محمد مصطفى العمراني - تهمة غريبة !

منذ نقلي للتدريس في هذه القرية النائية وأنا أترحم على أيامي في المدينة حيث الخدمات قريبة وميسورة .

أظل أغلب الوقت وحيداً في سكن المدرسين ، وحين احتاج إلى بعض المواد الغذائية أذهب إلى البقالة التي في القرية الأخرى ، تبدو قريبة لكن حين أذهب إليها اكتشف أن المسافة أبعد مما تصورت .!

أمام البقالة يلهو بعض الأطفال ما إن رأوني حتى توقفوا عن اللعب ، سلمت عليهم فردوا علي باحترام ، قبيل انصرافي أثارني أحد الأطفال ، يقفز بشكل غريب ، قلت مازحاً :

ـ يا ولد اهدأ ؛ البطاريات ستخلص عليك .!

ضحك الأطفال منه فيما توقف الولد عن اللعب .

شعرت بالندم لأني جعلتهم يسخرون منه .

الساعة الـ 11 ليلاً حين بدأت رحلة نومي ، لكن الطرقات العنيفة على باب السكن جعلتني أنهض مذعوراً ، فتحت الباب :

ـ أنت الأستاذ ؟

ـ نعم ، خيراً ؟

صمتوا جميعا .!

قال أحدهم :

ـ كلمه يا أحمد

ـ يكلمني عن ماذا ؟!

ـ بصراحة ابنه مريض ، مريض جداً . قاطعته :

ـ ربنا يشفيه ، ماذا سأقدم له أكثر من الدعاء ؟!

وأضفت :

ـ أنا المدرس ولست الطبيب ، اسعفوه إلى الوحدة الصحية ، تحركوا .

عادوا للصمت من جديد .!

صمتهم الغامض أقلقني ، يبدو أنهم يريدون مني نقودا وليس بحوزتي ما يكفي لأقرضهم .

ـ بصراحة يا أستاذ أنت قلت على ابنه كلمة ربما .....

قلت وقد كاد صبري ينفذ :

ـ ربما ماذا ؟!

ـ أصبته بعين

ـ هاااه قصدكم الولد الذي قلت له : اهدأ ستخلص عليك البطاريات ؟

ـ نعم هو ابنه

ـ تقصدون أنه قد مرض بسببي ؟!

ـ ربما أصبته بالعين من حيث لا تقصد

ـ لا لا اطمئنوا ، أنا ما قد أصب بعيني أي مخلوق .

وعادوا للصمت .!

ـ ستأتي معنا .

فوجئت بقرارهم .!

ـ أذهب معكم إلى أين ؟ هل جننتم ؟!

أغلقت الباب في وجوههم وعدت للداخل وقد غلى الدم في عروقي ، مشكلتي أنني غريب في هذه القرية وليس معي أحد ؛ وإلا لن أسمح لهم بإهانتي .

عادوا لطرق الباب من جديد .

ناداني والد الطفل :

ـ يا أستاذ أرجوك هذا ابني الوحيد ، هذه مسألة حياة أو موت وأنا أب أرجوك .

وبدافع من الشفقة والرحمة لبست ثيابي ومضيت معهم ، القمر يرسل أشعته الذهبية والطريق تطول ، وأنا غارق في ذهولي وغير مصدق ما يحدث لي ، كأنني في كابوس .!

لقد جرحوا كرامتي بهذه التهمة الظالمة لكنني أذهب معهم لأثبت لهم أنني بريء.

حين وصلنا كان العشرات من رجال القرية قد تجمهروا أمام منزل والد الطفل ، سلمت عليهم قائلاً :

ـ يا ناس أنا ضيف في بلادكم ، وقبل أن أمزح على الولد بتلك الكلمة قلت : ما شاء الله وصليت على النبي ، العين حق لكن لست أنا من يصيب بالعين .

وأضفت :

ـ الولد ربما أصيب بنزلة برد ، أو بضربة شمس ، أو حمى ، عالجوه في الوحدة الصحية .

شعروا بالحرج لكنهم ظلوا على صمتهم .

فوجئت بوالد الطفل يقبل رأسي ويدي وهو يبكي قائلاً :

ـ أرجوك توضأ في هذا السطل لنقطع الشك باليقين .

توضأت في السطل الكبير الذي جاؤوا به .

كانوا جميعا يشاهدوني ، وجوه أخرى كانت تراقب بصمت من نوافذ منازل القرية ، كنت كمتهم يساق إلى الإعدام .!

غادرتهم وأنا غارق في ذهولي وحزني ، أتعثر بالحجارة والأشجار ولا أكاد أرى الطريق ، تمنيت أنني ما قدمت إلى هذه القرية ، لقد جرحوا كرامتي وأهانوني بتلك التهمة الظالمة ، كان يمكن أن يمضي كل شيء بهدوء وسرية تامة لكن تجمهرهم حولي وأنا أتوضأ ذبحني تماماً .

لم أنم تلك الليلة من القهر ، أكاد أتميز من الغيظ ، أذرع الغرفة وأدور حول نفسي وأفكر :

ـ سأحزم حقيبتي وأرحل .

ـ سأطلب نقلي إلى قرية أخرى .

ـ لن أعود إلى هذه القرية المتخلفة

ـ لا يجب أن أبقى وأثبت براءتي

ـ إذا غادرت سأثبت التهمة على نفسي

بقيت لساعات في صراع مرير مع نفسي ، وقبيل الفجر قررت البقاء والمواجهة . سأعمل بشتى الطريق على رد الاعتبار لكرامتي وإثبات جهلهم وفساد تفكيرهم .

المدرسون من أبناء المنطقة جاؤوا في الصباح يعتذرون لي عما حدث ، اقترحوا علي الذهاب برفقتهم إلى الشيخ وطرح الموضوع عليه لينصفني .

رفضت وقررت اتخاذ خطوة أخرى .

علمت من الأطفال أن ذلك الولد لم يتعاف وأن مرضه قد أشتد .

أستأجرنا سيارة وذهبنا إلى منزل الولد وقمنا بإسعافه إلى الوحدة الصحية .

بعد الفحوصات الطبية تبين أن لديه أميبيا حادة والتهابات في الأمعاء ، صرف الطبيب له العلاج ، أخذت العلاج واتفقنا مع والد الطفل أن أذهب كل يوم إليهم لأعطيه العلاج بنفسي .

علاج الطفل صار قضية شرف وكرامة بالنسبة لي .

بعد عشرة أيام تعافى الطفل .

ذهبنا إلى الشيخ ، كان قد علم بما حدث وقرر أن يأتي بنفسه مع والد الطفل إلى المدرسة في وفد كبير ليعتذروا لي ، وهو ما حدث .

انتهت القصة لكني لن أنساها ما حييت .

بعد أشهر فوجئت بطبيب الوحدة الصحية يطرق بابي ، زيارة غريبة لم أتوقعها ، لكني لم اسأله عن السبب .

ظل يزورني بشكل دائم ويلح علي بأن أزوره .

ذهبت إليه في الوحدة الصحية ، تناولنا الغداء وشربنا الشاي وبقينا نتحدث ، وقبيل المغرب طلب مني الخروج لنتمشى قليلا ، بدأ يشكو لي من قلة عدد المرضى الذين يأتون إليه بعد أن فتح أحد الأطباء عيادة منافسة حيث يعالج المرضى برسوم رمزية جدا .

أشار إلى عيادته ، الناس يدخلون إليها ويخرجون ، كانت مزدحمة كأنها خلية نحل .!

أشار مجددا إلى تلك العيادة قائلاً :

ـ أريد منك يا أستاذ التعليق المناسب على العيادة .

لم أفهم قصده في البداية .

ولما رآني غارقا في الصمت ارتبك ثم تنحنح ثم قال :

ـ اشدخه بكلمتين يا أستاذ

ـ كيف اشدخه بكلمتين ؟!

ـ خارجنا من عيادته هيا

وأضاف :

ـ اسكع عيادته كلمتين لعل وعسى

لقد صدمني حين أراد مني أن أصيب عيادة منافسه الطبيب بالعين .!

غادرته وأنا غير مصدق ما يحدث .!



****​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى