أحمد عبدالله إسماعيل - احتضار المشاعر

في صيف لافح، كنا نتحلق، مساء كل يوم، حول أبي كما لو أننا كواكب تدور في مدارات، تسبح في فلك، متقن الصنع، لا الشمس تدرك فيه القمر ولا يسبق الليل النهار، دفء صوته تألفه آذاننا، لا يجرؤ أي منا أن يقاطع حديثه، أو حتى يبدأ بسؤال، على الرغم من حنانه.
لم يهتم يوما بنفسه؛ فمنذ أن تذوقنا للحياة طعمًا، وهو أول من يستيقظ وآخر من يأكل أو ينام، نترقب وصوله ليضيء البيت.
في ليلة، كان الجو أفيح من جهنم، حتى إنَّ جسده كان مبتلّا من شعره إلى أصابع قدميه؛ فشرب الماء المثلج، وسكب الباقي على رأسه، وابتسم في سعادة غامرة قبل أن تهاجمه لحظات الموت!
وضعت لنا امي غداءً دسمًا، ثم شرب والدي الماء المثلج ثانيةً، ثم كشرتْ بوجهه؛ لأنه لم يكترث لتحذيراتها من أن يصاب طحاله بسوء.
لم نكن نخلد إلى النوم حتى يُلقي علينا التحية، كأنه فاتح شهية، وكنت أرد: "تصبح على خير يا أحلى أب في الدنيا كلها".
كنا ننام، في أول الليل، بفعل الإحساس بأمن كلماته ودفء نظراته، نركض نحو الأسرّة، نحلم بالقصور والملوك والسلاطين و عرائس البحر بمجرد أن نغمض أعيننا، نستيقظ في الصباح فلا نجده؛ كان يذهب إلى العمل، لكنه كان يربّت على أجسادنا ويمسح على رؤسنا ويقبل أيادينا و جباهنا قبل أن ينصرف.
عصر الليلة الماضية، كان يتلوى من الألم الذي سبَّبه الإسهال لثلاث ساعات متواصلة، يدوس بقدمه على الأرض بصعوبة شديدة، سمعنا صوت اضطراب معدته المصحوب بالآهات كأنه على فراش الموت، حاول إيقاف هذه الآلام مرارًا لكنه لم يستطع.
اليوم علي غير العادة، لم تمر هالة النور من أمام حجرتنا، ربما التأخر على العمل حال دون ذلك، وسكت صوت المذياع لأول مرة منذ مدة، ازداد قلق إخوتي؛ لذا قمت بطرق الباب على أمي، غير أنها استمرت في نومها، فرجعتُ نحو غرفتي في عجب، تواصلتُ مع أبي عبر الهاتف، قال عمي إنه محجوز من الليلة الماضية تحت العنايةِ الفائقةِ بمستشفى دار الفؤاد بعد أن فقد جسمه معظم السوائل وأصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية، غير أن أمي لا ترد على هاتفه!
تواصل عمي محاولًا أن يطمئننا، ولم يتوقف سؤاله عن السبب الذي منعها من زيارته!
لم يسلّم علينا أبي في تلك الليلة، وقد رافقته العناية الإلهية.
امتدت الليلة كأنها عقود، فكلما عاد لوعيه وجد نفسه مع آخرين في موقف مفزع، غير أن لكل منهم شأن يُغنيه.
بين الفينة والأخرى، في غرفته بالمستشفى، كان يُلقي نظرة علينا، ويحدق في وجه أمي في عجب وتساؤل.
انسلخ النهار من الليل، سمعتْ أمي صوت هاتفها المحمول، نظرتْ إلى شاشته، وجدت اسم "حليم عبد الصبور"؛ فأجابت هذه المرة في ترقب، خرجت أنفاسها متثاقلة، وراحت تلقي نظرة على أسرَّتنا غير أنها لم تربت على أجسادنا أو تقبِّل جباهنا.
عاد النور يملأ أركان البيت الموحش، جلست أمي هادئة وهي تنظر إلى أبي كأنها لم تتأثر بما مر به، سمعت عبارات اللوم، تنبعث من عينيه، قبل أن ينطق بها، ثم سمعنا جلبة وصراخًا، لا ندري هل من صدمة أمي أم من صوت أبي الذي نزل عليها كالصاعقة وهو يصيح:
-انتظرتك تغمرني الحيرة وتملأ كياني، أصحو من الاحتضار، وأبسط إليك راحتي فلا أجدك؟! هل نظل نحزن طوال عمرنا؟!
- لا أجد أحدًا أشرح له ما أعاني منه!
-سماح، أنت زوجة رائعة للغاية، غير أن قلبي يعتصر بين جوانحي، ويشتاق القلب الذي فقده، ويظل يتذكره دائمًا. إن العمر يتقدم بنا، فهل أظل وحيدًا هكذا، حتى في مرضي، بسبب خطأ واحد غير مقصود؟
-بل قل خطيئة لا تغتفر، أعتقد أننا بحاجة إلى طبيب نفسي يا صالح!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى