أحمد غانم عبد الجليل - زوبعة ريح خريفية

لمَ عدتَ بعد أن اعتدنا غيابك، بل نكرانك من حياتنا؟
لم ترضَ أمي رد سلامك، دخلتْ غرفتها مسرعة، أوصدت الباب وراءها، وقد أصاب وجهها شحوبًا على شحوب. وقفتُ أمام جسدك النحيل، جامد الحركات والمنهار على الكنبة، لا أزيح عينيّ عن غضون وجهك المترهل، توشك حدقتا عينيك الملبدتين ضبابًا رماديا على الخروج من محجريهما، أشعر إنك تريد تلمسي من خلالهما، سبر أغوار عمرٍ كامل من الهجر.
كيف لي أن أصدِق أنك ذات الرجل الذي كان معي في تلك الصورة الملتقطة في زمنٍ آخر، أبقيتُ عليها في أحد جوارير مكتبي الصغير المحاذي لشباك غرفتي، يضمني إلى صدره العريض، ولم أكن قد تجاوزت الثانية من عمري بعد، يهدهدني بساعديه الصلبين، وجهه ذو الضحكة الرائقة يعلو وجهي الصغير مغمض العينين، أو لعلي كنت أغط في نومٍ هانئ لا تسومه الأحلام القلقة المضطربة التي رافقت وعيي على واقعٍ غريب حفر في ذاتي الإحساس باليتم والخوف وأنا أرتكن إلى صدر أمي علّي اظفر بشيءٍ من الأمان، فلا تلتقط أذنايّ غير دقات قلبٍ يرتجف بين الضلوع، حينئذٍ بدأت تتناهى إلى مسمعي كلمتا (معتقل سياسي) كنت أسمعهما منها ومن بعض أقاربنا وصديقاتها، تتخللان الأحاديث الحزينة خفيضة الصوت، فأنزوي في ركنٍ قصي وكأني أواجه تهمة لا علم لي بها ولا أعرف لها معنى.
طلبتَ منى الجلوس بصوتٍ مبحوح مجهد، وأن أصغي إلى ما تريد قوله من بعثرة كلام تمنيتُ أن تنتهي منها سريعًا لتغادر الدار وكأنك لم تأتِ أصلًا، كما رغبتُ، بل هممت، مرات ومرات أن أمزِع ثم أحرق مزق الصورة المتبقية من ثورات غضب أمي، ولكني كنت أستسلم دومًا لرعشة يديّ، غصة حسرة ظلت تعتصر صدري، ورغبة مستفزة تدفعني للبحث عنك في أي مكان من الأماكن التي عرفتُ أنك تتنقَل بينها مثل مشرَد سكير لا أهل له، أسألك، أواجهك، وأعاركك، بعد أن أجبرك على استعادة وعيك، عسى أن أفهم ما يجول داخلك من غربةٍ موحشة، ما خبأته عنا بعد انتظار خروجك وعودتك إلينا، نراوغ فقدان الأمل في رؤيتك مجددًا.
أتذكر جيدًا نظراتك المحملقة بنا والمستغربة من كل ركنٍ في الدار، وربما ما استدللتَ على العنوان لو لم تقلك إحدى سياراتهم حتى عتبة الباب، عاملتنا بجفاء السنوات التي غربتك عنا رغم كل اهتمامنا بك وبعلاجك من الأمراض والجروح المتقيحة في جسدك الهزيل، وكأنك بالكاد تتعرف علينا، أنا أيضا كدت لا أعرفك، فقد كنت بالنسبة لي مجموعة صور وأشباح ذكريات تمزج بين واقع وخيال استأنستهما طفولتي كثيرًا.
كم مضت من ليالٍ نمتُ فيها على نغمة كلام تلك المجهدة الصابرة عنك، بعشق حبيبة وزوجة وتلميذة مجتهدة في مدرستك صارمة الرأي وقوية العزيمة، رغم كل التهديدات، وليس لديك ما يحميك من أنياب المتربصين بك، وما يعصمك عن المغريات التي عُرضت عليك.
كان من العسير عليّ فهم معنى بعض كلامها المسترسل كسلسلة أفكار كاتب لا تود الانقطاع، رغم محاولاتها تبسيط ما ترويه عنك بصورةٍ خاصة، وكأنها تود إنضاجي قبل الأوان لأشاركها عبء تحمل مسؤولية بقائنا وحيدين في مواجهة المجهول.
كيف بعثرتَ سنينك الماضية حتى وصلت إلى هذه الحالة، رث الثياب وأشعث الشعر، في أي مهنة، أو مهنٍ، عملت وسطوة السكر تتناقل مع اسمك؟ كانت أخبارك تترامى نحونا مثل لعنة، جاءت خاتمة صعقها بخبر زواجك، ولربما معاشرتك، لامرأة تحوم حول سمعتها الكثير من الشبهات، قيل إنها تتاجر في البضائع المهرَبة، ملابس، خمور مغشوشة و... فيما كانت أمي تسقط طريحة الفراش مع ورود كل قصة من قصص تسكعك العبثي، متأسفةً على عمرٍ مضى وليس فقط الحبيب والزوج متقد المشاعر، والأب الذي كانت تجعلني أتباهى به وأبكي غيابه الطويل، بدلًا عن ذلك صرت أزعق في وجه الجميع، أحذرهم أن يذكروا اسمك أمامنا، معلنًا براءتي منك ومن أفعالك حتى الممات.
أعود وأكرر السؤال الذي يبتلعه صمتي أمام كهولتك المتعجلة: لمَ جئتنا يا... أبي بهيئة الشحاتين تلك؟
لم تواتك القوة، أو ربما الشجاعة، على مد يديك الممسوستين برعشة خفيفة لمصافحتي ومن ثم احتضاني، خفتَ أن أرفض؟ أدفعك عني وأنا أصرخ في تذمر من رائحتك الكريهة وخشونة لحيتك النابتة كأشواك في ذقنك؟
أم أن عاطفتك نحوي تم محقها خلال سنوات الاعتقال والتعذيب، ومن ثم أحواض الكحول وأحضان تلك المرأة التي ترعت من خطاياها دون وعي لأي شيء!
أسيرُ، كما أوصيتَني، حاملًا نعشك، مع عدة رجال لا أعرفهم ولكنهم يعرفونني، ربما كانوا من رفاق هذيانك الطويل، وكأن شبح الموت يتراءى أمامك، يرافقك أينما ذهبت، لعل ذلك الهاجس استعجل مغادرتك دون أن تتلقى مني أية إجابة توسلتها عيناك الغائرتان قبل شفتيك المتيبستين.
ذهبتُ إلى دارها المحشورة في أحد الأزقة، باغتتني بسمرتها وبدانتها ووجهها ممسوخ الملامح، كانت جثتك في غرفة نوم تعبق منها روائح مثيرة للدوار، ترقد فوق فراشٍ عريض مزركَش الألوان، ارتعبتُ من حملقة عينيك الجاحظتين، غطيت وجهك غريب القسمات سريعًا، أحتار في آخر كلمة نطقتَها والدموع تغشى مقلتيّ، هل كانت أحرف اسمي آخر ما نطقتَ، في استغاثة لهفى لحضوري، رؤيتي قبل خمود نفسك الأخير؟
لمَ تأخرتْ تلك الشمطاء في الاتصال بي، أما يكفيها ما فعلت بك وبنا من قبل؟ أو أنك طلبت منها ذلك، خشيتَ مواجهة تجهمي من جديد وتلك الأسئلة المتهاطلة في رأسي منذ الصغر؟
يهيلون التراب على كفنك بسرعة ويرحلون، أجثو قرب قبرك حديث الحفر والردم، أبكي بحرقة طال كبتها، أصرخ فيك ومن أجلك، أهجس تأملك الحزين لانهياري، بعينين معذَبتين، تشهدان يتمي من جديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى