محمد مصطفى العمراني - نظرات امتنان للثعبان!

لم يكن قد مضى على عودتنا من المدرسة إلا ساعة ، وحين وضعت مائدة الطعام سمعنا صوت الكرة تطن في ملعب المدرسة ، خطفنا بعض الطعام بسرعة ثم جرينا إلى الملعب كالمعتوهين .!
وهكذا كنا نفعل كل يوم .
نعود كل مساء وأقدامنا تنزف دماً وفيها الكثير من الكدمات والأشواك ، كيف كنا نستمتع ونحن نجري بعد الكرة حفاة في ملعب مليء بالحجارة والحصى والأشواك ؟!
نتشاجر مع الفتيان وفي العادة يتطور الشجار إلى عراك ويتوقف اللعب ، ثم نتصالح ونلعب ، تعاهدنا بصمت أن لا أحد يشكو الآخر إلى والده سواء كان ضاربا أم مضروباً ظالما أم مظلوماً .!
في ذلك المساء رغم تساقط قطرات المطر إلا أننا بقينا نلعب كأن شيئا لم يكن ، لم يلبث المطر أن هطل غزيرا ففرنا إلى منازلنا ونحن لا نكاد نرى الطريق أمامنا ، نتعثر ونقع ، ندوس على الأحجار والأشجار حتى وصلنا ونحن في حالة يرثى لها .!
أمي تضحك وتشمت بنا :
ـ حين تسمعوا الكرة تغيب عقولكم .!
وأضافت :
ـ ليت السيل حملكم وارتحت منكم .
صمتنا تماماً ، مبللين بالمطر من رؤوسنا إلى أقدامنا التي تنزف دماً ، كنت الأصغر أرتعش كعصفور ، رحمتني أمي ، خلعت ملابسي ونشفت جسمي وألبستني ملابس أخرى ، فيما ظل إخوتي يرتجفون دون أن يجرؤ أحدهم على تبديل ملابسه .!
بعد ساعة توقف المطر ، خرجنا ، السيول تتدفق من كل مكان ، المعلب تحول إلى بركة من الماء .!
في الجهة الأخرى حيث الوادي صعدنا إلى رأس الأكمة المجاورة لمنزلنا لنشاهد السيل الهادر وقد جرف الوديان والأشجار والسيارات ، جاء الناس من كل القرى يتفرجون على السيل الذي لم نر مثله طيلة عمرنا .!
أقبل الليل فهطل المطر مجددا ، الرياح تكاد تعصف بالأبواب والنوافذ ، وصوت الرعد يكاد يصم آذاننا ، بدأ سقف منزلنا الترابي يتشقق ويتدفق علينا الماء ، يتبلل كل شيء في الغرفة فنفر إلى الأخرى ، لم يصمد سوى الديوان الذي سقفه من الإسمنت ، احتمينا فيه ونقلنا أهم ما في البيت إليه .
حين توقف المطر كان منزلنا الأرضي قد تحول إلى بركة ، الأدوات تسبح فيها ، هجم علينا الخوف والجوع والبرد ولا ندري ماذا نفعل ؟!
قالت أمي :
ـ اذهبوا إلى بيت عمكم وبيتوا عنده .
ترددنا لكنها ناولتنا الكشاف صارخة :
ـ اذهبوا بسرعة قبل أن يعود المطر وينهار البيت فوقنا .
خرجنا نرتجف ، السيل ما يزال يهدر في الخارج ، الأضواء والصرخات من كل ناحية ، الكثير من البيوت تهدمت ، بعض الأشخاص ماتوا ، الدعوات تنطلق من مكبرات الصوت في المساجد :
ـ اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب .
الناس في رعب ولا يدرون ما الذي سيحدث ؟!
منزل عمي في رأس تل مرتفع ، بيت حديث مسلح من طابقين وحوله سور ، بقينا نتعثر وتغوص أقدمنا في الطين حتى وصلنا إليه .
حين وصلنا عند السور سمعنا شجار عمي مع زوجته ، يبدو أنهم في المطبخ فقد سمعنا الصحون والأواني تتكسر .
قال أخي وهو يضحك :
ـ هي ليلة سوداء ولن تعدي على خير .
طرقت باب السور لكن أخي أوقفني مازحاً :
ـ انتظر دعهم ينتهون من تكسير الصحون والأدوات .
وضحكنا ..
بعد دقائق من طرق باب السور ، فتح عمي النافذة وصاح :
ـ من يطرق الباب ؟
عرفناه بأنفسنا ..
ـ انتظروا سأنزل أفتح لكم .
في الباب وقفت زوجة عمي كأنها موظف تفتيش وصاحت بنا :
ـ اخلعوا أحذيتكم وادخلوا .
صعدت للطابق الثاني وصعدنا خلفها .
منظرنا مزري ، بدأ أخي يتحدث :
ـ سقف بيتنا تشقق من المطر .
ـ البيت تحول إلى بركة .
ـ كل الأدوات غرقت بين الماء .
ـ تركنا أمي وجئنا نبيت عندكم للصباح .
هز عمي رأسه :
ـ لا تخافوا ، ستأكلون وتنامون ، والصباح رباح .
قدمت لنا زوجة عمي العشاء ، ثم نادت عليه ، في البداية لم نتبين ماذا يقولون ثم بدأت أصواتهم ترتفع ، لقد عادوا للشجار مجددا .
سمعناها :
ـ أين ينامون وهم هكذا مبللين وملابسهم كلها طين ؟
ـ ينامون بأي مكان للصباح .
ـ خلاص يناموا بالدور الأرضي حتى لا يوسخوا الفراش .
ـ هي ليلة يا سعاد أرجوك .
توقفنا عن الأكل .
قال أخي الاكبر :
ـ قوموا هيا رجعنا .
انسللنا بهدوء وعدنا إلى البيت .
أمي تغرف الماء بالقدر وتسكبه بالخارج ، ساعدناها ثم تجمعنا كلنا في المجلس الذي لم يغرق بالماء .
رغم كل ما حدث فقد ظلت أمي تمضغ القات وتحدثنا وكأن شيئا لم يكن .!
كنا نتحدث وفجأة سقط ثعبان من السقف ، صرخنا وتفرقنا لكن أمي ضربته بالعصا وقتلته ، ثم وضعته برأسه العصا ورمت به من النافذة .
بعد نصف ساعة سقط ثعبان آخر ، تسمرنا على الجدار من الرعب ، هذه المرة لم تتحرك أمي ولم تقتله ، تركته يمضي من أمامها بهدوء ثم خرج من النافذة .
بعد ساعة عاد الثعبان من النافذة ثم دخل في الجدار ، حاولنا إخراجه بالعصا لكنه أختفى تماما .!
ورغم خوفنا من خروج الثعبان فقد تمددنا ونمنا ، لقد كنا في غاية التعب والإرهاق .
في الصباح صحوت على يد أمي تهزني بلطف وتشير إلي بأن لا أتكلم ، أيقظتنا بهدوء وحذر ، لقد كان الثعبان نائما بيننا ، بعد خروجنا بدأت تتحدث ، حينها خرج الثعبان من الباب وغادر المنزل بهدوء ونحن ننظر إليه بامتنان بينما نتحاشى مجرد النظر إلى منزل عمي الذي في أعلى التل .!
*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى