أحمد عبدالله إسماعيل - حصان وكلب..

لا أنسى أبدًا هذه الليلة الغريبة الحزينة؛ فلا صوت يعلو، في المنطقة كلها، فوق صوت الجنازة وما صار فيها؛ لذا صدّقت وآمنت، أخيرًا، أن الحيوانات والطيور أمم أمثالنا.
هل تصدقون أن الحصان والكلب أجهشا بالبكاء في أثناء الجنازة أمس؟!
هل تصدقون أنهما مثل البشر تمامًا؟!
في حارة على أطراف المدينة، وقت العشاء، بعد يوم اشتد حرّه، عانت فيه الحيوانات والطيور ونفق بعضها، يرخي الليل أستار ظلمته، فوق الحظيرة الملحقة بمنزل بسيط من دور واحد، يسكنه شاب نحيف، طويل، من رآه أشفق عليه، ومن خالطه أحبه؛ هادئ الطباع، يكدح كل يوم؛ ليقتات ويعول أمه العجوز الضعيفة المريضة، التي تشكو، كلما انتصبت أو أراحت ظهرها، من آلام الركبة.
بنايات تحت الإنشاء تحيط بالبيت، أقيمت في تغافُل مقصود من أحد موظفي الإدارة الهندسية بالحي، أرجع الحصان رأسه إلى الخلف، وأخذ يقلب عينيه حتى ظهر بياضها، بدأ يحرك ذيله بقوة ثم يطويه تجاه جسده ثم يرتفع صوت شخيره، ويدوس بقدميه مركزًا عينه على النافذة طوال الليل.
ألصق الحصان رأسه بجدار غرفة صاحبه الذي انتهى أصدقاؤه من تكفينه، ثم انطلق مسرعًا خلف سيارة تكريم الإنسان، وما إن توقفت لإنزال الجثمان إلا وألصق رأسه بنعشه، وظل يتنهد ويبكي!
كان معظم الناس يبكون، احتشد المعارف والأصدقاء والأهل، ولفت انتباههم كلب متعب، هزيل الجسد، مرتخي الأذنين، وبره بني غزير، طويل الذيل، تعلق بالميت في حياته وتبعه في كل مكان؛ فكان لا يقع نظر أحد عليه إلا هابه، أثار في النفوس عجبًا؛ بسبب حرصه على حضور الجنازة التي امتدت لمسافة طويلة!
يسير الكلب بجوار أم صاحبه التي كادت تجن؛ انخلع قلبها عند رؤية نعش ولدها الوحيد، وأشفق الجميع عليها حين أجهشت بالبكاء خشية أن تلحق به، في تلك اللحظة المختلفة عن كل لحظات الحياة، تلك اللحظة التي ينطفئ فيها نور عين الأم، وتذهب بهجة عمرها، أم كل فرد في هذه الدنيا، من الملوك العظماء إلى العبيد الضعفاء.
قالت في انهيار وهي تحتضن النعش:
- أتعبتك الدنيا يا قلب أمك؟ ضجيج الحياة أزعجك فيما أرى؛ لم يحدث يومًا أن أناديك ولا ترد، يا ولدي، هل تسمعني؟ جاءت اللحظة التي ليس بعدها رجوع، لحظة خلوتك بمن هو أرحم بك مني، ليست مثل كل اللحظات، بعد تناول العشاء الأخير، حينها يُغلق عليك الباب؛ لتصير وحدك دون أنيس!
سمع المشيّعون كلمات الأم، دوَّت في آذانهم كأنها قذائف؛ فأوجعت قلب مَنْ كان ظالمًا لنفسه.
فقدت الأم الوعي لدقائق؛ لم تعد قادرة على التحمل بسبب شدة حرارة الجو من ناحية، ومرضها وحزنها من ناحية أخرى، هرول الكلب وقفز عليها كطفل صغير يتشبث بصدر أمه!
ساد صمت، لم يُسمع بعده غير نشيج الحصان؛ أما الكلب فكان ينبح بصعوبة؛ همس حشد من السائرين خلف الجثمان، بصوت خفي لا يكاد يُفهم، يتساءلون في دهشة:
" هل يشعر فعلًا؟!
هل عنده أحاسيس مثل البشر؟!
هل يدرك الحصان هو الآخر ما يجري من حوله؟!
هل يعيان أن صاحبهما قد رحل، وأنها آخرُ رحلةِ ذهابٍ بلا رجعة؟!"
ذرف الحصان الدموع، أكثر من ساعتين يقف أمام باب القبر دون أن يُدفن صاحبه، كأنه يعرف بموته، وظل على هذا الوضع حتى الشعاع الأخير من النهار ينشج ويصدر صهيلا بصوت مبحوح.
يمر الوقت بطيئًا، ويحاول الناس تنحيته جانبًا إلا أن سلوكياته غير المتوقعة ولَّدت بداخلهم مشاعر لم تكن في الحسبان؛ لم يهتم أحد مسبقًا بصاحبه، ولم يشعر بألم فقده الآن، بينما خلَّفت حركاته في نفوسهم أثرًا لا يُنسى.
رضا الحصان صعب، وإرضاؤه عسير، وبخاصة إن كان غاضبًا حزينًا؛ لأنه يتصرف بغرابة، ولا بد لنا من الانتباه لما يمكن أن يفعله.
ألقى الظلام ظلالًا قاتمة فوق قبر صاحبه، لكنه رفض مغادرة المكان، كأنه يخشى النفوق بعيدًا عنه؛ فألصق جسده ووجهه بالقبر.
تجمعت إضاءة المصابيح الكهربية الصفراء أمام عينيه فور نزول شبورة كثيفة جعلت الرؤية ضبابية، أرجع رأسه إلى الخلف وحرك ذيله مذعورًا، واندفع غاضبًا إلى خارج المقابر عساه يجد صاحبه، غافلًا أنه بابتعاده عن قبره سلّم روحه للضياع، حينئذ وصل إلى الطريق السريع؛ فصدمته سيارة تسير في الاتجاه المعاكس لم يتمكن سائقها من إيقافها.
صوت مكابح السيارة التي توقفت فجأة كان مرعبًا؛ فتح السائق نافذتها، وأطل برأسه التي يغطيها بطاقية بيضاء قائلًا:
- إلى أين تهرول ؟! إلى نهايتك؟!
خلع الشال عن رقبته، ووضعه على جرح الحصان النازف، بينما جلس إلى جواره يبكي؛ إذ تذكر ما فعله قبل ساعات في جنازة صاحبه!
قرر أن يبحث مسرعًا عن رقم جاره في قائمة جهات الاتصال بهاتفه المحمول، ثم جز على أسنانه، ونظر إلى الحصان، وقال متحسرًا:
- أيها المسكين، ما الذي أتى بك هنا؟!
ثم فاجأه صوت جاره يرد عليه؛ فتنفس الصعداء وفهّمه أن الأمر عاجل جدًا، وأنه لو لم يصل بأقصى سرعة ممكنة ستسوء حالة الحصان.
فترة صمت يسبح فيها خيال السائق في الضباب الذي يكتسي به المكان، ينظر إلي هذا الحصان الذي يلتقط نظراته؛ فيحاول أن يقطع صمت الموقف بوضع رأسه في حضن السائق الذي زاد ألمه بعد تلك الحركة.
بعد دقائق، أتت سيارة فجأة تشق الضباب الكثيف، وبمجرد نزول جاره منها قال السائق في صوت متهدج:
- لو أنقذته يا دكتور، سوف أعطيك كل ما أملك.
ربّت الطبيب البيطري على كتفه، وشرع على الفور في فحص الحصان.
تابع السائق ما يجري في ترقب، وبحركة مرتعشة داعب جاره، الطبيب البيطري، الحصان، بينما علت نظرات الارتياح وجه السائق الذي جلس مستندًا إلى إطار السيارة، يمسح الدموع الجارية فوق ثنايا وجهه، يتأمل ذلك الحصان الذي ظهر فجأة، مناجياً نفسه:
"أيمكن أن ينقذه؟ ولكن، ما الذي جناه مسكين مثلي في حياته ليصيب هذا الحصان اللافت للنظر؛ أبيض الجبهة، واسع العينين، مستقيم الظهر، قوي العضلات، ضيق الخصر.. إنه أفضل كثيرًا من بعض أصدقائي.. مصادفة غريبة، ويبدو أني من المحظوظين الذين ربما تخدمهم الظروف. نعم، سيصبح صديقي المقرب، وربما يتكاسل الرفقاء والجيران بل وأهل الحارة عن حضور جنازتي فلا يظل أحد معي حتى النهاية أو يرافقني بإخلاص إلا هو!"
تنهد السائق، تتصبب يده عرقًا، جفَّفه بمنديل ألقى به إلى جواره على الأرض، يترقب ما يفعله الطبيب، ذلك الخمسيني، أبيض البشرة، سمح الوجه، حسن الجسم، متماسك البدن، واسع الجبهة، الذي أخذته المروءة لإنقاذ الحصان في هذا الوقت.
تهدأ نظرات السائق التي زاغت حوله، بينما يقتحم الأمل الراكض جدار مخاوفه، عندما رأى العجوز تسير في حراسة الكلب الذي تستأنس بصوت نباحه برغم تعبه الشديد؛ إذ كان يجر قوائمه جرًّا.
انشقت الأرض عن تلك الأم الثكلى التي اكتست بالسواد؛ إذ كانت في زيارة مبكرة لقبر ولدها، وكانت تلك هي أولى لحظات شعورها بانتماء الحصان إليها.
لعلها انتبهت، لأول مرة في حياتها؛ بأن للحصان والكلب، حقيقة، نفس مقدار المحبة لولدها الوحيد "سعيد"؛ فافترشت الأرض تعانقهما.
جلست تربت على ظهر الحصان، وتداعب رقبته، وتمسح على جسده، ثم احتضنته، وقبلته وهي تذرف الدموع قائلة:
- لا يمكن أن ترحل يا عزيزي، افتقاد حبيبك أزعجك فيما أرى، لا تذهب؛ فأجمل ما في الوجود، وآخر ما تبقى لي في هذه الحياة، أنت وهذا الكلب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى