د. محمد الهادي الطاهري - أرض مقدسة

في طريق العودة إلى الدار مساء يوم العيد توقفت لشراء علبة سجائر. قرأت على باب المتجر الصغير إعلانا فيه (للبيع قطعة أرض صالحة للبناء) دفعني الفضول فسألت صاحب المتجر، وكان شابا أنيقا، عن صاحب الإعلان فقال أبي وذاك رقم هاتفه ثم قال لا تكالمه اليوم فهو منشغل أو متعب ولا يرد على أحد. قلت ومتى يكون الأمر مناسبا؟ قال بعد أيام العيد الثلاثة يكون جاهزا للرد. سألته عن قطعة الأرض المعنية فقال هذه وأشار إلى أرض تغطيها أشجار الزيتون والمشمش ويحيط بها سياج من السرو الشامخ. لم أكن في الحقيقة أنوي الشراء ولكن الفضول والرغبة في تزجية الوقت دفعاني إلى الاهتمام بالموضوع. ولم أعر نصيحة الشاب اهتماما فخاطبت والده. الهاتف يرن ثم جاءني صوت في غاية الارتخاء يقول آلو وبين الهمزة واللام والواو أطول من ستة أوقات بحساب الموسيقيين. قلت عيدك مبارك يا حاج. فقال بتراخ أشد من الأول علينا وعليكم. ثم فهمت من تلكؤه وتلعثمه أنه يقول من المتصل فقلت عابر سبيل يريد معلومات عن قطعة الأرض المعروضة للبيع. صمت طويل ثم جاءني صوته الثقيل المتعب ليقول : انتظرني. قلت :أين ؟قال: حيث الإعلان. انتظرت نصف ساعة أو أكثر. كنت أقلب النظر في قطعة الأرض وأسأل نفسي : لم قد يقدم صاحب هذه الأرض على بيعها وهي ما هي؟ وأطل الرجل. لم يكن كما تخيلته. حسبته شيخا مسنا يعرج في جبة بيضاء وشاشية حمراء ولحية كثة فإذا هو في مثل سني أو أقل وفي لباس إفرنجي صيفي. تبادلنا التحية ومررنا إلى جوهر الموضوع. سألني من أكون ومن أين أتيت فرويت له قصة بعضها واقع وبعضها الآخر خيال في خيال . قلت أنا رجل على أبواب التقاعد ولي زوجة تتقاعد بعدي وأبناء قريبا يتخرجون ونحن الخمسة نقيم في شقة فاخرة على شاطئ البحر. أما الأبناء فيعشقون البحر و رمال الشواطئ وأما أنا وزوجتي فطائران حران يمقتان الضيق ويحلمان بعش في جنة كهذه. انطلق لسانه بعد إعياء ومضى يحدثني عن مزايا جنته قال هل تعلم؟ لقد فقد القطب الشمالي سبعة في المائة من جليده بسبب الانحباس الحراري وهذه الأرض التي تراها خضراء يانعة. الماء والكهرباء والانترنت والاتساع والجيرة الطيبة وأسراب الخطاف تملأ الجو بزقزقاتها. هل تعلم يا حاج أن الله قد وعد عباده الصالحين بجنة. لابد أنك من الصالحين. وقديما كانوا يقولون : لا تقل ملكت كذا وكذا وقل أخذت ما كتب الله لنا. يا رجل في هذه الأرض بركة. واسترسل في تعديد بركاتها حتى حسبته يتحدث عن أرض مقدسة. . قلت وبكم تنوي بيعها؟ قال أنا لا أبيع شيئا فالملك لله وحده أنا سأحيل إليك الحق في حوزتها والتصرف فيها. قلت نعم هذا هو معنى البيع. فبكم تراها؟ لم أصدق أنه قال ثمن المتر المربع الواحد خمسمائة دينار. قلت اتق الله يا رجل. نحن هنا على بعد عشرة أميال عن مدينة الكاف. قال ولهذا السبب سمعت ما سمعت. كلما ابتعدت عن وسط المدينة زال الهم والغم وتوفر الهواء وقل الصخب. هذه الأرض تصلح لطائرين حرين على أبواب التقاعد. سلمت عليه ووعدته بلقاء قريب. هل أعود إليه؟ لا. لن أعود. أنا طائر حر نعم ولن أرضى بجار من هذه الفصيلة البتة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى