفزع وتهرب، وتزداد شعل النار التهاباً. البشر يهرولون حول الكنائس القديمة، وتمرق السحب فوقهم ملقية بظلال متفرقة على رؤوسهم... يجب ان تتتوقف الموسيقى ليعود الهدوء إلى كوكب الأرض مجدداً.
....
ويحدث ذلك الهدوء المفاجئ، اللغة الغريبة التي راح ينطق بها المناخ زحفت من تحت منافذ الشبابيك والأبواب وخزن النقود في البنوك، ومسامات ريميناس وهي تغسل جسدها المرتعش، ودموع عازف الساكس الإفريقي العاشق، وأوراق الروايات التي صنعت بحسب قوانين الجوائز. ولآلئ النبيذ القرمزية، وأتربة السافنا الفقيرة، وأشواك الصبار، وحول أطياف الأحلام المجهضة.
وسيمتد طريق طويل قبل أن يقرر العازف العجوز قتل ريميناس، ولكن مسدسه يسقط من يده حين يجدها ملقاة تحت طاولة مساحيق التبرج.. وسيبدأ رحلة عاطفية أخرى، لأن الحياة لن تتوقف على رفاة الجثث.
...
وصفقتٌ بحرارة مع الجماهير التي تشاهد المسرحية الجديدة لباروا ألباري، الاسم الأدبي الذي لم يعرف حقيقته أحد ككاتب مسرحي تميزت حواراته بالجدية والحكمة الأقل اصطناعاً من حكمة الشباب.
وقد نوقشت مسرحياته بعمق كبير من قبل النقاد الأقل انحيازاً للماضي من حراس المعابد القديمة.
"يجب ان تخوض غمار التجريب لتكتشف الكنوز في أعماقك.. لأن هناك أشياء ولدت لتبقى وأخرى ولدت لتموت"
يقول ناقد شاب بحماسة أكبر مما يجب. وحينها سئمت وأدرت محرك سيارتي القديمة متجها إلى ما يسمى بالغرفة فتحممت وارتميت على الأرض لاهثاً من التعب.
إنها فوبيا حقيقية من ذلك العالم الواسع يا بارو ألباري.. وظللت أبكي لفترة وجيزة قبل أن أغمض عيني وأنام.

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى