إلى روح "غسان كنفاني".
..
أذكر الثّقة على وجه "سامي"، صديقي المُخرج المسرحي، وهو يُخبرني أنّ صورتي مُعلّقة بجوار صُور كُتّاب وفنّانين مشهورين، في مكتبة صغيرة أمام كُليّة التّربية النّوعيّة.
تعجبتُ: "أنا؟!"
"والله شُفت صورتك، تضع يدك على جبهتك، وبين أصابعك سيجارة".
"ما هذا التّخريف؟ ليس لي صورة بهذا الوصف".
أنهَى كلامه بتصميم: "اذهب، وسترى".
**
لم يتصادف أن دخلتُ مكتبة "الفنون"، رغم معرفتي بوجودها في الشارع المقابل لِمبنَى الكُليّة. مساحتها لا تتجاوز ثلاثة أمتار في أربعة، فيها مُستلزمات الرّسم والاقتصاد المنزلي، ومعظم ما يحتاجه الطَّلَبة في باقي الأقسام. على الحوائط صور، في براويز مُعلّقة بِلَمسة فنيّة. بعضها مائل، مثل فريد شوقي بحاجبه المرفوع، وبعضها يواجهك بنظرة مُقتحِمة مثل يوسف شاهين. رأيتُ طه حسين ونجيب محفوظ و.. ضحكتُ، لدرجة جعلت البنت الواقفة في المكتبة تُقبل نحوي: أي خِدمة؟ أشرتُ بيدي شاكرا، ومشيتُ. أخرجتُ تليفوني وطلبتُ "سامي" على الفور: "تقول إنكَ مُتأكّد من صُورتي، يا أستاذ، أنتَ شُفت غَسّان كَنَفاني"! سمعتُ ضحكته الخافتة، وكلماته المُندهشة: "من الغريب أنني لم أُركِّز في صورته من قبل، رغم انشغالي منذ سنوات بالتفكير في كتابته، مثل مسرحيته التّجريبية العجيبة: (القُبَّعَة والنّبيّ)، وأيضا تُناوشني كل فترة فكرة عَمل إعداد مسرحيّ لروايته (رِجال في الشّمس)". طلبتُ منه أن يبدأ، ما المانع؟ تَعلَّلَ بالمشاغِل، وأصَرَّ من جديد، قبل أن يُغلق الخَط، على مسألة الشَّبَه.
**
ليست المرة الأولى التي أسمع فيها عن شَبَهي بغسّان كنفاني. قالها لي واحد أو اثنان قبل ذلك، لكن على لسان سامي بدا الأمر مختلفا. في نفس اليوم قلَّبتُ كثيرا في جوجل عن صور غسّان. رجعت لنفس الصورة التي رأيتها في المكتبة. وجدتها تتصدّر مواقع إلكترونية كثيرة. يجلس في وَضعيّة الكتابة. أصابع يده اليُسرى على جبهته، أصابع نحيلة بينها سيجارة دَخَّنَ ثُلثها تقريبا. رأسه في اتجاه الورقة، واليد اليمنى تُمسك بقلم صغير يظهر بالكاد. خَمّنتُ أنه قلم رصاص بَراه الكاتب كثيرا. الشارب المقصوص والجبهة الواسعة والشعر المُسَرَّح للوراء، والأهم خَطّان غائران أسفل عينيه، دليل أرق أبدي وشُحوب. الوجه كله مخطوف، يُصارع فِكرة أو جُملة عَصيّة. قلتُ في نفسي: هذا هو غسّان الكاتب. ذهبتُ إلى صور أخرى تُبرِز المُناضل المُستخِفّ بجبروت أعدائه، مثلما يظهر نحيلا ومبتسما على مكتبه، في قميص مُلون نصف كُم، ومن خلفه على الحائط بورتريهات جيفارا ولينين وماركس. تأمّلتُ صُوره المرسومة بالأبيض والأسود، وبالأحمر القاني، كأيقونة فلسطينية انكسرَت في السادسة والثلاثين. إطلالاته برفقة زوجته الدانماركية "آني"، وطفليه "فايز" و"ليلى". الأكثر ظهورا هي النماذج المُتلألِئة بشرائط العُشاق وقلوبهم وَوُرودهم، مصحوبة بكلمات الحبّ المُتفرد، من مُراسلاته الشّهيرة مع الكاتبة غادَة السّمّان. هناك مُقطتفات من قصصه ورواياته ومقالاته، التي أتعَبَتنِي لسنوات طويلة، بسبب لُغتها ذات الصّوت والطّعم والرائحة، لُغة تضرب بالرّصاص، تئن، تهمس، تتفجَّر بأقوى من القُنبلة.
بعد ليلة طويلة مع غسّان؛ وقفتُ أمام المرآة أُقلّبُ ملامحي.. رَسمة الرأس، تقاطيع الوجه النّحيل، الشّارب، الأصابع الطويلة.
**
قررتُ أن أخرج إلى الشارع. أمام بوابة التربية النّوعيّة، استوقفتُ طَلَبة خارجين. شباب وبنات في مرح، بالموبايلات والسّمّاعات الموصولة بالآذان. عرَّفتهم بنفسي: صحفي، وأعمل على تحقيق في ذكرى كاتب ومناضل فلسطيني مُهم. تلفّتوا لبعضهم، ورحّبوا بعد تَردّد. شغَّلتُ مُسجِّل الصوت في تليفوني، وقرَّبته منهم: "كيف ترى غسّان كنفاني؟ هل قرأتَ له؟"
"أعرف غسّان، صُوره انتشرت بعد ثورات 2011، مثل صور جيفارا. بصراحة لم أقرأ له."
"أنا متابع أخبار الرياضة، وأسمع عن مَروان كنفاني حارس مرمى النادي الأهلي زماااان. أبي يتكلم عنه، هل هو قريب غسّان الذي تسأل عنه؟"
"لا ولله، أول مرّة أسمع عنه."
"المُمثّل غسّان مَطَر فلسطيني أيضا، صح؟ بالمناسبة، رأيت فيديو على النِّت، لسيدة وقفت فجأة أمام مُراسِل إحدى القنوات ونادتْ: يا غسّاااان، غسّااااان! المُراسِل قطع كلامه وضحك. الفيديو أصبح على مواقع كثيرة وبأشكال مختلفة.. مثلا في حفلة موسيقية، رقص وغناء.. ويطلع الصوت فجأة: يا غسّااااان، غسااااان".
"أنا مُهتمَّة بالشعر والأدب ولي محاولات بسيطة في الكتابة، أعشق شِعر تميم البرغوثي من أول ما ظهر في برنامج أمير الشعراء. وفي الحقيقة أنا أُحبّ كتابة غسان كنفاني، وقرأت له رواية مُؤلمة اسمها (عائد إلى حيفا). نسيتُ أن أقول لحضرتك: أنتَ تُشبهه كثيرا!".
"هل هو الذي قتله الموساد الإسرائيلي؟ أتذكر أني قرأت اسمه في كتاب عن شُهداء الموساد."
"أعرف غسّان مسعود الممثل السوري، كل أدواره عبقرية.. صلاح الدين في فيلم مملكة السماء، وأبو بكر في مُسلسل عُمر."
**
لم أكن أعلم أن تحقيقي الصحفي المزعوم سيقودُني إلى هؤلاء الغَساسِنَة. ذهبتُ أسأل عن "غسان" واحد، ورجعتُ بآخرين معه. أعرف أن اسمه عربي أصيل، وله وَقْع موسيقي، بالإضافة إلى انتشاره الكبير، خصوصا في بلاد الشام. هل تفاجَأتُ بالرُّدود؟ استرجعتُها كثيرا. توقفتُ عند الشَّبَه، المُعَاد من جديد على لسان البنت المُحبّة للأدب. عُدت للسائل عن مروان كنفاني، الرياضي الشهير والسياسي الفلسطيني بعد ذلك. لم أقل له إنه شقيق غسّان. بقي معي الفيديو الذي أشار إليه أحدهم. رأيته على اليوتيوب، المرأة تُنادي بإصرار: "غسّااااان". المُراسِل يضحك، والمارَّة وأنا أيضا. تصورتُها تبحث عن أي غسّان يخُصُّها.. وبمعرفة أن المُراسِل الأجنبي يقف في القُدس، طاف بي خاطر أنها تُهاتِف غسّان كنفاني نفسه. ليست صُدفة أن تجتمع القُدس واسم غسّان تحديدا في صوت المرأة، مع النداء المُلِحّ. شيء آخر تسبّبَ في ذبذبة إحساسي: وجه المرأة الظاهر من الجانب، فيه ملامح إحدى العزيزات الغاليات عند كنفاني.. تُشبه شقيقته "فايزة" في مرحلة متأخرة من حياتها! هل كانت هلوَسة بَصريّة لعينين تُدقّقان؟ طالعتُ صورا كثيرة للشقيقة الكبرى، المُعلّمة والرفيقة والأم الثانية. تعِبتُ، ولم أصل إلى شيء. قررتُ أن أخرج من حالة البلبلة بالقراءة، وإدارة حوار بصوتٍ عالٍ..
يقول الوَلد في المُخيّم:
"كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الاشتباك ذاته.. الالتحام المُتواصل بالعَدو، لأنّه أثناء الحرب قد تَهبُّ نَسمة سلام يلتقط فيها المُقاتل أنفاسه. راحة، هُدنة، إجازة تَقهقُر. أما في الاشتباك فإنّه دائما على بُعد طَلْقَة، أنتَ دائما تمرُّ بأعجوبة بين طَلْقَتين، وهذا ما كان، كما قلتُ لكَ، زمن الاشتباك المُستمر".
(من قصة "الصّغير يذهب إلى االمُخيّم"، لغَسّان).
..
يقول غسّان:
"سأظلُّ أعودُ، أُعطيكِ رأسي المُبتَلّ لتجفِّفيهِ بعد أن اختار الشَّقِيّ أن يسير تحت المزاريب".
"أنتِ في جِلدِي، وأُحِسُّكِ مِثلما أُحسّ فلسطين: ضياعُها كارثة بلا أي بديل".
"الفِراق لابدّ منه، فَلْنتَلاقَ بانتظارِ أن يأتي".
(من رسائله إلى غادة السّمّان).
..
يتدخَّلُ "المُتنبّي" في عصَبيّة:
"تَقُولينَ ما في النّاسِ مِثْلَكَ عاشِقٌ
جِدِي مِثلَ مَنْ أَحبَبتُهُ تَجِدِي مِثْلِي".
..
يُعقِّبُ "الجاحظ" بصوتٍ رَخيم:
"وأنا واصِفٌ لكَ حَدَّ العِشقِ لتعرفَ حَدَّه: هو داءٌ يُصيبُ الرُّوح ويَشتمِلُ على الجسمِ بالمُجاورَة.. وداءُ العِشقِ وعُمومه في جميع البَدَن بحسبِ مَنزِلَةِ القلبِ من أعضاءِ الجسم".
..
يقول "عدنان كنفاني":
"وصلتُ إلى مكان الانفجار في الحازِمِيّة. أشلاؤه كانت على الأرض وعلى الشَّجَر وفي كل مكان. جَمعتُ كل شيء، وحَطّيته في أكياس نايلون. لَميس كانت على بُعد عشرين مترا.. جُثّة مُتفحِّمة".
(شقيقُه "عدنان" يتذكّر تفاصيل ذلك الصباح في بيروت: 8 يوليو 1972، بعد انفجار سيارة غسّان وبصُحبته "لَميس" ابنة أُخته).
**
فكّرتُ في العودة مرة أخرة إلى الطَّلَبة، أُجرِي تحقيقي بصيَغ أخرى وأشكال أكثر مُراوغة. أو أُصادف العابرين في الشارع وأطرح أسئلتي. عدلتُ عن الفكرة، بعد إحساس عبثي أنني في غابة كبيرة عامرة بالأشجار الضخمة، وعلى الفروع والأغصان تتناثر أشلاء، كأنها عصافير تتدلَّى ميِّتة في مكانها. مهمّة مستحيلة، تفوق طاقتي، أن أجمع تلك الأشلاء. تذكرتُ حواراتي مع الشخصيات. جاءتني فكرة؛ جعلتني أترك كل شيء وأقوم.
فُوجِئ "سامي" بهجومي عليه في المقهى المجاور لمسرح مجلس المدينة: "اطلب لي الشاي، ولا تفتح فمك واسمعني". وافقَ، ووضع يده على خَدّه مُنتظرا ما عندي: "آن الأوان لأن تُخرِج (غسّان) على المسرح. قَرّرتُ كتابة نَصّ مُستوحَى من حياته ومُجمَل أعماله. في تصوّري أن أعمل جِدارية مسرحيّة، أن أُقدّم معك (غسان) يتحرك بِلَحمه ودمه. ما رأيك؟"
عينا سامي لمعَتا. عرفتُ أن الفكرة أعجبته. قال: "ابدأ من الآن. اكتب تصوُّرك كما تريد، أُوافق على ما قُلتَ، بشَرط واحد".
"ما هو؟"
"أن تقوم أنتَ بِدور غسّان على المسرح!"
"سامي اعقل، أنا مُمثِّل؟ أنتَ عَبيط؟"
"اهدأ وفَكِّر، أنتَ شَبه غسّان جِدّا، والأهم أنكَ تُحبّه وتعرف أعماله وحياته. أنا سأتصرّف. لا تحمِل هَمَّ شيء، دورك سيكون بأقل الكلمات".
"يا عَمّ اسكُت، أنا غسّان؟"
"وما المانع؟ فرصة أن تكون هو، ولو على المسرح".
"تجربة مخيفة، مستحيل، ابحث عن مُمثّل موهوب يليق بالدّور".
"تَحمُّسك لكتابة النَّصّ، دافع كبير لأن تعيش الدّور بِروحك".
"طَيب، اترك هذا الموضوع الآن. سأكتبُ أولا، هذا هو المُهم".
**
بدأتُ الكتابة. أرسمُ في الخلفيّة ديكور المشهد: مكتب في جريدة، غرفة في فندق، قرية فلسطينية قبل عام النَّكبَة، شارع في دمشق، مقهى في بيروت. أُردّد كلمات الحوار مرّة واثنتين. أختبر نَبرة الجُملة وسُخونتها وتلقائيتها، على لسان غسان أو أفراد عائلته، أو أبطال أعماله الخارجين من الورق. في مشهد يجمع غسّان بأطفال أحد المُخيَّمات يجري حوار ولعب ومرح، ثمّ يسكت الجميع فجأة، يتجمّدون مثل تماثيل. تبدأ شفاههم في غناء خافت، يعلو بالتدريج مع موسيقى الخلفيّة بصوت فيروز. توقّفتُ قليلا وأنا أكتب مشهدا يُجسّد "غسّان" في الزمن الحالي، سائرا في شوارع بيروت، وفجأة ينبطح أرضا مع باقي البشر المذعورين لوَقع الانفجار الضخم الذي رَجَّ مَرفَأ بيروت، والمدينة كلها، عصر الثلاثاء 4 أغسطس 2020. نراه يتمالك نفسه وينهض، ناظرا حوله. يُردّد: ليست إسرئيل هذه المَرّة، أجسادنا نفسها أصحبتْ قنابلَ!
يمشي قليلا، راجعا إلى زمنه. يظهر في لحظة ركوبه السيارة في صباح يوم موته المشئوم، يعلو صوت الانفجار الرهيب، ويتداخل مع انفجار بيروت.
كلما كتبتُ فصلا؛ أقرؤه مع سامي. يُكوّر قبضتيه علامة الفرح والحماس: "الله يا غسّان". قلتُ له: "هل بحثتَ عن مُمثّل لدور غسّان"؟ نظر لي ببلاهَة. أكملتُ: "لا تُتعِب نفسك وتُتعبني، لن أؤدي الدور، صحيح أنا كَتبتُه وعِشتُ معه ورأيته يتحرّك ويتنفَّس، لكن ليس معنى هذا أن أكون مكانه". وضعتُ يدي على فمه قبل أن ينطق: "ابحث وأنا معك عن الشّخص الأنسَب".
قبل البَدء في البروفات، نظرتُ إلى الشاب الثلاثيني النّحيل. مددتُ يدي بالسلام: "أنتَ تُشبه غسّان فعلا، شدّ حيلك يا بطل، دورك صعب".
جلستُ في منتصف المسرح، أُتابع سامي يُوَجِّه ويُحَفِّظ. يضبط الانفعال على مَقاس الموقِف. يقول للمُمَثِّلين: "الحوار المسرحي مثل الموسيقى.. قَرار وجَواب ومساحات بينهما". رأيتُه شُعلة حَماس. يهتم بِنَقل لوحة في الخَلفيّة، أو تحريك قِطعة ديكور من هنا إلى هناك. تركتُهم يُنفّذون ما فَكّرتُ فيه وتخيّلتُه، مع استعداد للتدخُّل إذا لزم الأمر.
يدي على قلبي المُرتجِف، في انتظار موعد العَرض الأول أمام الجمهور.
***
حسام المقدم
..
أذكر الثّقة على وجه "سامي"، صديقي المُخرج المسرحي، وهو يُخبرني أنّ صورتي مُعلّقة بجوار صُور كُتّاب وفنّانين مشهورين، في مكتبة صغيرة أمام كُليّة التّربية النّوعيّة.
تعجبتُ: "أنا؟!"
"والله شُفت صورتك، تضع يدك على جبهتك، وبين أصابعك سيجارة".
"ما هذا التّخريف؟ ليس لي صورة بهذا الوصف".
أنهَى كلامه بتصميم: "اذهب، وسترى".
**
لم يتصادف أن دخلتُ مكتبة "الفنون"، رغم معرفتي بوجودها في الشارع المقابل لِمبنَى الكُليّة. مساحتها لا تتجاوز ثلاثة أمتار في أربعة، فيها مُستلزمات الرّسم والاقتصاد المنزلي، ومعظم ما يحتاجه الطَّلَبة في باقي الأقسام. على الحوائط صور، في براويز مُعلّقة بِلَمسة فنيّة. بعضها مائل، مثل فريد شوقي بحاجبه المرفوع، وبعضها يواجهك بنظرة مُقتحِمة مثل يوسف شاهين. رأيتُ طه حسين ونجيب محفوظ و.. ضحكتُ، لدرجة جعلت البنت الواقفة في المكتبة تُقبل نحوي: أي خِدمة؟ أشرتُ بيدي شاكرا، ومشيتُ. أخرجتُ تليفوني وطلبتُ "سامي" على الفور: "تقول إنكَ مُتأكّد من صُورتي، يا أستاذ، أنتَ شُفت غَسّان كَنَفاني"! سمعتُ ضحكته الخافتة، وكلماته المُندهشة: "من الغريب أنني لم أُركِّز في صورته من قبل، رغم انشغالي منذ سنوات بالتفكير في كتابته، مثل مسرحيته التّجريبية العجيبة: (القُبَّعَة والنّبيّ)، وأيضا تُناوشني كل فترة فكرة عَمل إعداد مسرحيّ لروايته (رِجال في الشّمس)". طلبتُ منه أن يبدأ، ما المانع؟ تَعلَّلَ بالمشاغِل، وأصَرَّ من جديد، قبل أن يُغلق الخَط، على مسألة الشَّبَه.
**
ليست المرة الأولى التي أسمع فيها عن شَبَهي بغسّان كنفاني. قالها لي واحد أو اثنان قبل ذلك، لكن على لسان سامي بدا الأمر مختلفا. في نفس اليوم قلَّبتُ كثيرا في جوجل عن صور غسّان. رجعت لنفس الصورة التي رأيتها في المكتبة. وجدتها تتصدّر مواقع إلكترونية كثيرة. يجلس في وَضعيّة الكتابة. أصابع يده اليُسرى على جبهته، أصابع نحيلة بينها سيجارة دَخَّنَ ثُلثها تقريبا. رأسه في اتجاه الورقة، واليد اليمنى تُمسك بقلم صغير يظهر بالكاد. خَمّنتُ أنه قلم رصاص بَراه الكاتب كثيرا. الشارب المقصوص والجبهة الواسعة والشعر المُسَرَّح للوراء، والأهم خَطّان غائران أسفل عينيه، دليل أرق أبدي وشُحوب. الوجه كله مخطوف، يُصارع فِكرة أو جُملة عَصيّة. قلتُ في نفسي: هذا هو غسّان الكاتب. ذهبتُ إلى صور أخرى تُبرِز المُناضل المُستخِفّ بجبروت أعدائه، مثلما يظهر نحيلا ومبتسما على مكتبه، في قميص مُلون نصف كُم، ومن خلفه على الحائط بورتريهات جيفارا ولينين وماركس. تأمّلتُ صُوره المرسومة بالأبيض والأسود، وبالأحمر القاني، كأيقونة فلسطينية انكسرَت في السادسة والثلاثين. إطلالاته برفقة زوجته الدانماركية "آني"، وطفليه "فايز" و"ليلى". الأكثر ظهورا هي النماذج المُتلألِئة بشرائط العُشاق وقلوبهم وَوُرودهم، مصحوبة بكلمات الحبّ المُتفرد، من مُراسلاته الشّهيرة مع الكاتبة غادَة السّمّان. هناك مُقطتفات من قصصه ورواياته ومقالاته، التي أتعَبَتنِي لسنوات طويلة، بسبب لُغتها ذات الصّوت والطّعم والرائحة، لُغة تضرب بالرّصاص، تئن، تهمس، تتفجَّر بأقوى من القُنبلة.
بعد ليلة طويلة مع غسّان؛ وقفتُ أمام المرآة أُقلّبُ ملامحي.. رَسمة الرأس، تقاطيع الوجه النّحيل، الشّارب، الأصابع الطويلة.
**
قررتُ أن أخرج إلى الشارع. أمام بوابة التربية النّوعيّة، استوقفتُ طَلَبة خارجين. شباب وبنات في مرح، بالموبايلات والسّمّاعات الموصولة بالآذان. عرَّفتهم بنفسي: صحفي، وأعمل على تحقيق في ذكرى كاتب ومناضل فلسطيني مُهم. تلفّتوا لبعضهم، ورحّبوا بعد تَردّد. شغَّلتُ مُسجِّل الصوت في تليفوني، وقرَّبته منهم: "كيف ترى غسّان كنفاني؟ هل قرأتَ له؟"
"أعرف غسّان، صُوره انتشرت بعد ثورات 2011، مثل صور جيفارا. بصراحة لم أقرأ له."
"أنا متابع أخبار الرياضة، وأسمع عن مَروان كنفاني حارس مرمى النادي الأهلي زماااان. أبي يتكلم عنه، هل هو قريب غسّان الذي تسأل عنه؟"
"لا ولله، أول مرّة أسمع عنه."
"المُمثّل غسّان مَطَر فلسطيني أيضا، صح؟ بالمناسبة، رأيت فيديو على النِّت، لسيدة وقفت فجأة أمام مُراسِل إحدى القنوات ونادتْ: يا غسّاااان، غسّااااان! المُراسِل قطع كلامه وضحك. الفيديو أصبح على مواقع كثيرة وبأشكال مختلفة.. مثلا في حفلة موسيقية، رقص وغناء.. ويطلع الصوت فجأة: يا غسّااااان، غسااااان".
"أنا مُهتمَّة بالشعر والأدب ولي محاولات بسيطة في الكتابة، أعشق شِعر تميم البرغوثي من أول ما ظهر في برنامج أمير الشعراء. وفي الحقيقة أنا أُحبّ كتابة غسان كنفاني، وقرأت له رواية مُؤلمة اسمها (عائد إلى حيفا). نسيتُ أن أقول لحضرتك: أنتَ تُشبهه كثيرا!".
"هل هو الذي قتله الموساد الإسرائيلي؟ أتذكر أني قرأت اسمه في كتاب عن شُهداء الموساد."
"أعرف غسّان مسعود الممثل السوري، كل أدواره عبقرية.. صلاح الدين في فيلم مملكة السماء، وأبو بكر في مُسلسل عُمر."
**
لم أكن أعلم أن تحقيقي الصحفي المزعوم سيقودُني إلى هؤلاء الغَساسِنَة. ذهبتُ أسأل عن "غسان" واحد، ورجعتُ بآخرين معه. أعرف أن اسمه عربي أصيل، وله وَقْع موسيقي، بالإضافة إلى انتشاره الكبير، خصوصا في بلاد الشام. هل تفاجَأتُ بالرُّدود؟ استرجعتُها كثيرا. توقفتُ عند الشَّبَه، المُعَاد من جديد على لسان البنت المُحبّة للأدب. عُدت للسائل عن مروان كنفاني، الرياضي الشهير والسياسي الفلسطيني بعد ذلك. لم أقل له إنه شقيق غسّان. بقي معي الفيديو الذي أشار إليه أحدهم. رأيته على اليوتيوب، المرأة تُنادي بإصرار: "غسّااااان". المُراسِل يضحك، والمارَّة وأنا أيضا. تصورتُها تبحث عن أي غسّان يخُصُّها.. وبمعرفة أن المُراسِل الأجنبي يقف في القُدس، طاف بي خاطر أنها تُهاتِف غسّان كنفاني نفسه. ليست صُدفة أن تجتمع القُدس واسم غسّان تحديدا في صوت المرأة، مع النداء المُلِحّ. شيء آخر تسبّبَ في ذبذبة إحساسي: وجه المرأة الظاهر من الجانب، فيه ملامح إحدى العزيزات الغاليات عند كنفاني.. تُشبه شقيقته "فايزة" في مرحلة متأخرة من حياتها! هل كانت هلوَسة بَصريّة لعينين تُدقّقان؟ طالعتُ صورا كثيرة للشقيقة الكبرى، المُعلّمة والرفيقة والأم الثانية. تعِبتُ، ولم أصل إلى شيء. قررتُ أن أخرج من حالة البلبلة بالقراءة، وإدارة حوار بصوتٍ عالٍ..
يقول الوَلد في المُخيّم:
"كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الاشتباك ذاته.. الالتحام المُتواصل بالعَدو، لأنّه أثناء الحرب قد تَهبُّ نَسمة سلام يلتقط فيها المُقاتل أنفاسه. راحة، هُدنة، إجازة تَقهقُر. أما في الاشتباك فإنّه دائما على بُعد طَلْقَة، أنتَ دائما تمرُّ بأعجوبة بين طَلْقَتين، وهذا ما كان، كما قلتُ لكَ، زمن الاشتباك المُستمر".
(من قصة "الصّغير يذهب إلى االمُخيّم"، لغَسّان).
..
يقول غسّان:
"سأظلُّ أعودُ، أُعطيكِ رأسي المُبتَلّ لتجفِّفيهِ بعد أن اختار الشَّقِيّ أن يسير تحت المزاريب".
"أنتِ في جِلدِي، وأُحِسُّكِ مِثلما أُحسّ فلسطين: ضياعُها كارثة بلا أي بديل".
"الفِراق لابدّ منه، فَلْنتَلاقَ بانتظارِ أن يأتي".
(من رسائله إلى غادة السّمّان).
..
يتدخَّلُ "المُتنبّي" في عصَبيّة:
"تَقُولينَ ما في النّاسِ مِثْلَكَ عاشِقٌ
جِدِي مِثلَ مَنْ أَحبَبتُهُ تَجِدِي مِثْلِي".
..
يُعقِّبُ "الجاحظ" بصوتٍ رَخيم:
"وأنا واصِفٌ لكَ حَدَّ العِشقِ لتعرفَ حَدَّه: هو داءٌ يُصيبُ الرُّوح ويَشتمِلُ على الجسمِ بالمُجاورَة.. وداءُ العِشقِ وعُمومه في جميع البَدَن بحسبِ مَنزِلَةِ القلبِ من أعضاءِ الجسم".
..
يقول "عدنان كنفاني":
"وصلتُ إلى مكان الانفجار في الحازِمِيّة. أشلاؤه كانت على الأرض وعلى الشَّجَر وفي كل مكان. جَمعتُ كل شيء، وحَطّيته في أكياس نايلون. لَميس كانت على بُعد عشرين مترا.. جُثّة مُتفحِّمة".
(شقيقُه "عدنان" يتذكّر تفاصيل ذلك الصباح في بيروت: 8 يوليو 1972، بعد انفجار سيارة غسّان وبصُحبته "لَميس" ابنة أُخته).
**
فكّرتُ في العودة مرة أخرة إلى الطَّلَبة، أُجرِي تحقيقي بصيَغ أخرى وأشكال أكثر مُراوغة. أو أُصادف العابرين في الشارع وأطرح أسئلتي. عدلتُ عن الفكرة، بعد إحساس عبثي أنني في غابة كبيرة عامرة بالأشجار الضخمة، وعلى الفروع والأغصان تتناثر أشلاء، كأنها عصافير تتدلَّى ميِّتة في مكانها. مهمّة مستحيلة، تفوق طاقتي، أن أجمع تلك الأشلاء. تذكرتُ حواراتي مع الشخصيات. جاءتني فكرة؛ جعلتني أترك كل شيء وأقوم.
فُوجِئ "سامي" بهجومي عليه في المقهى المجاور لمسرح مجلس المدينة: "اطلب لي الشاي، ولا تفتح فمك واسمعني". وافقَ، ووضع يده على خَدّه مُنتظرا ما عندي: "آن الأوان لأن تُخرِج (غسّان) على المسرح. قَرّرتُ كتابة نَصّ مُستوحَى من حياته ومُجمَل أعماله. في تصوّري أن أعمل جِدارية مسرحيّة، أن أُقدّم معك (غسان) يتحرك بِلَحمه ودمه. ما رأيك؟"
عينا سامي لمعَتا. عرفتُ أن الفكرة أعجبته. قال: "ابدأ من الآن. اكتب تصوُّرك كما تريد، أُوافق على ما قُلتَ، بشَرط واحد".
"ما هو؟"
"أن تقوم أنتَ بِدور غسّان على المسرح!"
"سامي اعقل، أنا مُمثِّل؟ أنتَ عَبيط؟"
"اهدأ وفَكِّر، أنتَ شَبه غسّان جِدّا، والأهم أنكَ تُحبّه وتعرف أعماله وحياته. أنا سأتصرّف. لا تحمِل هَمَّ شيء، دورك سيكون بأقل الكلمات".
"يا عَمّ اسكُت، أنا غسّان؟"
"وما المانع؟ فرصة أن تكون هو، ولو على المسرح".
"تجربة مخيفة، مستحيل، ابحث عن مُمثّل موهوب يليق بالدّور".
"تَحمُّسك لكتابة النَّصّ، دافع كبير لأن تعيش الدّور بِروحك".
"طَيب، اترك هذا الموضوع الآن. سأكتبُ أولا، هذا هو المُهم".
**
بدأتُ الكتابة. أرسمُ في الخلفيّة ديكور المشهد: مكتب في جريدة، غرفة في فندق، قرية فلسطينية قبل عام النَّكبَة، شارع في دمشق، مقهى في بيروت. أُردّد كلمات الحوار مرّة واثنتين. أختبر نَبرة الجُملة وسُخونتها وتلقائيتها، على لسان غسان أو أفراد عائلته، أو أبطال أعماله الخارجين من الورق. في مشهد يجمع غسّان بأطفال أحد المُخيَّمات يجري حوار ولعب ومرح، ثمّ يسكت الجميع فجأة، يتجمّدون مثل تماثيل. تبدأ شفاههم في غناء خافت، يعلو بالتدريج مع موسيقى الخلفيّة بصوت فيروز. توقّفتُ قليلا وأنا أكتب مشهدا يُجسّد "غسّان" في الزمن الحالي، سائرا في شوارع بيروت، وفجأة ينبطح أرضا مع باقي البشر المذعورين لوَقع الانفجار الضخم الذي رَجَّ مَرفَأ بيروت، والمدينة كلها، عصر الثلاثاء 4 أغسطس 2020. نراه يتمالك نفسه وينهض، ناظرا حوله. يُردّد: ليست إسرئيل هذه المَرّة، أجسادنا نفسها أصحبتْ قنابلَ!
يمشي قليلا، راجعا إلى زمنه. يظهر في لحظة ركوبه السيارة في صباح يوم موته المشئوم، يعلو صوت الانفجار الرهيب، ويتداخل مع انفجار بيروت.
كلما كتبتُ فصلا؛ أقرؤه مع سامي. يُكوّر قبضتيه علامة الفرح والحماس: "الله يا غسّان". قلتُ له: "هل بحثتَ عن مُمثّل لدور غسّان"؟ نظر لي ببلاهَة. أكملتُ: "لا تُتعِب نفسك وتُتعبني، لن أؤدي الدور، صحيح أنا كَتبتُه وعِشتُ معه ورأيته يتحرّك ويتنفَّس، لكن ليس معنى هذا أن أكون مكانه". وضعتُ يدي على فمه قبل أن ينطق: "ابحث وأنا معك عن الشّخص الأنسَب".
قبل البَدء في البروفات، نظرتُ إلى الشاب الثلاثيني النّحيل. مددتُ يدي بالسلام: "أنتَ تُشبه غسّان فعلا، شدّ حيلك يا بطل، دورك صعب".
جلستُ في منتصف المسرح، أُتابع سامي يُوَجِّه ويُحَفِّظ. يضبط الانفعال على مَقاس الموقِف. يقول للمُمَثِّلين: "الحوار المسرحي مثل الموسيقى.. قَرار وجَواب ومساحات بينهما". رأيتُه شُعلة حَماس. يهتم بِنَقل لوحة في الخَلفيّة، أو تحريك قِطعة ديكور من هنا إلى هناك. تركتُهم يُنفّذون ما فَكّرتُ فيه وتخيّلتُه، مع استعداد للتدخُّل إذا لزم الأمر.
يدي على قلبي المُرتجِف، في انتظار موعد العَرض الأول أمام الجمهور.
***
حسام المقدم