عبدالنبي النديم - موت.. قصة قصيرة

جلس أمام منزله الريفي المبنى بالطوب اللبن والطين، أفنى عمره في بنائه على مساحة أربعة قراريط، عدد غرفه عشرة، مسقوفة بالخشب والغاب, يتوسطها صحن الدار الفسيح كمضيفة كبيرة لاستقبال الضيوف، تراصت على أركانها الدكك الخشبية مفروشة بالحصير، بعد صحن الدار للداخل توجد غرفة غير مسقوفة, يتوسطها فرن الخبيز البلدي، وعلى يمينه رصت كوانين طهى الطعام ظهرت آثارها على الحوائط الملطخة باللون الأسود، تسللت إلى السطح تكعيبة العنب المزروعة خلف زريبة المواشى، تنسدل فروعها كثعابين من أعلى الدار.


الشمس تصعد إلى كبد السماء، في نهار شتوي خلا من السحب إلا قليلا منها، مع بداية عودة الحياة إلى القرية بعد ليلة باردة جافة المشاعر, ليخرج الجميع يطلبون الدفء من الشمس، يتمنون سطوعها طوال النهار والليل مما يلاقونه من سطوة البرد الشديد.

أمام المنزل علت تكعيبة عنب أخرى ارتكزت على أعمدة، تدلت منها أغصان العنب التى تخلت عن أوراقها استجابة للخريف، وعلى المصطبة الطويلة التي ارتكنت على الحائط أمام المنزل، جلس الجد عبد العاطى سند، الذى أفنى عمره في بناء داره وشراء الأراضي ليؤمن مستقبل أبنائه، تجاوره حفيدته ندا - بنت ابنته الوحيدة - تمد يدها بقطعة صغيرة من البطاطا المسلوقة التى هرستها بإصبعيها الصغيرين إلى فم جدها، الذي جلس القرفصاء محيطا ركبتيه بذراعيه يضمهما إلى صدره لتتشابك عظامهما، يرفع ذقنه من على ذراعيه، بعدما أحس بدفء البطاطا على شفتيه يلوكها بفكيه الخاليين من الأسنان تماما، تنظر ندا إلى وجه جدها تراقبه وهو يجاهد في بلع البطاطا المهروسة، تتمنى لو تمضغها بفمها وتضعها بفمه.


ترى ندا كتل البطاطا من تحت عروق رقبة جدها تزاحم تفاحة آدم، تهرس قطعة أخرى بأناملها الصغيرة ضاحكة تمازح جدها: جدو شاطر هياكُل البطاطا «هم يا جمل» كلها.. يفتح فكيه ليتلقى دفء البطاطا التى يسرى معها الدفء في جسده، يخرس بدفئها الأصوات الصادرة من أحشائه، تتابع ندا جدها، يمضغ قطع البطاطا المهروسة ويحارب في بلعها، ولم تنتبه لابن خالها، غافلها خاطفا قطع البطاطا من الطبق أمامها وفر هاربا، لم تتحرك ندا من مكانها، تعاركت مع هروب ابن خالها بنظراتها الحانقة عليه، حتى لا يدرك جدها ما حدث، بصوت واهن سألها الجد عن سبب صمتها؟

تلجلجت ندا في الرد عليه، ولم تجد مفرًا من المصارحة، زايد ابن عمى سند، وقع البطاطا من الطبق على الأرض فرد جدها مسرعا يفك ذراعيه من على ركبتيه يتحسس الأرض قائلا لها: امسحى التراب من عليها وأنا هاكلها، تحسس المنطقة المحيطة به وبحفيدته ندا، لم يجد أثرًا لدفء البطاطا على الأرض، أحس أن عينيه ابيضتا الآن وفقد بصره، ندا تحاول أن تخفي فعلة ابن ابنه البكرى.

يرتكن الجد عبدالعاطي برأسه إلى الحائط، يتذكر أفعال ابنه سند التى ورثها ابنه عنه، يتمتم بكلمات تنم عن غصة في حلقه، الواد طالع لأبوه.. طماع !!

أسرعت ندا قائلة لجدها لتخرجه من دائرة تفكيره، هجيب غيرها من مرات خالي.

بلهفة دخلت ندا إلى زوجات أخوالها تطلب منهن بطاطا مسلوقة بدلا من التى سرقها زايد متعللة، أن جدها ما زال جائعا.

مصمصت النسوة شفاههن ونظرن بامتعاض إلى ندا، البطاطا اللى فاضلة يا دوب تكفي أولاد خالك، والبطاطا نصيب جدك أنت أخدتيها، استنى أخوالك لما يرجعوا من الغيط ويبقى ياكل معاهم تاني.

ترد ندا بس جدى لسه مكملش فطاره، وأمى قالتلى فطرى جدك، وقالتلي إللي ميسمعش كلامك منكم أقولها، وهى هتخلص الشغل في بيتنا وهتيجى ورايا.. وأنتوا تعرفوا أمى ودقتوا ضربها قبل كدها للي هتهمل في أكل جدى!!

تنظر ندا إليهن بنظرة تحدي، بسطوة أمها عليهن وعلى أزواجهن، والنسوة ينظرن إلى بعضهن البعض، ارتسم الغيظ على وجوههن، تمد إحداهن يدها تأخذ الطبق من يد ندا، لتكشف إحدى الحلل المرصوصة على كوانين الطبيخ، وتخرج قطعتين من البطاطا لتضعها في الطبق بين يدي ندا، قائلة لها: دى آخر حتة بطاطا ومش هنغرف حاجة تانية إلا ما يجى أخوالك من الغيط، و احنا مبنتهددش يا ندا من أمك هى أختنا الكبيرة وبنحبها.

لحاجة في نفوس النسوة اضطررن إلى الاستجابة لندا، التى طارت فرحة إلى جدها تهرول وكأنها انتصرت في معركة حامية الوطيس.

تأخذ مكانها بجوار جدها على المصطبة قائلة: مرات خالى ادتني بطاطا بدل اللى وقعت على الأرض يا جدي، تأخذ قطعة من البطاطا الساخنة بين أناملها، تمدها إلى فم جدها عبد العاطى تضاحكه، أحس الجد بدفئها نارًا على شفتيه، نارًا ألهبت جوفه قبل أن تدخله، تداعبه ندا: البطاطا سخنة عليك يا جدو أنفخ فيها أبردها، ترسل ضحكة مسموعة إلى جدها تحاول أن تبعده عن تفكيره بضحتكها الصافية التي تعلم أن جدها يعشقها.

لكن .. تسقط دمعة من عين جدها بدلا من رسم الإبتسامة على شفتيه، تلحق ندا الدمعة بيدها اليسرى، لكنها تتسرب بين تجاعيد وجه جدها.

يتقطع قلبها الغض على بكائه تنظر إلى الأرض تصب اللعنات على زايد ابن خالها سند.

يرد عليها بصوته الواهن، انتى افتكرتى يا ندا إن جدو أعمى البصر، بس نسيتى إنه بيسمع كويس.. معلش, قسوة القلب طبع، والواد أبوه علمه الطمع، ونسى إن له أب عايش, أب عايش من غير ابن يسأل عنه، اليتم مش اللى مات أبوه وهو صغير، اليتم إن الواحد ميلاقيش حد يسأل عنه لما يكبر في السن, الابن اليتيم يا بنتي بيلاقى ناس تسأل عنه وتراعيه, بس جدك يا ندا يتيم كبير مفيش حد بيسأل عنه، ولا ولاد ياخدوا بالهم منه!!

وضعت ندا يدها على فمها، ما زالت يدها اليمنى تنتظر الإذن أمام فم جدها، تحاول أن تغير مجرى الحديث تداعب جدها، ومين أحلى من جدو ياكل البطاطا؟

غنجت ندا ببرائتها الطفولية التى تركتها، ودلفت من باب الصبايا، ليبدأ خراط البنات في إبداعه على جسدها وإبراز ملامح مستقبل لأنوثة صارخة، لم تدرك معانيها بعد، إلا من تعليمات حادة وصارمة من أمها، إنتى كبرتى يا ندا .. متلعبيش مع الصبيان يا ندا، إلى آخر التعليمات الصادرة التى طالما تعلن التمرد عليها، يستدير جسدها، تنهض كواعبها، تسبق عمرها بفوران جسدها، ولكن ما زالت أحلام الطفولة في كل تصرفاتها خاصة في رحاب جدها.

يستجيب جدها لإلحاحها، يفتح فكيه ليستقبل فمه قطع البطاطا المهروسة التى فقدت دفئها, يمضغها راسمًا ابتسامة على شفتيه لحفيدته التى يعشق حنانها عليه، فهى وأمها حملوا مسئوليته بعد انشغال أبنائه في التجارة والزراعة التي أسسها لهم.

تطلق ندا تنهيدة مسموعة قائلة لجدها: أيوة كده جدو حلو بيسمع كلام حبيبته.. وندا كمان بتحبه.

تضع طبق البطاطا بحجرها ممسكة به بيدها اليسرى، خوفا من خفافيش البيت أولاد أخوالها، تضع قطع البطاطا المهروسة واحدة بعد الأخرى بفم جدها، تترك وقتًا كافيًا له ليبلع.


يطلب عبدالعاطي من حفيدته الكفاية، فأحشائه لا تطلب المزيد، تتحايل ندا عليه ..تنغج له بدلال طفولتها النافرة، تتحايل عليه، حتى انتهى من تناول كل البطاطا بالطبق.

يفك الجد ذراعيه، يرفعهما إلى السماء يدعو الله لحفيدته وأمها بالستر في الدنيا والآخرة.

بقلق يبدو على جسده، يتحرك الجد في مكانه، يسأل ندا عن أبنائه؟

ترد عليه متساءلة: عاوز حاجة يا جدى من أخوالى أعملها أنا ؟

يتحرك في مكانه، فأحشائه أعلنت عن ثورتها، ونداء الطبيعة يناديه بإلحاح شديد، ولا يستطيع عبدالعاطي مساعدة جسده الهزيل في الوصول إلى حمام الدار في نهايتها من الداخل، يتذكر عافيته وصحته، لم يدرك أن أرزل العمر سوف يناله, انغمس مع زوجته في جمع المال وتوسيع رقعة أرضه, ليضمن المستقبل الآمن لأولاده, يضاعف من عمله, لا يدرك مرور الزمن على جسده الذي أنهكه, أراد ألا يواجه أولاده الفقر الذى واجهه في شبابه وترك أولاده, لم يسمع لتحذير والده له: أوعى الزمن يضحك عليك وتنسى نفسك, والأرض مهما وسعت مصيرها القسمة, والدار مهما عليت مسيرك هتسيبها، ومش هينوبك من الدنيا غير متر في متر.

يفك عبدالعاطي رباط يديه المتشابكة حول ركبتيه, يمسك بهما رأسه, يحاول أن يبعد شبح كلمات والده عن تفكيره, يندم على وفاة والده وهو بعيد عنه، بعد أن اختطفته الدنيا منه, سارحًا في البلاد شرقًا وغربًا, دفنه الجيران في غيابه, وصل العزاء متأخرًا كالغريب.

يفيق الجد على الأصوات الصادرة من أحشائه, وصوت ندا تناديه وتهزه ..جدو إنت محتاج حاجة من خالي؟

يشيح لها بيده نافيا، لأ مش عاوز حاجة من حد، أنا عاوز الستر من ربنا وعدم الفضيحة، يمسك بطنه بيده, يحاول أن يسيطر على الاضطراب الذى أصابها، محاولا أن يسكت أصوتها.

تتمادى أحشاؤه في الغضب، تتعالى زمجرتها.. بدأت في إصدار أصوات تزعجه بشدة.

يحاول عبدالعاطى الاستعانة بما تبقى من رجولته وقوته المنهارة, للدفاع عن هيبته أمام ثورة أحشائه, التى أعلنت بغضب رغبتها في طرد ما بداخلها.

يتحرك في مكانه.. مع إلحاح حفيدته في السؤال عن حاجته.

يضغط بضعفه - المسيطر عليه - على بطنه, يلح في السؤال على ندا عن أبنائه؟

يظهر القلق على وجه ندا، عندما وجدت القلق والغضب على وجه جدها، كأنه يحارب شيئًا غامضًا لا يستطيع السيطرة عليه ومقاومته، ترد عليه ندا: مش عارفة هما فين ..هسأل مرات خالى عنهم؟

تسرع إلى داخل المنزل، تنادى زوجات أخوالها بلهفة, تسأل عن أزواجهن الذين ردوا عليها ببرود.. عاوزة أخوالك ليه مش فاضين في الغيط؟

جدى باين عليه تعبان أوي وبيسأل على أخوالي؟

ترد إحداهن وقد ظهرت علامات الشماتة على وجهها: تعبان ..ربنا يسهلها ونرتاح ..أخوالك في الغيط بيسقوا الأرض، مش فاضيين لتخاريف جدك روحيلهم الغيط.

تتركهن .. وعلى وجهها ظهرت علامات الغضب تتوعدهن أن كل الكلام اللى قالوه هيوصل لأمها.

تسرع ندا خارجة من المنزل, تلقي نظرة على جدها الذي دلى قدميه من على المصطبة، وعقد يديه ضاغطا بهما على بطنه، مع انحناء ظهره أكثر مما هو عليه, تلح في السؤال على جدها: أنت عاوز إيه بس يا جدى وأنا هعمله، أخوالى في الغيط بيسقوا الأرض؟

يصب الجد غضبه على الأرض واللى اشترى الأرض، لو كنت أعرف اللي هيحصلي مكنتش إشتريت الأرض.

تجبره زمجرة أحشائه, أن يبوح لحفيدته بما يعانيه، يقول بحياء الرجولة المنكسرة، مطأطىء رأسه إلى الأرض, عاوز بيت الراحة.

اضطربت ندا.. أدركت المشكلة التى يواجهها جدها، تعود مسرعة إلى صحن المنزل، زوجات أخوالها تراصوا أمام حلل الطبيخ على الكوانين، تطلب منهن بلهفة, أن تساعد إحداهن جدها وحمله معها لدخول بيت الراحة؟

تنظر نسوة أخوالها إلى بعضهن البعض، وينظرن إلى ندا بتأفف, تنطق إحداهن وهى تظهر أسنانها مستهزئة، أخوالك في الغيط، روحي نادى عليهم، مينفعش نشيل جدك ويتكشف علينا.

ترد عليهم بغضب ..وإيه يعنى يتكشف عليكوا، هو مش زى أبوكم، هو حرام تساعدوا جدي معايا يدخل بيت الراحة؟

ترد النسوة اللائى أصررن على عدم مساعدة جدها، مش هينفع يا بنتى، مش هينفع ندخل مع جدك بيت الراحة، روحي لأخوالك في الغيط، هما اللى يقدروا يشيلوه.

تصب ندا اللعنات عليهن، تخترق وسط الدار, مسرعة إلى حيث جدها, الذي يحارب طواحين الهواء في معركته مع أحشائه المزمجرة والاضطراب الذى أصاب جسده الضعيف، تدلت قدماه، يحاول أن يهبط من على المصطبة لم تصل قدمه للأرض، تمسك به قبل أن يسقط, تحاول أن تثنيه عن الهبوط وحده حتى لا يتعرض لأذى، تحذره طالبة منه أن تحمله هى إلى بيت الراحة, يرفض جدها بشدة صارخًا فيها، وأنت ترضى لجدك البهدلة في آخر أيامه، يقولوا النسوان بتدخله بيت الراحة، لا يا ندا ..عيب أنا راجل يا بنتى, يحاول أن يسيطر على اضطراب جسده أمامها طالبا منها استدعاء أحد أخوالها من الغيط ..روحى اندهى لخالك .

تسرع الخطى على الطريق المجاور للترعة المارة من أمام دار جدها, تهرول ..تنظر إلى كافة الاتجاهات, تدعو الله أن يقابلها أحد أخوالها الخمسة في الطريق حتى يستطيع نجدة جدها.


تلفتت يمينًا ويسارًا, تقف أمام غيط أخوالها الأول، تنظر إلى مساحته الكبيرة تمسحه بعينيها, تنظر بين سنابل القمح, تتفحصه بحثا عن أحد أخوالها يخرج من بينها.

حائرة .. تخبط كفيها على فخذيها, تحدث نفسها, طب أخوالى راحوا فين؟ أدور عليهم في أنهى غيط؟ تواصل المسيرة إلى الغيط التانى, تعبر الترعة من على جذع نخلة طويلة يربط بين شاطىء الترعة.

تهرول ندا تاركة الطريق الرئيسى بجوار الترعة, تنهش قدميها الغضة مشاية صغيرة لا يتجاوزعرضها المتر الواحد تغطي جانبيها النجيلة الخضراء, تفصل بين غيط للقمح وآخر زرع برسيم.


تتذكر ..جدها يحملها على كتفيه, تدلدل قدميها على صدره, تحتضن رأسه بذراعيها الصغيرتين ورأسها الصغير فوق رأسه، تنظر إلى الغيطان من فوق كتفيه, تداعب جدها تخلع طاقيته الصوف وترتديها على رأسها، كان ينهر أمها عندما تعاقبها بالضرب، محبته لأمها -ابنته الوحيدة- انتقلت إليها.

تتمنى لو وافق جدها على أن تحمله إلى بيت الراحة رغم صعوبة حمله على كتفها.

تطوى الأرض طيًا.. تفكر في جدها المنتظر لنجدتها.

طال بها الطريق ..وقصر عليها الزمن الذى لم يسعفها في الوصول إلى أخوالها.

تظهر من بعيد مواشى أخوالها المربوطة على رأس الغيط, تتفحص كل قطع الأراضى التى اكتست باللون الاخضر بكل درجاته, يخيب رجاؤها للمرة الثانية، فغيط أخوالها المزروع بالبرسيم، لم تجد أيًا من أخوالها، تقف لبرهة أمام مواشى أخوالها تنظر إليها، علها تنطق بمكان أخوالها لنجدة جدها.

تحتار ندا.. أى طريق تسلك لتجد أخوالها فما زال أمامها ثلاثة غيطان للبحث عنهم, ينجدها أحد جيران أخوالها في الغيط يعرض عليها المساعدة.

عاوزة حاجة يا ندا؟

تسأله مسرعة عن أخوالها: هما أخوالى فين دلوقتى جدي عاوزهم ضروري؟

يرد الجار.. دول خدوا بعضهم ومعاهم العمدة وراحوا على المركز علشان جلسة المحكمة ميعادها النهاردة، عندهم جلسة بتاعت تقسيم الأرض.


طب جدك عاوزهم هما، ولا تعبان أجى معاكى أساعده؟

تصمت ندا ..تعلم جدها تمام العلم سيرفض مساعدة أى غريب له في لحظة ضعفه ليستعين به لدخول بيت الراحة، تطمئنه على جدها.. تشكره.

تعود مسرعة, والإصرار يملأها أن تقوم بحمل جدها إلى بيت الراحة، تطوى الخطوات في طريق العودة مهرولة حيث بيت جدها الواسع.

يتحامل الجد عبد العاطي على نفسه, يصارع شيخوخته, حتى لا تسقط هيبته, ورجولته التى أفنى عمره يحافظ عليها, خاصة أمام أهل بيته.

لكن هيهات هيهات..


يواجه تقلبات أحشائه بالتحرك المستمر وهو جالس في مكانه, رغم صعوبة حركة يديه وقدميه, التى تيبست بفعل الزمن, وانحناء ظهره أصبح كالسيخ الحديد الصلب يصعب استقامته بعد ثنيه, وإن عاد الإستواء إلى السيخ الصلب, فلن يعود إلى ظهر الجد عبد العاطي.

زمجرة أحشائه أصبحت متواصلة تعلن العصيان عليه, لعدم تلبية طلبها في طرد ما تحتويه.


يتودد إليها بالصبر, يمنى نفسه بقوة التحمل عليها، تأخذه في لحظة زمجرة لأحشائه, نشوة الرجولة, يهم بجسده الضعيف, محاربًا آثار الزمن عليه وعتى الكبر الذي سيطر على أوصاله، يسند بكلتا يديه على حافة المصطبة يدفع بجسده إلى الأمام، فيهوى على الأرض مكبا على وجهه.

تسقط دموعه قبل أن يسقط جسده الهزيل، الذى أصبح جلدًا على عظم بعد أن فشلت ساقاه في تحمل جسده, فينكفيء على وجهه, يفترش الأرض ببطنه, يدعوها أن تنشق وتبتلعه, لتوارى سوءته، علها تسمع زمجرة أحشائه لتحقق طلبه وتواريه ببطنها.


ينادى أرضه التى جمعها في حياته, يطلب منها ستره, ينبش الأرض بأظافره, يريد أن يحفر قبرًا يدفن به حيًا قبل أن يلحقه العار.

يستجمع قواه, يسحب جسده الهزيل, يتمنى لو تطوى الأرض من تحته ليصل إلى بيت الراحة, يندم على إسرافه في توسعة داره الفسيحة، حتى أصبح طريقه إلى بيت الراحة سفرًا طويلا, يصل إلى عتبة الدار زحفا على بطنه, يتشبث بها بكلتا يديه, يسحب جسده مستعينًا بثبات العتبة, يمر من فوقها, فيمزق مسمار حدادى طل برأسه من عتبة الدار ملابس عبد العاطى ويجرح بطنه.

لا يلقى بالا لتمزق ملابسه, وجرح بطنه، لديه الكثير من الجلابيب الصوف التى اشتراها له أبناؤه من أجود الأنواع لحاجة في أنفسهم، احتفظوا بها في دواليب غرفهم، خروج الدم من الجرح لا يسقط هيبة الرجولة, يسقطها أن تنتصر عليه زمجرة أحشائه, إنها الفضيحة!!..

يتحسس ساحة الدار المتربة بذراعيه وجسده النحيل يترك أثرًا على ترابها، يصب عليها جم غضبه.

يحدث نفسه ..لماذا أسرفت في توسعة الدار ليتها كانت غرفة واحدة؟

لن تغنى عنى الآن في ستر رجولتى, تصل إلى أنفه رائحة الطعام من آخر المنزل تزيد من هيجان أحشائه, ينادى على زوجات أبنائه بصوته الواهن بعد ان أعلنت أحشاؤه الغضب الكامل, ولا مجيب منهن، فقد تعالت ضحكاتهن، أمام كوانين أكلهن، تأكد عبد العاطي أن أحشائه لن تسمح له بفرصة ثانية, وأن معركته معها قد حسمت لنداء الطبيعة، عليه الإذعان لكامل طلباتها ..يسقط فريسة لها، بعد أن تشبث بزير المياة بوسط المضيفة ليسقط الكوب المعدن ويحدث صوتا، فتلتفت نسوة أبنائه إلى مصدر الصوت، لتقع أبصارهم على والد أزواجهم الذي يتلوى وسط الدار، ينظرن إلى بعضهن البعض، يمصمصن شفاههن.

تحاول كل واحدة أن تتحاشى النظر إليه، وكأن الأمر لا يعنيهم، ولم ينطقن بأى كلمة حتى لا يدرك وجودهن.. ويسود الصمت بينهن.

ينسحب ثلاثة من زوجات أبنائه من مجلسهن أمام كانون النار, يحيطون به دون أن تحاول إحداهن أن تمد يدها لتساعده في أن يقف على قدميه سائلين عن طلبه، وهم أدرى بإجابته.

إنت عاوز تروح بيت الراحة؟؟

أصبر شوية.. زمان الرجالة جاية من الغيط.

يسبون ندا ويصفونها بالملعونة ..اتأخرت ليه؟

يسترسلن في الحديث للجد عبد العاطى, مينفعش واحدة مننا تدخل معاك بيت الراحة.

لا يسمع لهن.. يسحب ساقيه يدفع بها بطنه التى التصقت بصحن الدار، يستعد كجندي يزحف أسفل سلك شائك في ميدان المعركة, يحاول جاهدًا السيطرة على أحشائه الغاضبة، يعض على شفتيه بفكيه الخالية من الاسنان, يصب غضبه على الدنيا التى تركته ليصل إلى أرزل العمر.

يطلب الخلاص من الله والستر بالموت، قبل أن تموت رجولته بفضيحة.

خارت قواه ووهن جسده، هزمت زمجرة أحشائه -التى ما زالت تحتفظ بشبابها داخل جسده الضعيف- بقايا رجولته، وفاحت رائحة موت الرجولة.

سقطت رجولته التى أفنى عمره يحافظ عليها.

أدرك حينها أنه لم يصنع رجالا يستعين بهم على الزمن, بل وحوشًا يفترسون أرضه التى ظن أنها ستوارى عورته.

تدخل ندا مسرعة من باب الدار تلهث, تجد جدها منكفئًا على بطنه, تفوح منه رائحة وفاة رجولته, غائبا عن الدنيا.

تصرخ.. تحتضن جدها تساعده في الجلوس ..تربع رجليها, تضع رأس جدها على حجرها كوليد صغير ،تناديه ..يسمعها كأنه في بئر سحيق، لا يقوى على أن يفتح عينيه، تنسحب روحه, يستنجد بها أن تستر رجولته، تمسح دموعها المنهمرة وجه جدها، يغطى صوت صراخ عالي آت من باب الدار على صرخات ندا التى تستنجد بزوجات أخوالها, تقبل أمها مهرولة، تفزع لمنظر والدها منذ أن سقطت عليه عينيها عند دخولها من باب المنزل، تأخذ أبوها من على حجر إبنتها, تضمه على صدرها، تصرخ في وجه إبنتها ..ايه اللى حصل؟

تدرك من رائحة والدها حجم الكارثة التى ألمت به, تفضحه ملابسه المتسخة, التى أنقضت وضوءه.

تنظر بعيون يملأها الغضب والشراسة إلى زوجات أخواتها, تعدهن بعقاب شديد على إهمالهن لوالدها هن وأزواجهن, صارخة تطردهن من الدار، وتطلب من ندا أن تغلق الباب خلفهن، تحمل والدها بين ذراعيها, تضمه إلى صدرها, تساعدها ندا, تسرع إلى بيت الراحة, تخرج ندا تغلق خلفها الباب.

تخلع أم ندا عن والدها ملابسه الملطخة بآثار وفاة الرجولة, تحاول أن تعيد والدها إلى وعيه، تغمر جسده الهزيل بالماء، لا يستجيب، تصب فوق رأسه الماء البارد مرة أخرى, يشهق والدها، يفتح عينيه بصعوبة، ينظر إلى ابنته، يخرج كلمة واهنة من بئر سحيقة ..استرينى يا بنتي!!

يغلق عينيه وسط صراخ ابنته، تنادى بأعلى صوتها، هاتيلى هدوم نضيفة يا ندا لجدك.

تخرج ندا مسرعة إلى باب الدار، تطلب من زوجات أخوالها ملابس لجدها، تضطرب زوجات أخوالها يتخبطن بعضهن البعض، تهرول كل منهن إلى غرفتها تحضر ثيابًا جديدة، عدن مسرعين إلى ندا ينظرن إليها بنظرات استعطاف ألا تحكي لوالدتها ما حدث، تدخل ندا إلى أمها تساعدها في ستر جدا.

تجفف أم ندا جسد والدها الذى استسلم تماما، يحارب كي يستغني عن روحه, يغوص في بئر سحيقة، يستسلم للنهاية التي ينشدها.

تخرج أم ندا من بيت الراحة تحمل والدها على كتفها كطفل صغير، وقد استسلم تماما لها, تدخل مسرعة إلى غرفة والدها تحاول أن تعالج جسد يطلب مغادرة الحياة، تستدعى والدها أن يبقى معها, فلا حياة لها من بعده، تتراص زوجات أخواتها، ترتعد مفاصلهن خوفًا من عقاب أخت أزواجهن.

يقطع خوفهن، صرخة مدوية تخرج من حجرة الجد، ونحيب صارخ يشق الصدور يخرج من أم ندا، تسقط ندا مغشيًا عليها وسط زوجات أخوالها، تتوه النسوة بين صرخات أم ندا وانهيار ابنتها، وخوفهن من الدخول إلى أم ندا خشية عقابها، تفارق روح عبد العاطي الجسد الهزيل، وسط عويل وصراخ ابنته في غياب أبنائه الذكور.

تغلق عيني والدها وتسحب مفرش قطيفة تغطى به جسده.

تخرج ودموعها تغرق وجهها، رسمت عليه علامات الغضب وتغرقه الدموع، ونظراتها ملئت شرارًا, تأمر زوجات أخواتها بأحضار فأس، يتراجع النسوة إلى الخلف, علامات الرعب ارتسمت على وجهوهن, لحظات تذهب كل زوجة في اتجاه يتخبطن بعضهن البعض, لتنفيذ الأمر.

تدخل أم ندا إلى بيت الراحة، تلف ملابس والدها التي تفوح منها رائحة موت الرجولة, تقف في منتصف صحن الدار، تقبل كل زوجة من اتجاه, تحمل كل واحدة منهن فأسا, يمددن أيديهن إلى أم ندا، تأخد أقرب فأس، تضرب الفأس بكل قوتها تشق بطن صحن الدار، تعمق الحفرة، زوجات أشقائها يرتعدن، أفكار قاتلة تعصف بعقولهن، سؤال يدور بداخلهن لماذا الحفرة؟!!

تعمق أم ندا الحفرة أكثر، العرق يتصبب على جبينها، يختلط بنهر الدموع المتساقط من عيونها على فراق أبيها, تستكفي بعمق يكفي لدفن فضيحة أبيها, تلقى بملابسه بداخلها, تردم الحفرة وتتأكد من الستر.

تلقى الفأس من يدها، تنظر إلى زوجات أخواتها, اللائى ظهرت عليهن علامات الارتياح بعد معرفة الغرض من الفأس، توجه إليهن تحذيرًا.. اللى حصل النهاردة ميطلعش برة ومصير هدوم أبويا هيكون مصير أى واحدة يخرج منها كلمة على اللى حصل، أظن كل واحدة عارفة ممكن أعمل فيها إيه، وحسابنا بعدين على اللي حصل.

يدخل والد ندا إلى المنزل حاملا تحت إبطه لفة كبيرة من القماش، يستر بها الجد عبد العاطى, يوارى الجسد الهزيل والرجولة المغتالة، تجمع أهل البلد ليحملوا الجد في غياب أبنائه, إلى مثواه الأخير..

يلحق الأبناء عزاء والدهم في الربع الأخير..

ليتقاسموا تركة عبدالعاطي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى