محمد مصطفى العمراني - رسالة غريبة!

لم تكن قد نامت ، كانت ما تزال يقظة حين فوجئت بدخولهم غرفة نومها ، ألجمتها المفاجأة وعقدت لسانها فلم تستطع الكلام ، حاولت أن تنهض لكن أقربهم إليها ضربها بعصا على رأسها فأفقدها الحركة ، تخدرت تماما ، لكنها تراهم حولها ، وجوههم بيضاء يشع منها النور ، يبتسمون ويتحدثون ويشيرون إليها ، ثيابهم بيضاء لم تر مثلها .!
تخدرت قدماها ، لم تعد تشعر بها ، الخدر يسري ببطء وهم يبتسمون ويتحدثون ، يحملون قوارير رائحتها عطرة وهادئة ، في حياتها لم تشم مثل تلك الروائح الفاخرة ، الخدر يسري في جسمها ، أيقنت أنه الموت وأن هؤلاء هم الملائكة لكن منظرهم بهذا النور غمرها بسعادة غريبة لم تذق مثلها من قبل .!
وفجأة يدخل أحدهم ويقول بوضوح :
ـ ليست هذه التي كتبت لها الوفاة الليلة ..
وأضاف :
ـ فاطمة الحاج التي في قرية ظهرة بني علي .
أسرع أقربهم إليها ومسح على صدغها مكان الضربة ، مسح بيديه على أعضائها التي تخدرت ثم خرجوا جميعا .
لم تمض إلا دقائق حتى عادت الحياة ، استطاعت الحركة والحديث وهي غير مصدقة ما حدث لها .!
كأن ما حدث حلم .!
نهضت من فراشها تمشي متثاقلة وهي ترتجف كعصفور مبلل ، تداخل مشاعرها ، خوف مما حدث لها ، وفرحة بأنها لم تمت .
زوجها ما يزال في مجلسه يمضغ القات ويستمع للأخبار في الراديو ، حين رآها هب واقفا وقد ألتقط عصاه قائلا :
ـ هل عاد الحنش ؟
ـ لا لا اجلس
شربت كأسا من الماء ثم تحدثت :
ـ كنت سأموت
ـ اشترغتي ؟
ـ لا لا جاء الملائكة إلي ، وجوههم بيضاء فيها نور عجيب ، وثيابهم بيضاء .. قاطعها :
ـ فاطمة هل أنت محمومة ؟
ـ لا لا هم كانوا سيذهبون إلى فاطمة الحاج في ظهرة بني علي لكنهم جاؤوا إلي بعدها جاء ملاك وأخبرهم أنني لست المطلوبة .
نهض زوجها ووضع يده على جبهتها ليتحسس حرارتها فربما هي محمومة وتهذي ، كانت حرارتها عادية وهي تتحدث بثقة عجيبة .!
أدركت أنه لن يصدقها فقالت :
ـ فاطمة الحاج ستموت الليلة وحينها ستصدقني .
فتحت النافذة ونادت ابنها في منزله المجاور فأجابها :
ـ تعال أنت واخوانك بسرعة .
جمع إخوته وجاؤوا إليها فأخبرتهم بما حدث ففغروا أفواههم دهشة فأطلقت رهانها :
ـ إذا ماتت فاطمة الحاج الليلة صدقوني .
وأضافت :
ـ ما لم فقولوا أنني كنت أهذي .
لم يمض سوى نصف ساعة حتى سمعوا الصراخ في ظهرة بني علي .
أضواء الكشافات تتجه إلى منزل فاطمة الحاج وصوت يصرخ :
ـ أجيبوا داعي الله فاطمة الحاج توفاها الله .
نظروا جميعا إليها وهرعوا يقبلون رأسها ورجليها ويطلبون منها أن تروي لهم ما حدث من جديد .
تحلقوا حولها يستمعون إليها بخشوع وخوف وهم يسبحون ويهللون .
ليلتها لم ينم أحد .
فاطمة الحاج التي توفيت تعرفها جيدا ، أرضها بجوار أرضهم ، قبل أسبوع رأتها ، كانت بكامل صحتها ، تطارد المواشي التي تقترب من الزرع ، جاءت إليها وأعطتها حزمة من كيزان الذرة الصفراء هدية ، ظلت تشكو من كسل بناتها وزوجات أولادها اللواتي يرفضن سحق كيزان الذرة وعمل فطور بسبب كسلهن .
ـ الله يرحمك يا فاطمة الحاج .
في اليوم التالي روى زوجها وأولادها ، أقسموا الأيمان المغلظة ، صدقهم البعض وصمت آخرون ، انتشرت القصة في القرية والقرى المجاورة ، جاءت إليها الكثير من النساء يسألنها عما حدث ؟
كانت تقص عليهن كل ما حدث بالتفصيل ، يفغرن أفواههن دهشة ، يشلهن الرعب ، بعضهن بللن ملابسهن من الخوف ، يغادرن منزلها وهن يتعثرن في الطريق وقد نوين التوبة .
تواصلت الزيارات إلى منزلها ، صارت بعض النساء تضع عندها الأشياء التي تخاف عليها كأمانة ، البعض يستشرنها في الأمور التي يحترن فيها ، الفتيات يقبلن رأسها ويديها ويطلبن منها الدعاء لهن بالزواج ، النساء يأتين بأطفالهن إليها لتمسح عليهم وتدعو لهم .
ـ فاطمة الحاج رأت الملائكة .
ـ فاطمة الحاج من أولياء الله الصالحين .
ـ ليت كل النساء مثل فاطمة الحاج .
ـ فاطمة الحاج دعاءها مستجاب .
فقد زوجها هدوء البيت وسكينته لكثرة الزائرات ، ضاق ذرعا بالنساء اللواتي يتوافدن من كل القرى ، فكر أن يترك لها المنزل ويغادر لكنه تراجع ثم أغلق بابه وطرد كل من جاءت إليها .
لم تمنعه ظلت صامتة ..
يتحدثون عنها كثيرا وهي في عالم آخر ، تدعو الله ليل نهار أن يصرف الناس عن الحديث عنها والثناء عليها .
مرت أسابيع وأشهر وسنوات ، جاءت أحداث الحرب ونسى الناس هذه القصة ، وحينها سعدت كثيرا فقد عادت لها الطمأنينة التي افتقدتها وعاد للبيت الهدوء ، وحين أيقنت بأن ما حدث لم يكن " خطأ " من الملائكة بل رسالة إلهية إليها زادت من استعدادها لتلك الليلة التي يأتي فيها أولئك الملائكة البيض الوجوه والثياب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى