نضال القاضي - سامبا.. قصة

كيف نمت في راسه تسع عشرة ضفيرة !!
ذو التسع عشرة ضفيرة هذا سرق نسختي الخاصة من كتابي، هنا في هذا المقهى، حيث كنت التقيته للمرة الأولى وفي أقل من عشر دقائق نحس اختفى الكتاب !. ثم قيل لي بعد فوات الأوان انه سارق كتب محترف.
-افاعي وليست ضفائر !..انظري الى رأسه كم يشبه ميدوزا!!
علّقتْ غريس وهي تستدير نحوي حين رمقتني أحدّقُ في ضفائره وأردفت :
ورِجْلٌ هنا ورِجْلٌ هناك ..عندما تعذُر عليه الحصول على عمل انخرط في فرقة سامبا حتى غدا أحد مدرّبيها المهمّين.كنت وقتذاك اذهبُ لأتدرّب بانتظام وحدث ان تأخّرتُ مرّة .. ف--- ، و أحاطت فمها بكفّيْها كي لايسمعها احد ..فلم أفهم منها شيئا ، كان في خاطري كلام كثير وانا انظرُ اليها تتحدّث محتدّة مبحوحة الصوت ثم بلا صوت وقد امتلأت المسافة بيني وبينها بزبائن كثر جعلوا يتوافدون على المقهى فالساعة دقّت لموعد الغداء..و الأطباق والقهقهات وزجاجات "السرفيج" تتخاطف الفضاء فيما غريس تزداد سخطا و يتقطّع صوتها وصورتها وسط الزحام .. لم أعد أتبيّنها ..توارتْ عنّي تماما.. وثمّة عمى وخَرَس لاأدري لمن ..حطّا كطائرين ثقيليْن وجعلا يتململان في المكان مختنقيْن بالضجيج وبأدخنة الشّواء ورائحة " المتّه "وغبار "الشيماهو" الأخضر لحظة نقْعِهِ في الماء الحارّ ثم النظرات الطويلة المتأمّلة عند إطباقة خطّ الفم وإعادة فتحهِ مثل عين ترمشُ تضبط إيقاعَها بقبقاتُ أرجيلةٍ عربيّة.
يالي من ..تنهّدتُ بأسى.. كيف غفلتُ عنه ذلك اليوم.. يوم !!.. بل هي أقلّ من عشر دقائق نحس سرق فيها كتابي ومضى . ماأزعجني أنّ عدد النسخ كان قليلا وقد نفد بالكامل .
- ها ..غريس!! .. ماذا كنت تريدين ان تقولي!!
بادرتُها بالسؤال حين غدا بالإمكان سماعها وقد بدأ الزبائن يغادرون أماكنهم متفرّقين في الجهات ونهضتْ هي الأخرى من بينهم وقد حملَتْ حقيبتها بيديها اثنتيهما واتّجهتْ نحوي وبخفّة سحبتْ كرسيّا وجلست قبالتي ثم جعلتْ تتحدّثُ إليّ وجها لوجه بدون انقطاع..
- قلت لكِ حدث ان تأخرتُ مرّة عن التمرين فوجدتهُ في الساحة.. هنا.. يكافح لإقناع ابنتي بمواعدته!! .انها مثل ابنتك ياحقير صرختُ به.. فردّ الحقير: هاأنت قلتِها !.. مثل ابنتك !.. مثل ابنتي ليست ابنتي !! أليس كذلك!!. صرتُ بعد تلك الحادثة أتجنّبُ غضبهُ او الدخول معه في مجادلة كسبا للوقت ولكي يأمنَ لي فأتمكّن من استدراجهِ لاحقا !..نعم.. كان هذا هو هدفي الأوّل !!..واستدرجتُهُ بالفعل حدّ التظاهر بالقبول بمواعدتهِ وتجاهُلِ محاولة ِ إغوائهِ لابنتي تجاهلا تاما !!
- ثم !!.. وامتزجتْ (ثمّ ) هذه بارتعاشةٍ في فمي وكأنّ الذي أسمعُ يحدث معي أنا شخصيا
- ثم وصل الى شقّتي ..طلب فنجان قهوة
- ثم ماذا ...ماذا حدث ؟!!..أكملي
- شرب فنجان القهوة
-فقط !!
- أجل.
-أهذا كلّ شيء !!
- القهوة كان فيها سمّ !..لكن الوغد حمل نفسه الى الحمّام وجعل يتقيّأ ثم غادر وعلى رأسهِ تلك الأفاعي التي ترينها تتلوّى أمامك.لم يمتْ كما خطّطتُ .لاأعرف القتل ياصديقتي..و لا أخفيكِ..ثمّة سعادة صغيرة التمعَتْ في روحي وقتها حين اكتشفتُ انّهُ لم يمُتْ!
- لكنه يستحقّ القتل !!
- لكنه لم يستطع الوصول الى ابنتي..
- لكنه سرق نسختي و ماتبقّى من النسخ استولى عليهن وباعهن..التافهُ باع بعضهن كقصاصاتٍ لبائعٍ يتجوّلُ بعربتهِ في الأزقّة يبيع بذور عبّاد الشمس واليقطين المحمّصة بعد أن يلفّها بتلك القصاصات وهو يغنّي"قل للزمان ارجع يازمان "
-ماذا يغني!!
-"diga ao tempo voltar o tempo "....
- مممم ..تصوّري في صباح يوم وفاتهِ التي لم تحدث قال لي جاري :كانت ليلة رائعة ..هه !!
لقد كلّفني استدراجُهُ خسارةً فادحة ومالم أكُنهُ في يوم من الأيام كنتهُ في نظر جاري ياصديقتي !
ثم ندّتْ عنها صيحة مكتومة أعقبتْها غمغمة..وأستطردتْ :
قال لي مرّة بصوت منخفض وعينهُ تنغرسُ في عنقي مثل مخلب:
أنا.. سافل!..هه..ساااااافل..! هل تعلمين"!!"
تلقّيتُ تهديدَهُ بضحكةٍ بدتْ غبيّةً وأنا أمعنُ في مراوغتهِ فيما هو يقهقهُ كاشفا عن جانبٍ من لثّتِه ِالكريهة فارغ ٍ من الأسنان ..بينما الكلمات تتطاير ُمن فمهِ ممزوجةً برذاذ لعابهِ فيجاهد في اللحاق بحروفها ويعيد تلفّظها أكثر من مرّة ويلثغ.. فيهملها ، ورِجْل هنا.. ورِجْل هناك في حلقات الرقص . وفي إحدى المرّات سرَتْ همهمة في المجالس عن سرقة ، و نُسبتْ السرقةُ اليه ، لولا توسّط البعض.. هذا البعض خبرتُه جيدا فهو إمّا غبيّ وإمّا متواطئ وإلاّ بماذا يُعَلّلُ الدفاع المجّاني في مثل هذه المواقف فينجو ذو النقيصة وتلصق التهمةُ بأبرياء !!.. بل والأنكى أن يواصلَ هذا الخبيث المشاركة في الكرنفالات بدرجة راقص مدرّب !! ..بالمناسبة هل ستحضرين الكرنفال ..لم تبق إلاّ أيّام قلائل و تفقدُ الساحاتُ صوابها!
- بيني وبينه تسع عشرة ساعة اي ثمانية وثلاثون عقربا !!.. تمتمتُ بصوت غير مسموع فيما خيّل لي انّي أسمعُ دبيبَ العقارب ثقيلا متثاقلا كما لو كنتُ أسحلُها من ورائي على شُوال..، و غريس تربّتُ على يدي:
-ها...ماذا قلتِ!!
فانتبهتُ واستدركتُ على الفور:
- بلى..بلى سأحضر بالتأكيد.
وجعلَتْ تلوكُ في رأسي "أيام قلائل"، تلك ، مثل لسانٍ وسواسٍ لايكفّ عن الوسوسة ، ترى ماذا لو أجرّبُ قليلا القلائل تلك ، فأمشي من بينها .. من بين أيّامها بدلا من أن تسير هي بي بحسب مشيئتها ، فكّرتُ أن اعود الى الوراء .. يوم لي ويوم لها..و شيئا فشيئا أدرّب ذاكرة قدميّ على إعادة مالم يكن بمستطاعي طوال تلك السنوات فأجبِرتُ على ابتلاعهِ أحجارا خشنة حادّة صلبة.أحجارٌ تمزّق !..ماذا لو أنّي افترشتُ تلك الأحجار ثانية وتركتُها تنقعُ بما رشُحَ منّي وظلّ مكتوما في داخلي !! ..أفهل بالإمكان استعادة ولو مثقال ذرّة !! ..للحظة كاسرةٍ ٍواحدة تحرفُ زاوية النظر بقدر حافة !!.. هنا جعلني حماسي الفنتازي أقفزُ بالنظر من فوق صفّ أصص تشهق نباتاتُها عاليا فتحجبُ وجوهَ َالجالسين خلفها ثم لأكون بعد ذلك في مواجهة الأصص ثانية وأمامي الساحة من جديد يحدُّها سوقٌ بورتو التراثيّ وهو يدفع أمامهُ مقاهيَ عديدةً تفصل بينها أعمدة حديدية مطليّة بالأسود بهيئة رماح تربط بينها حبال غليظة من القنّب تتدلّى أسفل منها سلاسل مذهّبة ، وقد جعلَتْ غريس تمسح عليها بيدها ببطء وهي تتأمّل في وجهي ما يجولُ في رأسي وقد جعل يعيد نحتَ ملامحي بأسلوب مختلف و تجريديّا نحو آلاف النقاط والخطوط والألوان تذوب كل منها في نقاطها وخطوطها وألوانها إذْ يخلط رأسي المرارات بالسعادات ماحياً آثارَ رسمِها،كلّ مرّةٍ، من على وجهٍ ليس وجهي ويمرُّ على وجوهٍ كثيرة قبل أن يتملّكني إحساس بأنّ ملامحي ، ذاتها ،ملامحُ غريس وهي تزمُّ شفتيها وتسأل:
-بماذا تفكّرين !!
- فنتازيّات!
حقا !!..أشركيني معكِ فأنا زهقانة ياصديقتي -
وهل تقدرين !!.. يبدو لي انّ الأمر عصيّ عليك فأنا وأنت مختلفتان ..عفوا..اقصد أنا..قلتُ مبتسمة.. من تلك الأرومة ..ولاادري ان كنتِ قد سمعتِ أم لم تسمعي بها .. (شاكو ماكو)!!.. إنّهُ شعب لايسكن في أيّ(هنا)..بل مسكون هو بأكثر من (هناك).الواقع عندنا ليس راسبا ولامتراكما بل عائم ..انّنا نقف في قفّة..والقفّةُ تسير بنا على الماء ،معنا الأيّام مادّة سائلة أيضا ،ماء آخر ، تجري بمجراه وتصبّ في مصبّه.. ثم تغرق ! .. تشرئبُّ أعناقها كلّما داهمها القصب حدّاً يصعب معهُ التمييز بينهما .هكذا أمشي من بين القصب، أحيدُهُ وطميَّهُ ملتفّين مشتبكين بأسماك وطيور وأفاعيّ تتسلّلُ من خبء ولاتلبث أن تعود اليه.. في الخبء أيضا أيّام غزيرة لم تطأ اليابسة، لم يدركها أكثرُ الضوء .. فهل تقدرين !! عليك أن تنتبهي !..إنّ أيّ ارتباك قد يقلبُ القفّةَ بنا فنقع !!..وعليك أن توفّري أسئلتك كي لاتربكيني أو تربكي نفسك ! ..اتفقنا!!!!
-فنتازيات !! انت قلتِها !! أقدر لم لا أقدر ..لن اسألك اطمئنّي.اتفقنا!
شعرتُ انها مرتبكة فابتسمتُ كي أخفّفَ عنها:
-كلّ واحدة لها أيّامها.أمسكي الآن بالحبل بقوّة وإيّاكِ أن تفلتيهِ من قبضتكِ وسأفعل انا بالمثل فاذا ماشعرَتْ إحدانا بتوهان الأخرى سارعتْ لتشدَّ على الحبل حتى تفيق..اتفقنا!!
-اتفقنا.
-الآن أنا في مطلع..مثلا..وأنتِ..
سأختار الحقبة ذاتها كي لانكون متباعدتين .فنقع من القفّة !..وغصَّتْ بالضحك .
فأومأتُ برأسي موافقةً وانا أستهلُّ أيّامي :
في تلك الآناء مات رجال كُثْرٌ في بلدي تمهيدا لموت أكبر .كنا نضع للموت مرادفاتٍ مختلفة كي نتجنّبهُ فنبتكر حياةً متواضعة ونضعها قبالته ، نستعيرها ممّا حولنا من كائناتٍ جعلتْ الحياةُ تمدّنا بالآلاف منها وتسمّيها بأسماء تقرّبها من صورة نفسها فتعلّمْنا الخوف..تعلّمناهُ كي لانفقدها ..صِرْنا نخاف من اشياء كثيرة من أجلها ، فيما وفي أتفهِ التفاصيل تنحشر شياطين طوال قصار سمان عجاف تبرّر للموت ومرادفاتِهِ وتجعلُهُ بديلا للوجود حدَّ اهترائِه ِ فيما يحيا البعض آلاف المرات آلاف الحيوات..غالبا ماراوَدَنا شعور انّ هذا البعض يعيش بالنيابة عنّا وأنّنا نموت بالنيابة عنه!!.. وقد بدا مثل حشْد كائنات من زمن اخر خارج زمننا .من الفضاء ربّما !!..إذ ذاك وبعد كلّ تلك السنوات فهمتُ المقصود بمصطلح "فضائيّون" الذي غدا نظاما حيويا عابرا للأزمنة فيما ونحن نتهالكُ من أجل كِسرةٍ سرّيةٍ نقعُ عليها كي نتقيّأَ ماابتلعناهُ من
أحجار فخَرَتْها بإتقان آلاتٌ تعمل ليلَ نهار في أزقّةٍ وتوبوغرافياتٍ تمشّطُها الكراديس وتدجّجُها الأعتدة حيث رياح تدوّم فيندثرُ مايندثرُ تحت ركام ماتشيل وماتحطّ .حتى الشمس خيّل لنا انها اندثرتْ وأنّنا لن نجدها ثانية حين غطستْ مرّةً في غبار عجيب استمرّ أوقاتا طويلة..ترى من تجرّأ وغطّى عينَ الشمس !! .بل ولعلّها حارقة من أجل أن تؤدّي ماأُنيطَ بها من قطوعاتِ زمانٍ ومكانٍ لا ماء فيهما.فقط غبار مثل جُرمٍ قيد التكوين أُنزِلَ على أرضهِ قفصٌ حديديّ كالذي تُعرضُ فيهِ الحيوانات المفترسة ،تمّ إعدادُهُ لإيواء فمٍ كهربائيّ ، كانت جدّتي تترك جذور الجزر تستطيل بالقرب منه وتغرسُ من حوله درنات البطاطا وهي تضحكُ متمتمةً وسيجارتُها تصعدُ وتهبطُ من بين شفتيْها: -كي لايشعر بالوحدة!
فتنزلقُ ضحكاتُنا.. تتسرّب وتتلاشى في الطين .. ينتفخ الطين بها .. يغصُّ و يسعلُ ، وماأن يصبح صوتُ سُعالهِ المخنوقُ مسموعا حتى يبدأ الفمُ بالإبتسام و تضيء المصابيحُ فنبصرُ ونكفُّ عن الإرتطام ببعضنا في العتمة فلا تبلغُ مسامعَنا كلمةُ عمى ولا يعميك!!..ومنتهى سعاداتِنا عندما تدور المراوح والمبرّدات فتخفّف من غلواء الصيف .
- قبل عقودٍ ثلاثٍ ونيّف .. يتذكّر سكّان تلك الأيام أوّلَ ليلتين تاريخيّتين هنا. ليلتان الواحدة منهما بمائة عام اهتزّ فيها كلب واهتزّ خنزير في المرآة .كان توحُّشا موسيقيّا وشبَقا بشريّا ويومان غريبان طُمِسا بطرقٍ مختلفةٍ في غابة..ثم جرى البحثُ عنهما لكن دون طائل .فقط ، خرَجَتْ وقتذاك من الغابة ظلالُ أطفال رضّعٍ لايبكون . يُحكى انّ أفعى( الأنوكاندا) ابتلعتْ اليومين التائهين وحفظتهما في بطنها كي لايصيبهما ماأصاب سائرَ الايّام من هدر ، هذه الأفعى تمشي على الماء وتهوي مع الشلاّلات . في النهار هي أفعى وحين يجنّ الليل تصير شابّا وسيما يرتادُ الحانات ليشرب ويظلّ يشرب حتى يسكر ثم يغوي أجمل فتاة ويبتلعها!..
هنا.. خامرني سؤال عن الأفعى التي التهمتْ تلك العشبة العجيبة على ضفافنا لكني أرجأتُهُ وخيّطتُ فمي فمن غير المناسب بمكان انّ شعب (الشاكو ماكو ) لايقدر !!..كما انّ أفعى تافهة مثل (الأنوكاندا) لايمكن ان تكون هي نفسها تلك التي غافلت مليكنا المعظّم وأكلت عشبتهُ وهو الذي أوْكلَ امور البلاد مرغما لحاشيتهِ فعاثَتْ فسادا فيما كان منصرفا لقضيتنا الكبرى في البحث عن الأبد !..من يدري..ربما كان سيبقى فنبقى رائحين غادين أمام ناظريهِ الى مالانهاية ومن يدري أيضا ربّما كان سينضمّ الينا بعد قرابة ألف وخمسمائة عام المسكين سيزيف بدلا من صعودهِ ونزولهِ على الجبل حاملا صخرة ضَجرهِ وحدَهُ. هكذا مضغتُ السؤال وأجوبتَهُ في رأسي وجعلتُ أظهرُ الإعجاب لغريس تأدُّبا وأنا آخذ دوري:
-أنزلقُ في أعماقي كما في إفريزٍ عميق رطب وأتعثّرُ في قاعهِا بكومة أحجار جعلتْ تنقعُ بما يسيلُ منّي ولستُ متأكدة ما إذا كان الذي يسيل دمي أم هو جسدي كلّهُ ، صار المزيجُ لزجا وأنا أخوضُ فيه بمشقّة ..هل كنت حقّا أخوض فيه أم فيّ !! ..فيما تبتعد ذاكرة قدميَّ وتتفلّتُ في العُمْق حدّا لم أعد معه اقوى على التنفّس فصرختُ بوهن: غريس !!،لكنها كانت قد افلتَتْ الحبل وتسلّلتْ الى الساحة لتنخرط في حشد هائج يتدرّبُ على السامبا ،كنتُ أسمعها تصرخ وبجنون (شاكو ماكو) وكلما ناديتُها اشتدّ الرقص وضربتْ على الأرض بقدميها بقوّة وهي تتنقّلُ ببراعة بين ارتعادات الخصور والبطون والأرداف..وإذ لم يعد صوتي مسموعا بدا داخلي فسيحا جدا وله ضفاف بل و ساحة أخرى راحت تسضيف ما جعل يتوافدُ من الحشود الراقصة، وصورة تلك الساحة آخذة في الاستقرار في مايتذكّرُهُ صوتي وما يستعيدُهُ بموازاة إحساساتي بالجوع و بالعطش ، فأبدو مستقرّةً في أنحائي ، وأكفُّ عن مناداة غريس ..لم يعد مهمّا ان تسأل او لاتسأل ..تقدر أولا تقدر..فما خِفْتُ يوما من أن أكون وحدي..ولاأظنّها تخاف ..هي بكامل لا هي ..أنا بكامل لا أنا ..هكذا لن يعثر علينا أحد .أحدٌ لن يسطو علينا! .
اتّسعتْ دائرةُ الارتعاداتِ الراقصة واحتدمتْ.. صارت تنفضُ صفحةَ الماء من تحتي .. صفحاتِ كتابي و كلّ صفحةٍ تطشّ محتوياتِها فتتفتّقُ وتتساقطُ مغطّيةً بنثارها وذرارها كلّ شيء..حزرتُ النثار والذرار الداكنين المشبّعين برائحة اللبن الخاثر المحفوظ في قِرَبٍ من الجلد مدروزةٍ بالخوص اكتنزها أبناءُ جلدتي الى يوم يرجعون من التيه.. هم ذهبوا في انفجار قديم وسيعودون ..لن يتأخّروا ..لكنهم تأخّروا.. فجاء البشر . صار هؤلاء يسمعون أصواتا في الحجر ويرون أشباحا تتعالق بالأشجار . قاعُ النهر كعادتهِ كلّ عام.. بين عام ٍ وعام.. يلفظ مخلوقاتهِ فتُحلّقُ في الهواء ثم تعود أدراجها مرجرجةً المكان وشعاع الشمس فينحرفان وتنجرف القفّةُ صوب حافاتٍ مكسورةٍ من ما لا نهايةٍ مكتشفةٍ حديثا .على كِسرةٍ منها امتدّ ظِلّ طفلةٍ تصرخ ..صرتُ أقترب منها حثيثا.. ثم و بغتةً عثرتُ عليّ منحنيةً من فوقها أحاول تهدأتها مرّة اصطادُ لها سمكة ..أخرى أطلقُ طائرةً ورقيةً ثم أبعثُ قدميّ لتركضا من ورائها في (هناك) زرقاء نائية.. حتّى أدركتُ أنّي لم أعد معي.. عندذاك أفلتُّ الحبل وذهبتْ الطائرة الورقيةُ.. حلّقتْ عاليا بعيدا بعيدا فيما تواصَلَ صراخُ الطفلة حتى أفقتُ ..كانت غريس تهزّ الحبل بقوّة والى جانبها تقفُ ابنتي تخبرني كعادتها عن أصواتٍ تسمعها:
-بعض الأصوات يصير كلمة. في منطقة من الكلمة سمعتُ صوتكِ ..هل ناديتنِي ياماما!!
فأمسكتُ بيدها وأنا أهمُّ بالمغادرة وإيّاها
-بلى حبيبتي ناديتُكِ.
والتفتُّ ..
كان المقهى قد خلا تماما الا من ذي التسع عشرة ضفيرة وغريس وقد ألفيا قبالة بعضهما في مواجهة منذرة .


نضال القاضي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى