إبراهيم الديب - "ناصر"

"ناصر
زميل من بورسعيد مجند معنا في مركز التدريب الذي يقبع على تخوم القاهرة ،لا شئء يميز ناصر عن سواه من الآلاف التي على قوة المركز من أفراده المجندين، فلا تبدو عليه أي ملامح غير عادية ، غير أنه شخص متوسط الذكاء ويعشق تناول سندوتشات البيض بالسطرمة ،ولا يستطيع في أحياناً كثيرة التعبير عن نفسه أو فض مكنونها. ولكنه يأتي أو يقوم بأمر غريب لفتت نظر الجميع ، وأصبح في نظرهم مثار دهشة وغرابة تستحق الاهتمام أو الاعجاب بما يأتيه ، فهو يطلق كل يوم قبل آذان المغرب، و في نفس اللحظة التي يعلن فيها قرص الشمس مغادرته الكون: صفارة غربية بصوت مرتفع، بعد أن يضع إصبعين من كل يد في فمه لتشق طريقها في الأثير وفضاء الله، يجتمع على أثرها مجموعة من الكلاب في أسراب وكأنها شلال هادر منساب من ينبوع في عل وكأنها مجتمعة منتظرة صفارة ناصر التي تشعر من انطلاقها وسرعتها أنها كانت في سجن منذ ألف عام ، واستعدت كثيراً لهذا الهبوط من أعلى الجبل الذي يحيط المركز من جهاته الأربع حتى تصل لناصر وتجعله في وسط دائرة تتمسح به، وتتطوف حوله ،مشهد غريب يثير الفزع في نفس من يشاهده.
ولكن الكلاب سعيدة ليست أكثر من فرحة ناصر بلقائها ، ثم تدور حوله في حلقات ليشير لها ناصر بكلتا يديه لأماكن في اتجاهات مختلفة تسلكها الكلاب سعيدة منطلقة بأقصى سرعة ثم تعود إليه مرة أخرى أسرع من انطلاقها ، وكأنها تخبره سعادتها تنفيذ أوامره تحكك رأسها به في حميمية تبدي استعدادا لمزيد من طلبات ناصر ، فهي لا تقوم بذلك خشية عقابه ، بل تعبير عن سعادتها لقائه، جميع أفراد مركز التدريب تشاهد عن كثب ما يدور على مسرح الصحراء الشاسعة، و جميعنا لا يفهم شيئا على الاطلاق أما الشغف فيسيطر على الجميع. يستمر ناصر في إصدار أوامره، ثم صفارة أخرى منه تزداد بعدها الكلاب نشاطا وهياجا ونباحا وشراسة في المزاح فيما بينها.
يدور حوار بيني وبين نفسي وأعتقد أيضاً أن كل فرد في المركز يقع تحت نفس الفكرة التي تدور في نفسي وهي ،ما سر صفارة ناصر التي تأتي بهذا المجموعة الغفيرة من الكلاب ، ماذا يدور بينهما أثناء الحوار الذي أكثره إشارات من ناصر وسمعا وطاعة ، ماذا يعرف ناصر وأين تعلم كل ذلك هل هو ساحر اين ومتي تعلم ووقف على سر هذه الطقوس التي يمارسها مع الكلاب يوميا؟ من أين له هذه الثقة قبل أن يطلق الصفارة أنها ستجتمع وتأتي إليه مثل المرات السابقة ،بعد أن دخل في رهان مع مجموعة من المجندين أن يطلق الصفارة غيره من المجندين ومن ثم تأتي إليه الكلاب وبالطبع كان الفشل من نصيبهم وربح ناصر الرهان.
جلست معه بناء على رغبتي بعد أن قتلني الشغف وقمت بسؤاله لأقف على سره لم يكن مرحب بالجلوس معي ولا بسؤالي و لم يبح لي بشيء على الاطلاق، واتهمتني نظرته في التدخل في شؤونه وخصوصياته، وحدث ذلك معي كثيراً عندما استنطق أي شخص عن أمر أو قضية فكرية ، فأنا لا اخجل عندما أسأل عن شئء لا أفهمه جزء من تكويني، ف يتهمني البعض بالتدخل في شؤونه، علاوة على انطوائية ناصر وخوفه الدخول في علاقة جديدة مع أي شخص ، جزء من تكوينه قد يكون سره مع الكلاب أمراً تافها ولكنه يقع في نفوسنا وكأنه معجزة، لم يبح بسره لي ولا لغيري من وجهة نظري ليحافظ على تميزه بعد أن شاهد الاعجاب الذي تخطى الجنود وتجاوزهم للضباط وعرفت بعدها أن الكثيرون غيرى أرادوا الوقوف على سره وقاموا بسؤاله ولكنه كان يمعن في الرفض بإصرار شديد وظل كل من أيام فترة مركز التدريب قبل آذان المغرب يطلق نفس الصفارة ويشاهد الجميع ما يدور بين ناصر والكلاب.

إبراهيم الديب/مصر


* احد نصوص كتابي "صخب العمر "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى