في صباح نصف بارد ونصف حار كعادة المناخات الاستوائية، صباح تغرد فيه العصافير نصف تغريدات، حثثت خطاي نحو مباني المركز الاجتماعي في صانغوليا والتي هي نصف قرية ونصف غابة، ككل شيء هنا؛ فالسكان نصف متمدينين ونصف قرويين، فقراء إلى حد ما. أخذت خطاب تعييني مديرا للمركز ودسسته في جيب الجاكيت ثم حثثت خطاي -كما أسلفت- نحو مبنى المركز الاجتماعي. فوجدته نصف قصير، ونصف قديم، مبنى مربع له بهو نصف واسع، ويمتد متعمقاً وسط جانبيه اللذين توزعت حولها أصائص الزهور نصف المتفتحة.
وأنا أدلف من البهو مباشرة، وجدت امرأة كهلة تبدو نصف بدينة وهي تحرك مكنسة خشبية بيد واهنة وحركات بطيئة. وهي لم تحاول أن تعرف من أنا، لقد ظلت تكنس الأرض حتى وأنا أسألها عن مكتب المدير فقالت بصوت خفيض متعب:
- لا يوجد مدير
قلت:
- انا المدير الجديد للمركز الاجتماعي في صانغوليا.
توقفت أخيراً عن الكنس وأشارت بأصابعها نحو مكتب في آخر الممر.
سألتها عن عدد العمال، فاكتفت بالقول:
- لا أحد غيري.
توجهت مباشرة إلى المكتب، وهو نصف مؤثث. كانت هناك طاولة مكتب وخلفها المقعد المنزلق، وعلى اليسار هناك دولاب زجاجي يرتفع لمترين داخله كتابان وكأس كرة قدم نحاسي مكتوب تحته "فريق صانغوليا- كأس الرابطة الوطنية- ١٩٧٦".
أدراج المكتب كانت خالية ومتربة فأطللت برأسي من الباب ولكنني لم أجد المرأة. تحركت داخل الممر وفتحت المكاتب واحداً بعد الآخر، لأفاجأ بالمرأة ومعها رجل في وضع مخجل جداً. توقفا ونظرا نحوي بأعين متعبة وأجفان مهدلة، أغلقت الباب ببطء، وبدأت في البحث داخل مباني المركز. كان الحمام نصف متسخ، وهناك نصف مطبخ ملقى في الباحة الخلفية مع مساحة متر مربع محشوة بالأعشاب المشعثة وفي منتصفها نصف زهرة بين الموت والحياة.
كانت أسقف بعض المكاتب قد تهاوى خشبها، وخاطت فيها العناكب مصايدها. وهناك بضع بُقع حمراء على الأرض أشبه بدم جاف. وهناك مخزن تكدست فيه بقايا حطام أثاث وكمبيوتر قديم وأوراق مبعثرة تحت تراب الأرض. ولاحظت بعد كل هذا أنه لا يوجد هاتف أرضي في مكتبي بل ولا يوجد عمود لموصلات الهاتف. فأُسقط في يدي.
"الجو حار" ونظرت إلى الحيطان فلم أجد إلا كوة خالية لجهاز تكييف ربما كان فيها ونزع أو لم يركب عليها أساساً.
اما لافتة المركز فقط سقطت منحرفة من جانبها الأيمن بزاوية خمس وأربعين درجة.
"المركز الإجتماعي في صانغوليا"
لم أكن أعرف ما دوره قبل أن أراه، وزاد جهلي بذلك بعد أن رأيته.
وعلى كل حال فإنه لم يكن بإمكاني الاعتراض على قرارات الجنرال، وخاصة أنني مجرد موظف من الطبقة الوسطى. إنها فرصة مناسبة لكي أشرع في كتابة مؤلفي عن انتروبيا العدالة.
وكان صديقي السيد جابو يسألني دوماً وهو يموت من الضحك:
"بالله عليك ما عنوان كتابك؟"
وتدمع عيناه ويضرط حين أجيبه:
- انتروبيا العدالة.
لم اكن أفهم حينها لماذا يضحك، وكان ذلك يستفز حواسي الدفاعية، فأقول بصوت مضطرب:
- أنت لا تفهم.. إنها أعظم دراسة عن مخططات القانون التاريخية .. تلك العشوائية التي تنزع للاستقرار في قوالب عالمية موحدة.
لكنه يزداد ضحكاً.
وحين يغادر يقول وهو يكتم دموع ضحكه:
- إنك رجل طيب يا صديقي.
فأتذكر تاريخ القانون الصيني الذي بدأ بقيم أخلاقية وانتهى بقيم أخلاقية ترعى مصالح الأباطرة وتفضي إلى إبادة أسر كاملة بجريرة شخص واحد. وكونفيشوس الذي سخر كل قواعد الأخلاق لخدمة الأباطرة وغلفها بقليل من الأكاذيب تجاه الفقراء.
ثم أسأل نفسي: ترى ما هي أهداف هذا المركز. يبدو أنه من بقايا حقبة الجنرال السابق الذي دافع عن الفقراء فشنقوه.
هناك موت كبير في هذا البلد الملقى في جحيم خط الاستواء.
وسألت المرأة التي خرجت من المكتب بعد الرجل، وكانت تلملم أسمالها حول جسدها البدين:
- أين مكتب البريد والبرق.. أريد إرسال رسالة..
أجابت بفم مضموم:
- هناك تلغراف في بيت الناظر.
وهكذا تتبعت وصفها إلى بيت الناظر فشققت طرقاً حجرية تحيطها أعشاب صفراء محترقة. وكان منزله هناك، تحت بقايا جبل صغير، مبنياً من الأحجار الصخرية المتراصة بغير ترتيب ولا نظام. فاستقبلتي عنزة وبضع دجاجات ترقص وتبقبق هنا وهناك. ورأيت العمدة فعرفته، إذ كان عاري الصدر ويغطي عورته بلباس صغير متسخ.
- تريد أن ترسل برقية؟
قال بصوت رفيع وأجش في نفس الوقت..
- نعم
- لقد نسيت الشفرة.. نسيت كل شيء.. هل تعرف شفرة موريس؟
- لا..
عاد من داخل كوخه وهو يحمل صندوقا صغيراً تبرز منه مطرقة خشبية:
- إنه آخر تحديث للتغراف منذ عام ١٩٦٦ .. تصور.. إنه بغير أسلاك..
يقول ذلك ثم يقهقه بقلق.
أرسل رسالة قصيرة جداً أطلب فيها إدخال الكهرباء والاتصالات والانترنت إلى المركز..
وبعد يومين تم القبض علي واعادتي إلى العاصمة.
لقد قال الجنرال بأنني يجب ان لا أعوِّد هؤلاء على أشياء لا يعرفونها وأنهم إذا اعتادوا عليها وفقدوها فسيثورون ضد الحكومة..
قلت لهم بأن هذا تفكير الرأسماليين الذين يقولون بأنك إذا وجدت سكراناً نائماً في بالوعة فلا تحاول ايقاظه لأن هذا مكانه المناسب.. ثم أنني لم أطلب منكم شيئاً خطيراً.. إن المركز مدمر تماماً بسبب البرجوازية السابقة..
لقد أراحتهم تلك الكلمات الأخيرة ولمعت عين الجنرال الذي أوصى بإدخال الكهرباء والاتصالات جزئياً إلى مكتبي في المركز الاجتماعي في صانغوليا وهذا ما لم يحدث. فطلبت ميزانية أكبر وتحديد اختصاصات، غير أن الجنرال قال:
- أنت من تحدد الاختصاصات يا رفيق زوما.
فدق الأمر عليَّ إلى حين.
من المفترض أن تنشأ قصة حب بيني وبين إحدى فتيات صانغوليا، غير أن القرية كانت مكتفية بذاتها. لم يكن أهلها يرغبون في تحقيق إضافات ترفية لحياتهم. يرى الناظر أنه الحياة في صانفوليا هي معادلة، وتغيير كسر رقمي صغير يمكن أن يغير النتيجة الراهنة والتي اعتاد عليها شعب صانغوليا أو "أرض الشمس". كما أنه لا توجد أي احتفال بالزواج، بل يختار الذكر والأنثى العيش مع بعضهما كما يحلو لهما وقد يسميان ذلك زواجاً، ويتركان بعضهما في أي لحظة. أما الأطفال فيتعهد بتربيتهم أحد الطرفين أو كلاهما أو يتركوا لرعاية جماعية، حيث تصبح كل النساء أمهات للطفل، وكل الرجال آباء له.
- لا شيء يتم بغير نقاش عقلاني يا سيدي.
ومن أعلى منطقة هبطت إلى سوق أرض الشمس، السوق الشعبي، وهو عبارة عن عرائش من الحصير، تظلل البضائع الجميلة.
- إنها تأتي كلها من تاتسو.
- المدينة المجاورة؟
- نعم ولكنها ليست مجاورة.. إنها بعيدة قليلاً. كان البيع والشراء وكل شيء يتم بصمت. وكانت المرأة المنظفة التي تعمل في المركز، تجلس إلى جانب رجلها، تحت عريشة وهما يتسامران وأمامهما بعض أكوام الخضار. لقد لمحتني ولمحتها ولكننا لم نشأ الحديث إلى بعضنا ولا حتى إلقاء التحية.
أما وجوه البشر فكانت سمراء وأغلبهم لا يغطي صدره بشيء، وذلك على مستوى الرجال والنساء والأطفال. رؤوسهم مدورة ورقابهم طويلة ونحيلة.
ولا يوجد معبد واحد في أرض صانغوليا.
- أقسم لك أنه لا يوجد معبد واحد في صانغوليا.
وقد حاول الناظر كتابة تلك الجملة بالنقر على التلغراف عدة مرات حتى نجح في ذلك.
- وجودك سيدمر سلام قريتنا يا سيد زوما.. أنت خطِر جداً.
- ألا توجد حانة هنا؟
وأشار بسبابته خلف كوخ أبيض:
- رجل يوناني عجوز يصنع هذا الشيطان..
وكان اليوناني قد جاء مع حملة تطعيم من شلل الأطفال لكنه قرر البقاء هنا وأنشأ مصنعاً للنبيذ والخمر البلدي. وقد عاشت معه امرأة من أهل صانغوليا ولم تنجب منه حتى ماتت. ويبدو أن فتاة لم تكمل العشرين ظلت تحوم حول معمله وحانته الحجرية منذ بضعة أشهر.. وفي النهاية حبلت منه طفلاً معاقاً. فلزمه الحزن وهربت هي وتركته مع طفله.
كانت الحانة عبارة عن غرفة من الحجر المغطى بالجير الأبيض ومسقوفة بسعف النخل. وقد توزعت عليها طاولات صغيرة ومقاعد وأرفف الزجاجات خلف طاولة تقديم طويلة. أما المعمل فيقع خلف الغرفة مباشرة ويتصل بها عبر باب صغير، وهو مفتوح من الخلف بباب كبير يطل على باحة واسعة مزروعة بالجزر والعنب.
- أنا نصف يوناني.. والدي فلسطيني ترعرع في اليونان وتزوج والدتي اليونانية.. كانت اليونان غنية في ذلك الوقت قبل أن يخونها الأوروبيون في الأزمة الاقتصادية الأخيرة..
كان يحكي للناظر ويتجاهلني عن قصد. فبادر الناظر وأخبره أنني مدير المركز الاجتماعي في صانغوليا.. ولما بدت على الرجل الحيرة أضاف الناظر:
- إنه المبنى الذي يقع خلف حظيرة الدجاج القديمة للسيدة واليت.
مج العجوز شفتيه ولم ينبس ببنت شفه. فقال الناظر وهو يجرع من كوب الجعة:
- وماذا يفعل هذا المركز للمواطنين..
شعرت بأنه وضعني أمام اختبار صعب فقررت أن أمنحه إجابات غامضة:
- إننا سنجري دراسات سوسيولوجية وأنثربولوجية لسكان صانغوليا..
عم الصمت، وأدركت بأنه ينتظر إكمال إجابتي:
- أنت تعلم أنه لا يمكن تطوير اي منطقة دون دراسات احصائية وموضوعية لمعرفة مشاكل المجتمعات الصغيرة والكبيرة.. ولكن الصغيرة على وجه التحديد أكثر أهمية.. فمثلاً إذا كانت هناك منطقة تعاني من كثافة في الجريمة..
قاطعني الناظر بصرامة:
- لا توجد جريمة عندنا..
قلت:
- هذا جيد ولكن لا بد لنا أن نجمع كل الداتا فإذا كانت الجريمة منعدمة فهذه قد تكون مشكلة أكبر من وجودها لأن هذا قد يعني أن المجتمع فقير جداً..
فقاطعني مرة أخرى وعيناه تلمعان:
- نحن فقراء فعلاً..
- أقصد متساوون في الفقر والمعاناة إلى درجة لا تدفع بأي فرد إلى اقتراف جريمة ضد ملكية الآخر لأنه لا توجد ملكية.. وقد تكون الجريمة فعلاً احتجاجياَ ضد ظلم المجتمع. لكننا لا ندرس الجريمة فقط، بل ندرس كل شيء، مثل الطبيعة الاقتصادية للمجتمع، هل هو زراعي أم رعوي أم تجاري، لندعم ذلك الاقتصاد بشكل ذكي، ذلك لأنك تعلم بأن منظمة التجارة العالمية حظرت دعم الحكومات للقطاع الخاص. كذلك نحن ندرس الألفة المجتمعية، ومدى التماسك الاجتماعي، والوحدة أو التفكك الثقافي.. وغير ذلك، ثم مشرع في وضع خطة لتطوير المنطقة من كافة النواحي..
قاطعني مرة أخيرة ولكن عبر إمساك ذراعي وإدارة جسدي نحو الجالسين صائحاً:
- يا أصدقاء.. اسمعوا ماذا يقول هذا الرجل..
ثم نظر إليَّ وقال:
- أعد ما قلته لي ولكن بصوت عالٍ..
أعدت ما قلته وأضفت إليه الكثير، وكنت أضيف أفكاراً جديدة كلما دخل زبائن أكثر إلى الحانة، وأدركت حينها بأنهم ليسوا زبائن بل كانت تتم دعوتهم بشكل خفي لينضموا إلى المستمعين.. دخل رجال ونساء وأطفال.. شباب وكهول وعجائز.. سليمين ومعاقين.. نظيفين ومتسخين.. وأصبحت الحانة خانقة جداً.. فزحفت الجماهير إلى الشارع وتبتعهم وأنا لا زلت أتحدث.
كنت اكذب وأكذب وأكذب.. وشعرت بالخوف فجأة لأن الكذب قد يتحول إلى حقيقة مع أحلام هذه الجماهير التي تبرق أعينها تحت الشمس في أرض الشمس. كان ذلك محزنا فتوقفت عن الكلام وأجهشت بالبكاء. ثم غادرت إلى المركز الاجتماعي.
"ما هو العالم.. ومن هم البشر؟
إنها أحاسيس غامضة ومترابطة"
وارتشفت من كوب الشاي الذي جاءت به سندريلا.. المرأة الكهلة التي تنظف المركز.. نعم اسمها ساندريلا.. ولا أشك أن أميرها ذلك الرجل لكن حذاءها مرقع وقديم ولا يصلح لجذب انتباه حشرة.
- ساندي.. أريد أن أنظف هذا المبنى وأعيد إصلاحه.. أرجو أن تبحثي لي عن عمال..
قالت بسرعة:
- زوجي جاهز..
- ذلك الذي كان معكِ بالغرفة؟
- لا ذلك سامو الرجل المحسن الطيب.. زوجي عاطل بلا عمل..
- حسنٌ.. فليجمع ما يستطيع من عمال ليبدأوا العمل..
ولكنني فوجئت صباح اليوم التالي بأن كل أهل صانغوليا قد جاءوا للعمل..
لقد كانوا يكبتون آلامهم.. واليوم بدأوا يحلمون..
وتذكرت كتابي "أنتروبيا العدالة".
كان ذلك أكبر من كل شيء فكرت فيه من قبل.. كان حيوياً أكثر مما يمكن لقلبي تحمله.. فهم يعملون بذات صمتهم الذي وجدتهم عليه.. ولكنه صمت يغني.
..
لا فرق في مناخ صانغوليا الاستوائي أن تكون في يناير أو ديسمبر إذ أن الرهو لا يفارقها أبداَ، وفي الصباح الباكر يعم الضباب الأرض ثم لا يلبث أن يتبدد وتتكثف السحب الركامية ثم تهطل في مواعيد منتظمة. كان عليَّ أن استغل الفارق الزمني بين الضباب والمطر مبتعداً عن خط الاستواء نحو العاصمة السوداء كي ألتقي بالجنرال.
أمضيت أسبوعا في غرفة بفندق غاردير سنوب دون أن أتمكن من لقائه نسبة لانشغاله مع وفود الرئيس.
وأخيراً تلقيت اتصالاً من مدير مكتبه يحدد لي فيه موعداً للقاء.
وكان لقاءً قصيراً رفعت فيه تقريري عن المركز لكنه بدا غير مكترث به. ومط شفته السفلى بأصبعين من يده وقال.
- الوضع لا يحتِمل.. هل تدرك ذلك؟
ولما امتقع وجهي همس بحذر:
- ليس عليَّ أن أخبرك يا زوما.. لكن من الأفضل لك أن تفر بأسرع وقت خارج البلاد..
حشا غليونه بالتوباكو وقال:
- لقد تكالبت دول العالم كلها ضد ماساسا..
- الرئيس؟
- مؤقتاً.. لأنه لن تكون هناك دولة بعد اليوم.. والآن عليك أن تحرق كل المستندات في حوزتك عن أي شيء حتى هذا التقرير..
وألقى لي به بأطراف أصابعه
- احرق كل شيء.. إنني أحب وفاءك للثورة.. لكن.. كل شيء انتهى..
صحت:
- ولكن أهل صانغوليا ينتظرونني..
غير أنه غادر مكتبه إلى مهبط طائرته الخاصة دون أن يجيبني.
...
كان مناخ خط الاستواء دائماً مستقراً حتى أمطاره تهطل في مواعيد ثابتة. وكانت صانغوليا صامتة كعادتها. غاباتها كالأصنام المنحوتة في الظلام. وأكواخها تتوزع مبعثرة ومتباعدة، ومظلمة إلا من أضواء خافتة لشموع محتضرة، والليل يتذرع بالنوم القلق ليمضي ببطء.
تلمست يداها حوائط مبنى المركز المظلمة لتعرف طريقها في الممر، وعبرت إلى الباحة التي تتوسطها الأعشاب، ثم بدأت في الحفر والنجوم فوق رأسها.. ثم همست للرجل:
- يجب أن ننقلهم قبل البدء في عمليات الترميم.
كان شبح الرجل واقفاً خلفها فقالت بعصبية:
- لماذا تقف ساكناً هيا تحرك وساعدني.
وبسرعة شمر عن ساعديه وبدأ في الحفر بأصابعه.
وعندما برزت رؤوس الجثث كان التعب قد نال منهما والفجر أوشك على الانبلاج. فغادرا بصمت.
في صباح اليوم التالي تم اكتشاف الجثث العشرة. وجاء الناظر وقد تبعه باقي الأهالي ليتعرفوا عليها، غير أنهم فشلوا في ذلك.
قالت المرأة:
- فلنصهرهم بالفرن..
قلت:
- لا يوجد قانون هنا ولا رجال إنفاذ للقانون.. غير أن الواجب الأخلاقي يحتم علينا أن نحتفظ بالجثث حتى يتم التعرف عليها في المستقبل.. لذلك ضعوها داخل صناديق مملوءة بالزفت وادفنوهم في أعماق البحيرة الصغرى.
ثم لما فرغنا من كل ذلك اجتمعت بالرجال في الحانة وأخبرتهم أن المهمة قد باءت بالفشل، ذلك أن هناك حرباً توشك على النشوب بين القوى العسكرية وأن شعب صانغوليا يجب أن يستفيق ويعرف حقوقه ليدافع عنها وأن هذه الحرب هبة إلهية حتى تعطي شعب صانغوليا فرصة النهوض من نعشه الإستوائي.
وهكذا امتلأت الحانة بالحشود مرة أخرى.
إن العدالة لا تستقر بل لا بد لها من أن تتبدد في الفوضى أولاً.
وكان الناظر ينظر لي بملامح باردة.
- أنتم موتى يا شعب صانغوليا.. كنتم موتى ويجب أن تحيوا من جديد.. ليست حياة الاستقرار إلا خيار الجبناء.. ليس الفرار إلا البقاء في مكان واحد اما الخروج فليس بفرار بل اقتحام للمجهول وللخطر وخلف المجهول والخطر هناك الأمل.. وما هو الأمل هو الشراهة في الحب.
صفق الحشد، والتهبت قلوب الرجال بالعزيمة. وهكذا بدأت في وضع خطط الحصول على السلاح. وسار كل شيء على ما يرام، خاصة بعد أن نشبت الحرب هناك خارج صانغوليا.
(تتبع)
وأنا أدلف من البهو مباشرة، وجدت امرأة كهلة تبدو نصف بدينة وهي تحرك مكنسة خشبية بيد واهنة وحركات بطيئة. وهي لم تحاول أن تعرف من أنا، لقد ظلت تكنس الأرض حتى وأنا أسألها عن مكتب المدير فقالت بصوت خفيض متعب:
- لا يوجد مدير
قلت:
- انا المدير الجديد للمركز الاجتماعي في صانغوليا.
توقفت أخيراً عن الكنس وأشارت بأصابعها نحو مكتب في آخر الممر.
سألتها عن عدد العمال، فاكتفت بالقول:
- لا أحد غيري.
توجهت مباشرة إلى المكتب، وهو نصف مؤثث. كانت هناك طاولة مكتب وخلفها المقعد المنزلق، وعلى اليسار هناك دولاب زجاجي يرتفع لمترين داخله كتابان وكأس كرة قدم نحاسي مكتوب تحته "فريق صانغوليا- كأس الرابطة الوطنية- ١٩٧٦".
أدراج المكتب كانت خالية ومتربة فأطللت برأسي من الباب ولكنني لم أجد المرأة. تحركت داخل الممر وفتحت المكاتب واحداً بعد الآخر، لأفاجأ بالمرأة ومعها رجل في وضع مخجل جداً. توقفا ونظرا نحوي بأعين متعبة وأجفان مهدلة، أغلقت الباب ببطء، وبدأت في البحث داخل مباني المركز. كان الحمام نصف متسخ، وهناك نصف مطبخ ملقى في الباحة الخلفية مع مساحة متر مربع محشوة بالأعشاب المشعثة وفي منتصفها نصف زهرة بين الموت والحياة.
كانت أسقف بعض المكاتب قد تهاوى خشبها، وخاطت فيها العناكب مصايدها. وهناك بضع بُقع حمراء على الأرض أشبه بدم جاف. وهناك مخزن تكدست فيه بقايا حطام أثاث وكمبيوتر قديم وأوراق مبعثرة تحت تراب الأرض. ولاحظت بعد كل هذا أنه لا يوجد هاتف أرضي في مكتبي بل ولا يوجد عمود لموصلات الهاتف. فأُسقط في يدي.
"الجو حار" ونظرت إلى الحيطان فلم أجد إلا كوة خالية لجهاز تكييف ربما كان فيها ونزع أو لم يركب عليها أساساً.
اما لافتة المركز فقط سقطت منحرفة من جانبها الأيمن بزاوية خمس وأربعين درجة.
"المركز الإجتماعي في صانغوليا"
لم أكن أعرف ما دوره قبل أن أراه، وزاد جهلي بذلك بعد أن رأيته.
وعلى كل حال فإنه لم يكن بإمكاني الاعتراض على قرارات الجنرال، وخاصة أنني مجرد موظف من الطبقة الوسطى. إنها فرصة مناسبة لكي أشرع في كتابة مؤلفي عن انتروبيا العدالة.
وكان صديقي السيد جابو يسألني دوماً وهو يموت من الضحك:
"بالله عليك ما عنوان كتابك؟"
وتدمع عيناه ويضرط حين أجيبه:
- انتروبيا العدالة.
لم اكن أفهم حينها لماذا يضحك، وكان ذلك يستفز حواسي الدفاعية، فأقول بصوت مضطرب:
- أنت لا تفهم.. إنها أعظم دراسة عن مخططات القانون التاريخية .. تلك العشوائية التي تنزع للاستقرار في قوالب عالمية موحدة.
لكنه يزداد ضحكاً.
وحين يغادر يقول وهو يكتم دموع ضحكه:
- إنك رجل طيب يا صديقي.
فأتذكر تاريخ القانون الصيني الذي بدأ بقيم أخلاقية وانتهى بقيم أخلاقية ترعى مصالح الأباطرة وتفضي إلى إبادة أسر كاملة بجريرة شخص واحد. وكونفيشوس الذي سخر كل قواعد الأخلاق لخدمة الأباطرة وغلفها بقليل من الأكاذيب تجاه الفقراء.
ثم أسأل نفسي: ترى ما هي أهداف هذا المركز. يبدو أنه من بقايا حقبة الجنرال السابق الذي دافع عن الفقراء فشنقوه.
هناك موت كبير في هذا البلد الملقى في جحيم خط الاستواء.
وسألت المرأة التي خرجت من المكتب بعد الرجل، وكانت تلملم أسمالها حول جسدها البدين:
- أين مكتب البريد والبرق.. أريد إرسال رسالة..
أجابت بفم مضموم:
- هناك تلغراف في بيت الناظر.
وهكذا تتبعت وصفها إلى بيت الناظر فشققت طرقاً حجرية تحيطها أعشاب صفراء محترقة. وكان منزله هناك، تحت بقايا جبل صغير، مبنياً من الأحجار الصخرية المتراصة بغير ترتيب ولا نظام. فاستقبلتي عنزة وبضع دجاجات ترقص وتبقبق هنا وهناك. ورأيت العمدة فعرفته، إذ كان عاري الصدر ويغطي عورته بلباس صغير متسخ.
- تريد أن ترسل برقية؟
قال بصوت رفيع وأجش في نفس الوقت..
- نعم
- لقد نسيت الشفرة.. نسيت كل شيء.. هل تعرف شفرة موريس؟
- لا..
عاد من داخل كوخه وهو يحمل صندوقا صغيراً تبرز منه مطرقة خشبية:
- إنه آخر تحديث للتغراف منذ عام ١٩٦٦ .. تصور.. إنه بغير أسلاك..
يقول ذلك ثم يقهقه بقلق.
أرسل رسالة قصيرة جداً أطلب فيها إدخال الكهرباء والاتصالات والانترنت إلى المركز..
وبعد يومين تم القبض علي واعادتي إلى العاصمة.
لقد قال الجنرال بأنني يجب ان لا أعوِّد هؤلاء على أشياء لا يعرفونها وأنهم إذا اعتادوا عليها وفقدوها فسيثورون ضد الحكومة..
قلت لهم بأن هذا تفكير الرأسماليين الذين يقولون بأنك إذا وجدت سكراناً نائماً في بالوعة فلا تحاول ايقاظه لأن هذا مكانه المناسب.. ثم أنني لم أطلب منكم شيئاً خطيراً.. إن المركز مدمر تماماً بسبب البرجوازية السابقة..
لقد أراحتهم تلك الكلمات الأخيرة ولمعت عين الجنرال الذي أوصى بإدخال الكهرباء والاتصالات جزئياً إلى مكتبي في المركز الاجتماعي في صانغوليا وهذا ما لم يحدث. فطلبت ميزانية أكبر وتحديد اختصاصات، غير أن الجنرال قال:
- أنت من تحدد الاختصاصات يا رفيق زوما.
فدق الأمر عليَّ إلى حين.
من المفترض أن تنشأ قصة حب بيني وبين إحدى فتيات صانغوليا، غير أن القرية كانت مكتفية بذاتها. لم يكن أهلها يرغبون في تحقيق إضافات ترفية لحياتهم. يرى الناظر أنه الحياة في صانفوليا هي معادلة، وتغيير كسر رقمي صغير يمكن أن يغير النتيجة الراهنة والتي اعتاد عليها شعب صانغوليا أو "أرض الشمس". كما أنه لا توجد أي احتفال بالزواج، بل يختار الذكر والأنثى العيش مع بعضهما كما يحلو لهما وقد يسميان ذلك زواجاً، ويتركان بعضهما في أي لحظة. أما الأطفال فيتعهد بتربيتهم أحد الطرفين أو كلاهما أو يتركوا لرعاية جماعية، حيث تصبح كل النساء أمهات للطفل، وكل الرجال آباء له.
- لا شيء يتم بغير نقاش عقلاني يا سيدي.
ومن أعلى منطقة هبطت إلى سوق أرض الشمس، السوق الشعبي، وهو عبارة عن عرائش من الحصير، تظلل البضائع الجميلة.
- إنها تأتي كلها من تاتسو.
- المدينة المجاورة؟
- نعم ولكنها ليست مجاورة.. إنها بعيدة قليلاً. كان البيع والشراء وكل شيء يتم بصمت. وكانت المرأة المنظفة التي تعمل في المركز، تجلس إلى جانب رجلها، تحت عريشة وهما يتسامران وأمامهما بعض أكوام الخضار. لقد لمحتني ولمحتها ولكننا لم نشأ الحديث إلى بعضنا ولا حتى إلقاء التحية.
أما وجوه البشر فكانت سمراء وأغلبهم لا يغطي صدره بشيء، وذلك على مستوى الرجال والنساء والأطفال. رؤوسهم مدورة ورقابهم طويلة ونحيلة.
ولا يوجد معبد واحد في أرض صانغوليا.
- أقسم لك أنه لا يوجد معبد واحد في صانغوليا.
وقد حاول الناظر كتابة تلك الجملة بالنقر على التلغراف عدة مرات حتى نجح في ذلك.
- وجودك سيدمر سلام قريتنا يا سيد زوما.. أنت خطِر جداً.
- ألا توجد حانة هنا؟
وأشار بسبابته خلف كوخ أبيض:
- رجل يوناني عجوز يصنع هذا الشيطان..
وكان اليوناني قد جاء مع حملة تطعيم من شلل الأطفال لكنه قرر البقاء هنا وأنشأ مصنعاً للنبيذ والخمر البلدي. وقد عاشت معه امرأة من أهل صانغوليا ولم تنجب منه حتى ماتت. ويبدو أن فتاة لم تكمل العشرين ظلت تحوم حول معمله وحانته الحجرية منذ بضعة أشهر.. وفي النهاية حبلت منه طفلاً معاقاً. فلزمه الحزن وهربت هي وتركته مع طفله.
كانت الحانة عبارة عن غرفة من الحجر المغطى بالجير الأبيض ومسقوفة بسعف النخل. وقد توزعت عليها طاولات صغيرة ومقاعد وأرفف الزجاجات خلف طاولة تقديم طويلة. أما المعمل فيقع خلف الغرفة مباشرة ويتصل بها عبر باب صغير، وهو مفتوح من الخلف بباب كبير يطل على باحة واسعة مزروعة بالجزر والعنب.
- أنا نصف يوناني.. والدي فلسطيني ترعرع في اليونان وتزوج والدتي اليونانية.. كانت اليونان غنية في ذلك الوقت قبل أن يخونها الأوروبيون في الأزمة الاقتصادية الأخيرة..
كان يحكي للناظر ويتجاهلني عن قصد. فبادر الناظر وأخبره أنني مدير المركز الاجتماعي في صانغوليا.. ولما بدت على الرجل الحيرة أضاف الناظر:
- إنه المبنى الذي يقع خلف حظيرة الدجاج القديمة للسيدة واليت.
مج العجوز شفتيه ولم ينبس ببنت شفه. فقال الناظر وهو يجرع من كوب الجعة:
- وماذا يفعل هذا المركز للمواطنين..
شعرت بأنه وضعني أمام اختبار صعب فقررت أن أمنحه إجابات غامضة:
- إننا سنجري دراسات سوسيولوجية وأنثربولوجية لسكان صانغوليا..
عم الصمت، وأدركت بأنه ينتظر إكمال إجابتي:
- أنت تعلم أنه لا يمكن تطوير اي منطقة دون دراسات احصائية وموضوعية لمعرفة مشاكل المجتمعات الصغيرة والكبيرة.. ولكن الصغيرة على وجه التحديد أكثر أهمية.. فمثلاً إذا كانت هناك منطقة تعاني من كثافة في الجريمة..
قاطعني الناظر بصرامة:
- لا توجد جريمة عندنا..
قلت:
- هذا جيد ولكن لا بد لنا أن نجمع كل الداتا فإذا كانت الجريمة منعدمة فهذه قد تكون مشكلة أكبر من وجودها لأن هذا قد يعني أن المجتمع فقير جداً..
فقاطعني مرة أخرى وعيناه تلمعان:
- نحن فقراء فعلاً..
- أقصد متساوون في الفقر والمعاناة إلى درجة لا تدفع بأي فرد إلى اقتراف جريمة ضد ملكية الآخر لأنه لا توجد ملكية.. وقد تكون الجريمة فعلاً احتجاجياَ ضد ظلم المجتمع. لكننا لا ندرس الجريمة فقط، بل ندرس كل شيء، مثل الطبيعة الاقتصادية للمجتمع، هل هو زراعي أم رعوي أم تجاري، لندعم ذلك الاقتصاد بشكل ذكي، ذلك لأنك تعلم بأن منظمة التجارة العالمية حظرت دعم الحكومات للقطاع الخاص. كذلك نحن ندرس الألفة المجتمعية، ومدى التماسك الاجتماعي، والوحدة أو التفكك الثقافي.. وغير ذلك، ثم مشرع في وضع خطة لتطوير المنطقة من كافة النواحي..
قاطعني مرة أخيرة ولكن عبر إمساك ذراعي وإدارة جسدي نحو الجالسين صائحاً:
- يا أصدقاء.. اسمعوا ماذا يقول هذا الرجل..
ثم نظر إليَّ وقال:
- أعد ما قلته لي ولكن بصوت عالٍ..
أعدت ما قلته وأضفت إليه الكثير، وكنت أضيف أفكاراً جديدة كلما دخل زبائن أكثر إلى الحانة، وأدركت حينها بأنهم ليسوا زبائن بل كانت تتم دعوتهم بشكل خفي لينضموا إلى المستمعين.. دخل رجال ونساء وأطفال.. شباب وكهول وعجائز.. سليمين ومعاقين.. نظيفين ومتسخين.. وأصبحت الحانة خانقة جداً.. فزحفت الجماهير إلى الشارع وتبتعهم وأنا لا زلت أتحدث.
كنت اكذب وأكذب وأكذب.. وشعرت بالخوف فجأة لأن الكذب قد يتحول إلى حقيقة مع أحلام هذه الجماهير التي تبرق أعينها تحت الشمس في أرض الشمس. كان ذلك محزنا فتوقفت عن الكلام وأجهشت بالبكاء. ثم غادرت إلى المركز الاجتماعي.
"ما هو العالم.. ومن هم البشر؟
إنها أحاسيس غامضة ومترابطة"
وارتشفت من كوب الشاي الذي جاءت به سندريلا.. المرأة الكهلة التي تنظف المركز.. نعم اسمها ساندريلا.. ولا أشك أن أميرها ذلك الرجل لكن حذاءها مرقع وقديم ولا يصلح لجذب انتباه حشرة.
- ساندي.. أريد أن أنظف هذا المبنى وأعيد إصلاحه.. أرجو أن تبحثي لي عن عمال..
قالت بسرعة:
- زوجي جاهز..
- ذلك الذي كان معكِ بالغرفة؟
- لا ذلك سامو الرجل المحسن الطيب.. زوجي عاطل بلا عمل..
- حسنٌ.. فليجمع ما يستطيع من عمال ليبدأوا العمل..
ولكنني فوجئت صباح اليوم التالي بأن كل أهل صانغوليا قد جاءوا للعمل..
لقد كانوا يكبتون آلامهم.. واليوم بدأوا يحلمون..
وتذكرت كتابي "أنتروبيا العدالة".
كان ذلك أكبر من كل شيء فكرت فيه من قبل.. كان حيوياً أكثر مما يمكن لقلبي تحمله.. فهم يعملون بذات صمتهم الذي وجدتهم عليه.. ولكنه صمت يغني.
..
لا فرق في مناخ صانغوليا الاستوائي أن تكون في يناير أو ديسمبر إذ أن الرهو لا يفارقها أبداَ، وفي الصباح الباكر يعم الضباب الأرض ثم لا يلبث أن يتبدد وتتكثف السحب الركامية ثم تهطل في مواعيد منتظمة. كان عليَّ أن استغل الفارق الزمني بين الضباب والمطر مبتعداً عن خط الاستواء نحو العاصمة السوداء كي ألتقي بالجنرال.
أمضيت أسبوعا في غرفة بفندق غاردير سنوب دون أن أتمكن من لقائه نسبة لانشغاله مع وفود الرئيس.
وأخيراً تلقيت اتصالاً من مدير مكتبه يحدد لي فيه موعداً للقاء.
وكان لقاءً قصيراً رفعت فيه تقريري عن المركز لكنه بدا غير مكترث به. ومط شفته السفلى بأصبعين من يده وقال.
- الوضع لا يحتِمل.. هل تدرك ذلك؟
ولما امتقع وجهي همس بحذر:
- ليس عليَّ أن أخبرك يا زوما.. لكن من الأفضل لك أن تفر بأسرع وقت خارج البلاد..
حشا غليونه بالتوباكو وقال:
- لقد تكالبت دول العالم كلها ضد ماساسا..
- الرئيس؟
- مؤقتاً.. لأنه لن تكون هناك دولة بعد اليوم.. والآن عليك أن تحرق كل المستندات في حوزتك عن أي شيء حتى هذا التقرير..
وألقى لي به بأطراف أصابعه
- احرق كل شيء.. إنني أحب وفاءك للثورة.. لكن.. كل شيء انتهى..
صحت:
- ولكن أهل صانغوليا ينتظرونني..
غير أنه غادر مكتبه إلى مهبط طائرته الخاصة دون أن يجيبني.
...
كان مناخ خط الاستواء دائماً مستقراً حتى أمطاره تهطل في مواعيد ثابتة. وكانت صانغوليا صامتة كعادتها. غاباتها كالأصنام المنحوتة في الظلام. وأكواخها تتوزع مبعثرة ومتباعدة، ومظلمة إلا من أضواء خافتة لشموع محتضرة، والليل يتذرع بالنوم القلق ليمضي ببطء.
تلمست يداها حوائط مبنى المركز المظلمة لتعرف طريقها في الممر، وعبرت إلى الباحة التي تتوسطها الأعشاب، ثم بدأت في الحفر والنجوم فوق رأسها.. ثم همست للرجل:
- يجب أن ننقلهم قبل البدء في عمليات الترميم.
كان شبح الرجل واقفاً خلفها فقالت بعصبية:
- لماذا تقف ساكناً هيا تحرك وساعدني.
وبسرعة شمر عن ساعديه وبدأ في الحفر بأصابعه.
وعندما برزت رؤوس الجثث كان التعب قد نال منهما والفجر أوشك على الانبلاج. فغادرا بصمت.
في صباح اليوم التالي تم اكتشاف الجثث العشرة. وجاء الناظر وقد تبعه باقي الأهالي ليتعرفوا عليها، غير أنهم فشلوا في ذلك.
قالت المرأة:
- فلنصهرهم بالفرن..
قلت:
- لا يوجد قانون هنا ولا رجال إنفاذ للقانون.. غير أن الواجب الأخلاقي يحتم علينا أن نحتفظ بالجثث حتى يتم التعرف عليها في المستقبل.. لذلك ضعوها داخل صناديق مملوءة بالزفت وادفنوهم في أعماق البحيرة الصغرى.
ثم لما فرغنا من كل ذلك اجتمعت بالرجال في الحانة وأخبرتهم أن المهمة قد باءت بالفشل، ذلك أن هناك حرباً توشك على النشوب بين القوى العسكرية وأن شعب صانغوليا يجب أن يستفيق ويعرف حقوقه ليدافع عنها وأن هذه الحرب هبة إلهية حتى تعطي شعب صانغوليا فرصة النهوض من نعشه الإستوائي.
وهكذا امتلأت الحانة بالحشود مرة أخرى.
إن العدالة لا تستقر بل لا بد لها من أن تتبدد في الفوضى أولاً.
وكان الناظر ينظر لي بملامح باردة.
- أنتم موتى يا شعب صانغوليا.. كنتم موتى ويجب أن تحيوا من جديد.. ليست حياة الاستقرار إلا خيار الجبناء.. ليس الفرار إلا البقاء في مكان واحد اما الخروج فليس بفرار بل اقتحام للمجهول وللخطر وخلف المجهول والخطر هناك الأمل.. وما هو الأمل هو الشراهة في الحب.
صفق الحشد، والتهبت قلوب الرجال بالعزيمة. وهكذا بدأت في وضع خطط الحصول على السلاح. وسار كل شيء على ما يرام، خاصة بعد أن نشبت الحرب هناك خارج صانغوليا.
(تتبع)