منذ نقلي للتدريس في هذه القرية النائية وأنا أترحم على أيامي في المدينة حيث الخدمات قريبة وميسورة .أظل أغلب الوقت وحيداً في سكن المدرسين ، وحين احتاج إلى بعض المواد الغذائية أذهب إلى البقالة التي في القرية الأخرى ، تبدو قريبة لكن حين أذهب إليها اكتشف أن المسافة أبعد مما تصورت .!
أمام البقالة يلهو بعض الأطفال ما إن رأوني حتى توقفوا عن اللعب ، سلمت عليهم فردوا علي باحترام ، قبيل انصرافي أثارني أحد الأطفال ، يقفز بشكل غريب ، قلت مازحاً :
ـ يا ولد اهدأ ؛ البطاريات ستخلص عليك .!
ضحك الأطفال منه فيما توقف الولد عن اللعب .
شعرت بالندم لأني جعلتهم يسخرون منه .
الساعة الـ 11 ليلاً حين بدأت رحلة نومي ، لكن الطرقات العنيفة على باب السكن جعلتني أنهض مذعوراً ، فتحت الباب :
ـ أنت الأستاذ ؟
ـ نعم ، خيراً ؟
صمتوا جميعا .!
قال أحدهم :
ـ كلمه يا أحمد
ـ يكلمني عن ماذا ؟!
ـ بصراحة ابنه مريض ، مريض جداً . قاطعته :
ـ ربنا يشفيه ، ماذا سأقدم له أكثر من الدعاء ؟!
وأضفت :
ـ أنا المدرس ولست الطبيب ، اسعفوه إلى الوحدة الصحية ، تحركوا .
عادوا للصمت من جديد .!
صمتهم الغامض أقلقني ، يبدو أنهم يريدون مني نقودا وليس بحوزتي ما يكفي لأقرضهم .
ـ بصراحة يا أستاذ أنت قلت على ابنه كلمة ربما .....
قلت وقد كاد صبري ينفذ :
ـ ربما ماذا ؟!
ـ أصبته بعين
ـ هاااه قصدكم الولد الذي قلت له : اهدأ ستخلص عليك البطاريات ؟
ـ نعم هو ابنه
ـ تقصدون أنه قد مرض بسببي ؟!
ـ ربما أصبته بالعين من حيث لا تقصد
ـ لا لا اطمئنوا ، أنا ما قد أصب بعيني أي مخلوق .
وعادوا للصمت .!
ـ ستأتي معنا .
فوجئت بقرارهم .!
ـ أذهب معكم إلى أين ؟ هل جننتم ؟!
أغلقت الباب في وجوههم وعدت للداخل وقد غلى الدم في عروقي ، مشكلتي أنني غريب في هذه القرية وليس معي أحد ؛ وإلا لن أسمح لهم بإهانتي .
عادوا لطرق الباب من جديد .
ناداني والد الطفل :
ـ يا أستاذ أرجوك هذا ابني الوحيد ، هذه مسألة حياة أو موت وأنا أب أرجوك .
وبدافع من الشفقة والرحمة لبست ثيابي ومضيت معهم ، القمر يرسل أشعته الذهبية والطريق تطول ، وأنا غارق في ذهولي وغير مصدق ما يحدث لي ، كأنني في كابوس .!
لقد جرحوا كرامتي بهذه التهمة الظالمة لكنني أذهب معهم لأثبت لهم أنني بريء.
حين وصلنا كان العشرات من رجال القرية قد تجمهروا أمام منزل والد الطفل ، سلمت عليهم قائلاً :
ـ يا ناس أنا ضيف في بلادكم ، وقبل أن أمزح على الولد بتلك الكلمة قلت : ما شاء الله وصليت على النبي ، العين حق لكن لست أنا من يصيب بالعين .
وأضفت :
ـ الولد ربما أصيب بنزلة برد ، أو بضربة شمس ، أو حمى ، عالجوه في الوحدة الصحية .
شعروا بالحرج لكنهم ظلوا على صمتهم .
فوجئت بوالد الطفل يقبل رأسي ويدي وهو يبكي قائلاً :
ـ أرجوك توضأ في هذا السطل لنقطع الشك باليقين .
توضأت في السطل الكبير الذي جاؤوا به .
كانوا جميعا يشاهدوني ، وجوه أخرى كانت تراقب بصمت من نوافذ منازل القرية ، كنت كمتهم يساق إلى الإعدام .!
غادرتهم وأنا غارق في ذهولي وحزني ، أتعثر بالحجارة والأشجار ولا أكاد أرى الطريق ، تمنيت أنني ما قدمت إلى هذه القرية ، لقد جرحوا كرامتي وأهانوني بتلك التهمة الظالمة ، كان يمكن أن يمضي كل شيء بهدوء وسرية تامة لكن تجمهرهم حولي وأنا أتوضأ ذبحني تماماً .
لم أنم تلك الليلة من القهر ، أكاد أتميز من الغيظ ، أذرع الغرفة وأدور حول نفسي وأفكر :
ـ سأحزم حقيبتي وأرحل .
ـ سأطلب نقلي إلى قرية أخرى .
ـ لن أعود إلى هذه القرية المتخلفة
ـ لا يجب أن أبقى وأثبت براءتي
ـ إذا غادرت سأثبت التهمة على نفسي
بقيت لساعات في صراع مرير مع نفسي ، وقبيل الفجر قررت البقاء والمواجهة . سأعمل بشتى الطريق على رد الاعتبار لكرامتي وإثبات جهلهم وفساد تفكيرهم .
المدرسون من أبناء المنطقة جاؤوا في الصباح يعتذرون لي عما حدث ، اقترحوا علي الذهاب برفقتهم إلى الشيخ وطرح الموضوع عليه لينصفني .
رفضت وقررت اتخاذ خطوة أخرى .
علمت من الأطفال أن ذلك الولد لم يتعاف وأن مرضه قد أشتد .
أستأجرنا سيارة وذهبنا إلى منزل الولد وقمنا بإسعافه إلى الوحدة الصحية .
بعد الفحوصات الطبية تبين أن لديه أميبيا حادة والتهابات في الأمعاء ، صرف الطبيب له العلاج ، أخذت العلاج واتفقنا مع والد الطفل أن أذهب كل يوم إليهم لأعطيه العلاج بنفسي .
علاج الطفل صار قضية شرف وكرامة بالنسبة لي .
بعد عشرة أيام تعافى الطفل .
ذهبنا إلى الشيخ ، كان قد علم بما حدث وقرر أن يأتي بنفسه مع والد الطفل إلى المدرسة في وفد كبير ليعتذروا لي ، وهو ما حدث .
انتهت القصة لكني لن أنساها ما حييت .
بعد أشهر فوجئت بطبيب الوحدة الصحية يطرق بابي ، زيارة غريبة لم أتوقعها ، لكني لم اسأله عن السبب .
ظل يزورني بشكل دائم ويلح علي بأن أزوره .
ذهبت إليه في الوحدة الصحية ، تناولنا الغداء وشربنا الشاي وبقينا نتحدث ، وقبيل المغرب طلب مني الخروج لنتمشى قليلا ، بدأ يشكو لي من قلة عدد المرضى الذين يأتون إليه بعد أن فتح أحد الأطباء عيادة منافسة حيث يعالج المرضى برسوم رمزية جدا .
أشار إلى عيادته ، الناس يدخلون إليها ويخرجون ، كانت مزدحمة كأنها خلية نحل .!
أشار مجددا إلى تلك العيادة قائلاً :
ـ أريد منك يا أستاذ التعليق المناسب على العيادة .
لم أفهم قصده في البداية .
ولما رآني غارقا في الصمت ارتبك ثم تنحنح ثم قال :
ـ اشدخه بكلمتين يا أستاذ
ـ كيف اشدخه بكلمتين ؟!
ـ خارجنا من عيادته هيا
وأضاف :
ـ اسكع عيادته كلمتين لعل وعسى
لقد صدمني حين أراد مني أن أصيب عيادة منافسه الطبيب بالعين .!
غادرته وأنا غير مصدق ما يحدث .!
****