إبراهيم سلامه إبراهيم - الجنتلمان

في ذلك اليوم، بعد غياب طويل، دخل مكتبي، وكعادته بكامل أناقته ..

توقف أمامي، ونظر إلي طويلًا، ثم تملكته حالة من الشجن ، فرائحة المكان وقد أصبحت عابقة فى أنفه وحده ، فذلك لانها قابعة فى قاع ذاكرته ، ، ثم وكأنها بخار يتكثف ويكوِّن وجهاً يعرفه ، ثم تخونه تلك الذاكرة فينقشع مع البخار ، ولا تزال رائحة المكان عابقة من حوله ، ويشعر روحاً تتهادى معه عندما يتلفت معها يميناً ويساراً فيصيبه الشجن والحنين لحديث كان يدور بيننا عمراً ..[/B]

وعلى ما يبدو كان يحاول أن يتذكرني، فقدمت نفسي له لأرفع عنه الحرج :

- أنا رئيس خدمة العملاء.

هز رأسه بالإيجاب وكأنه يوحي لي أنه يتذكرني، في محاولة منه لتنشيط ذاكرته، فبيننا وِدٌّ شديد يمتد عمرًا يربو على الثلاثين عاماً، تخللها بحكم عملي معه احتكاكٌ شبه يومي ، فبيننا أحاديث جمة تناولت كافة جوانب العمل والحياة


سألنى:

- بتعملوا إيه هنا؟

- احنا خدمة العملاء يا فندم، وقسم الصيانة.

- وبتتعاملوا ازاي مع العملاء؟

- حضرتك علمتنا إن العميل أهم طرف في معادلة التجارة.

وكأنه سمع مني هذه الجملة من قبل، وكأنها مست شيئًا في ذاكرته، ولأن بيننا مواقف عديدة تمس العلاقة المباشرة بين الشركة والعملاء من خلالي؛ فقد ظل شاخصًا تجاهي بعينيه، تطل من خلالهما تلك النظرات الحانية المحبة القديمة، تلك النظرات الباحثة عن صورة قديمة في الذاكرة، عن ملامح يشوبها ويخفيها ضباب الزمن، ولم يدر أنها قابعة في قاع الذاكرة والروح كبقايا تبدو تفاصيل تافهة، ولكنها تكررت على مدى أعوام ، فباتت محفوظة، غير قابلة للمحو، مترسبة هناك وبعيدة، ولكن يبدو أنه لم يعثر عليها، لكنها مطبوعةٌ لديه.

لمحت دموعًا تلمع في مقلتيه متحجرة، عاصيةً النزول من عينيه، لحظات مرت كدهرٍ، لم أعلم ما يدور بخلده، هل هي ذكريات مرت عبر سنين كنت فيها شريكًا لأحداث محفورة في مخيلته؟ وهل بقي منها شيئ في الذاكرة؟ أم هي عسيرة الرجوع إليه؟ أم مشاعر حائرة بين الوعي واللا وعي؟!


لا أعرف هل المشاعر هي نفسها عندما كان في كامل سلطانه، أم تغيرت، أم نقص منها إحساسٌ ما، بعد إصابته بذلك ألزهايمر اللعين!

أدار لنا ظهره، ثم خرج مسرعًا قبل أن تتساقط دموعه ودموعنا، لم أتمالك نفسي، فقد جعلنا جميعًا ننفعل وتهتز مشاعرنا.

لقد كانت روح هذا الجنتلمان حاضرةً بقوة الحب، بينما ذاكرته تخونه من خلف ظهر روحه المتوهجة.


تمت
ابراهـــــيم ســــــلامه ابراهــــــيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى