إبراهيم الديب - حسين..

يقضي أكثر وقته علي المقهى في المناقشات مع اغلب روادها ،هو في الحقيقة إذا شئنا الدقة لا يناقش لسبب بسيط وهو أنه لا يستطيع أحد حتى وإن كان خطيب مفوه أو يتمتع بسلاطة لسان، أن يتحدث في وجوده ليس؛ لسعة علمه وقوة منطقه، فهو يعتقد أنه يتحدث ويناقش، ولكنه يخطب ويلوح بيديه وكأنه زعيم بصدد بناء أمة عظيمة أو قائد منتصر في أم المعارك.
حسين يعتقد أن لديه قدرات كثيرة معطلة يتمني وينتظر الفرصة لإخراجها من عالم الممكن، لدنيا الحقيقة والواقع ، أو من النظرية للتطبيق ، قدرات كثيرة بتعدد مواهبه، في السياسة، والرياضة وعلم النفس، والفلسفة، والاقتصاد والفكر وكل ما يمت للحضارة الإنسانية على مدار التاريخ بصلة.
فهو جنرال أو فيلسوف مقاهي من الذين تطلق عليهم العامة قبل الخاصة هذه التسمية: من باب السخرية و الاستخفاف , حسين يملك من وجهة نظره حلا لكل مشكلة ولو بدت لمن يناقشها: عويصة ,صعبة ,معقدة، فعند حسين رؤية، نافذة، و شاملة للحياة بكل تعقيداتها، و هو الغارق فى الفشل الأزلي ليوم يبعثون ،لما يخص شئون يومه، و حياته الشخصية، عنده يقين راسخ بأنه لم ينل يوما ولو قدرا يسيرا مما يستحقه في الحياة من تقدير ، كما أنه على قناعة تامة بأنه لا يستحق هذا الكم الغريب الرهيب من التجاهل بهذه الصورة من الدولة والمسؤولين، قبل أفراد الشعب وطبقات المجتمع الجاحدة، فقد وصل اخيرا التجاهل والاستخفاف به، من رواد المقهى الدهماء، الرعاع، الحاقدين عليه، فلم يعد يعيره أحد منهم أدنى اهتمام، أو يصغي للدرر التي تتخلل خطبه التاريخية العصماء في شتى فروع المعرفة الإنسانية، من سياسية وأدب وعلم اجتماع، واقتصاد فهو على دراية بكل صغيرة وكبيرة بالنسبة لكل هذه التخصصات.
لم يغضب من كل هذا الكم المهول من التجاهل كما غضب للسبب الجوهري والأهم الذي أصبح بسببه بائسا حزينا و هو أنه لم يعد أحد من الرعاع الدهماء الجهلة أثناء إلقاء خطبه عليهم يقوم نيابة عنه بدفع له ثمن مشاريبه، فهذه من وجهة نظره يعدها حسين جريمة كبيرة، بل هي أم الكبائر التي ترتكب في المقهى، وفي حقه في نفس الوقت هى جريمة بكل المقاييس لا تغتفر .
ولكن لا بأس فهم الجهلة من والدهماء والحثالة التي لا تقدر المواهب وليس لديها أدنى معرفة بالعباقرة النابغين أمثاله.......حسين ضحية قراءات مبسترة تافهة سطحية يأخذ معلومة من هنا وفكرة من هناك، أشياء مبعثرة متفرقة لا تسمن ولا تغني من جوع ليس بها عمق الفكر و لا تكون عقلا ،و لا تهذب نفسا و لا ترقي بإحساس . أصابته هذه القراءة بداء التوهم الثقافي ، قراءات لا تمكنه من الحكم الصحيح على نفسه وبتحديد رؤية واضحة تجاه الحياة والناس يتخذ على ضوئها قرارات صائبة تجاه القضايا ، أو تمكنه من سبر أغوار نفسه بصورة جيدة، حتى يعمل على أفضل ما يتمتع به من موهبة، ليحقق بذلك تصالحا داخليا مع نفسه ، فلو أنه أمتلك هذه الرؤية يصبح حكمه في هذه الحالة أقرب للصواب على المجتمع والحياة .
فهو لم يتعرض يوماً لتجربة عملية تكون محكا لقدرته على أرض الواقع ليكتشف نفسه علي ضوئها ،ليقرأ قدراته من خلالها فتجاربه وحياته تبدأ وتنتهي في ذهنه أثناء جلوسه على المقهى يشرب طلبات على حساب غيره، عيشته كلها خطب تاريخية سئمتها المجموعة تماماً.
لم يتوقف ذهنه وخياله المريض عن إنتاج الأوهام التي لا يؤمن بها ولا يصدقها إلا حسين نفسه ، متهما الجميع بالجحود والحسد لشخصه، وخاصة في مسألة رفضهم وإصرارهم الشديد عدم دفع ثمن مشروباته التي لا يكف عن تناولها ......حسين ضحية نفسه الموهومة بداء الثقافة .
بعد أن فقد صلته بالواقع، فهو الأن يلوذ بعالم من صنع خياله المريض، متهما الجميع بالجهل والتخلف فسلوكه الذي يمارسه تجسيد حي: لشريحة عريضة منتشرة ومتوغلة في نسيج المجتمع، على امتداد العالم العربي من المحيط للخليج.
حسين ما زال يجلس علي المقهى واضعا ساقا علي الأخرى في منتهي الكبرياء والشموخ والعظمة و يطلب مشاريب ، ويسب القهوجي ولا يدفع ثمنها ، ويدخن سجاير فرط شكك والله أعلم بالحساب ؟!.

ابراهيم الديب ،/مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى