مارا أحمد - نيلوفر

إلى وقتنا هذا لا أمل من التنقيب عن المعنى والمغزى من وجودي، ومعنى مفردات كثيرة كم قرعت ضمائرنا وأصمّت أذاننا ...

كنت في السابعة حين اختبرت الفقد، وأفلت من بين يدي البيت، وتناثرت أطلاله هنا وهناك. لست شابا؛ بل فتاة نبتت بداخلها الأنوثة والفتنة التي رأيت سحرها في نظرات الرجال حولي. أصيبت أمي بلوثة عقلية وتفننت في تعذيبي، وكأنها تعاقبني على نزع الحياة منها أنا المنكوبة بأمومتها ويتمي، حملتني أوزار اختياراتها، هي التي استسهلت الطريق بالزواج المبكر بأول رجل تقدم لها حتى لا تعاني من المذاكرة والالتزام في صف التعليم، وتقرر أيضا وبكامل حريتها أن تنجبني حتى تقيد اختيارات أبي، ويلي وجودي في الحياة إنجاب أختيَّ الاثنتين، ويهرول أبي ويتعثر ليوفر لنا متطلباتنا واحتياجاتنا لأجل العيش، فيُقتَل في حادثة سيارة وتهرب تاركة له على الطريق ليكتشف موته بعض المارة فجأة، وحتى بعد موته رفضت أن تتعب وتتحمل مسؤوليتنا واكتفت بالعويل والصراخ وتسول الخدمات والإعانات وحين كلَّ منها القريب قبل البعيد،

وجهت جل لعناتها إلىَّ؛ لتلفت نظري أن هناك الأقل مني جمالا وقد تمكنَّ من توفير المال لأسرهن وأنا عالة عليها وعلى البيت بل والدنيا، سألتها:

- ماذا تريدين مني أن أعمل؟ أنا ما زلت طالبة بالصف الأول الثانوي.

- لا أعرف، ولكن أكيد لك معارف وأصدقاء يستطيعون توفير فرصة عمل لك.

- ودراستي؟

- الدراسة أهم أم إطعام أخواتك؟

- ولماذا لا تعملين أنت كما باقي الأمهات؟

- أنا أرعى أخواتك والبيت وإن خرجت من سيتولى رعايتكم؟

- كم من أمهات عاملات ويوفقن بين بيوتهن وعملهن.

- ولماذا أعمل وأنا لي ثلاث بنات، لماذا ننجبكم إذن؟

- هل أنجبتني وأخواتي لنكون كما الرقيق لك؟

- هل حين تطعمين أمك وأخواتك ستكونين عبدة؟

بعد عدة تجارب في العمل بالمحلات كبائعة وأحيانا عاملة نظافة، ولم أسلم من التحرش والغزل والإغواء، قررت أن أعمل بأحد الملاهي الليلية.

وبالفعل ذهبت إلى هناك وطلبت مقابلة مدير الملهى الذي طلب مني أن ألف وأن يشاهد رقصي، وكان هناك تعليق منه: "أنت قصيرة، ولكنك فاتنة، وهناك الكثير من الرجال الذين يجنون بمثل حجمك وصغر سنك، ستكونين راقصة مختلفة ومميزة، أجد أنك تتقنين بعض الحركات المثيرة بالسليقة؛ فأنت أنثى من صنع الإله بلا تدخل من يد بشر.".

وكانت ليلتي الأولى أصعب ليلة في حياتي، وكان لا بد من أن أتجرع كأسا من النبيذ حتى أتجرأ على مواجهة الجمهور، ونجحت بشكل أسعد مدير الملهى ليطلب مني أن ألحق به على مكتبه،

لأتفاجأ بعقد عمل لمدة خمس سنوات وبشرط جزائي مئة ألف جنيه، وراتب شهري لم أكن أحلم به يوما ونسبة من المرافقة والمشروبات.

هكذا دخلت من باب خلفي للحياة يرفضه المجتمع الذي سنَّ ثقافة وقوانين تكبل فرصك في أن تعيش، وتوفر لك فرصا أخرى متنوعة ورائعة للانحراف.

وكأنها لعبة الغميضة؛ أنت تختبئ ونحن نفتش عنك وإن أمسكناك خسرت.

وحانت ليلة جديدة وكان هو بطلها؛ جلس في مائدة خاصة به وحده في الركن الأيمن وشاهدته يتأملني، يلف بعينيه ليحوطني كمن يلفني بعباءة ليمنع عني التعري، تلك العباءة كانت عينيه،

لم يتأمل جسدي كما يفعل رواد الملهى وأنا لم أشاهد أحدا غيره في تلك الليلة؛ كنت أرقص على دقات قلبي وكانت ساقي تتحرك كما الغجرية بخلخالها النحاسي لتعلن عن وجودها لحبيبها.

انتهت الرقصة وعدت إلى غرفتي لأبدل ملابسي، وإذا بدعوة منه أن أرافقه في تناول العشاء على مائدته، وافقت.

وكان اللقاء الأول، قاسمته بعض الكاسات، وعرض عليَّ أن يقوم بتوصيلي إلى بيتي، قبلت وركبت معه السيارة، وكنت أردد أغنية بصوت ماجدة الرومي: "يسمعني حين يراقصني."، لاكتشف في تلك الليلة أن صوتي جميل.

وجدتني معه بحجرة في أحد الفنادق الكبرى، كنت وطوال سنوات عمري التي كانت بعد في طور الصبا، أتذوق الجمال ويصيبني الحزن إن امتدت يد لتفسده، أضيق بقطع شجرة أو بنزع زهرة أو بضرب قطة أو أي حيوان لاحول له ولا قوة.

كنت أتمنى لو كان بيدي الصلاحية والحق أن أعاقب أي أب أو أم ينجبان طفلا ويتسببان في وجعه أو إهانته. ليتني أتمكن من صفع من يلقي بقمامته في حديقة أرضها خضراء وبركتها مسكن لأسماك جميلة.

وحين طلب مني أن أرقص على أغنية لأم كلثوم في الملهى، رفضت أن أفسد الجمال وأن يتناوله رواد سكارى كما يتناول العنب بعد إفساده خمرا، أو كمن يتناول السمك الطيب بعد تعفينه فسيخا، رفضت أن أشارك في إفساد جمال أبدعه فنان.

وكنت أدرك أن جسدي فن، نحته أجمل فنان، ولن يليق أن أفسده بلمسة من سكير لا يفرق بين جسدي ووسادة يحتضنها.

ولكنني كنت في هذه الليلة في حالة عشق، تأملني في فستاني الأزرق ذي الكريستالات المضيئة، وقال:

- فينوس أنت.

- لا، بل أنا نيلوفر.

- من نيلوفر؟

- زهرة نبتت رغم الطبيعة في ماء النيل، كما وأنها تخفي أسراره، ورغم أنها ناعمة إلا أنها أقوى الزهور وأكثرهم مقاتلة لأجل الحياة.

- بل أنت أزاليا؛ تلك الزهرة الصغيرة ورقاتها، ولكنها بديعة الشكل؛ تستمتع بها من بعيد، فإن اقتربت نالك منها الموت. وأنت قصيرة، دقيقة الملامح، ناعمة، ولكنك خالدة؛ أنت ربة الراقصات، أراك إلهة كما فينوس.

أنت منذ الليلة أزاليا، الراقصة أزاليا، بل الإلهة أزاليا.

- راق لي الاسم، ليكن.

- تعالي في حضني؛ لألتمس بركاتك أيتها الربة. لا، لا يجوز أن ألمس جسدك الطاهر، فأنا في حالة غياب ولا تقبل صلاة من ثمل.

- دعنا ننام وفي الصباح نكمل حديثنا.

في الصباح، فتحت عيني لأجدني على الفراش، ووجدته نائما على الشيزلونج، نهضت لأقبله في رأسه وهناك صراع في داخلي: هل أواصل اليوم معه أم أنصرف؟ قلبي يطلب مني البقاء وعقلي يأمرني بالانصراف، ولكني أريده؛ أتمنى لو أستغل ضعفي وعطشي إلى لمسته ورحنا معا في نشوة الحب.

لملمت حذائي وألقيت بالوشاح على كتفي ونزلت، طلب لي الحارس سيارة أجرة وانصرفت إلى بيتي، كانت تنتظرني في الصالة؛ حاولت أن تمارس دور الأم وتسألني: أين كنت؟

أجبتها بأنني كنت مع رجل في أحد الفنادق ودفع لي أجرة الليلة، وألقيت بحفنة من الدولارات في وجهها، كان جل رغباتي أن أجبتها بأنني كنت مع رجل في أحد الفنادق ودفع لي أجرة الليلة، وألقيت بحفنة من الدولارات في وجهها، كان جل رغباتي أن أوجعها وأشعرها بالعار، ولكني كنت أوجع نفسي معها.

أخذت حماما وارتديت بيجامتي ودخلت غرفتي المكيفة ونمت، كنت أتقلب في فراشي بحثا عن ذراعه، اتشمم عرقه وألقي بشفتي فوق شفتيه، لأجد برودة الوسادة لا شفتيه.

صحوت وهناك رغبة تلح عليّ أن أسجل صوتي في أغنية، سجلت أغنية رددتها فتاة تعمل بالملهى معي، وجدتني لا بأس بي، بل صوتي كان مختلفا.

بعد أن تناولت فطوري الذي أعده لنفسي، ذهبت لأجل بروفات الرقصة الجديدة، وجدته هناك في انتظاري؛ يجلس مع مدير الملهى، رافقتهم الجلسة وتناولت فنجان قهوتي، استأذن المدير في الانصراف للاستعداد للبروفة؛ لانفرد به.

- ما رأيك أزاليا أن تعملي معي في فندقي؟

- أمصمم أنت على أزاليا؟

- رغم أنني أثمل، ولكن لا أنسى ما أقرره حينها، وأنا لا شك أذكر يا إلهة الراقصات بأنك أزاليا.

- لا بد أن أنهي عقدي هنا أولا؛ فهناك شرط جزائي بمبلغ غير متوفر معي الآن.

- أعرف، سوف أسدده عنك، فقط اقبلي.

- لكن، سأعمل كمطربة؟

- هل تعتزلين الرقص؟

- بل أعتزل خلع الملابس.

- أنت تمارسين فنا جميلا أزاليا.

- هل عمرك رأيت سكرانا يتجول في أتيليه لمعرض رسومات أو يعي الإبداع في تلك الرسومات وهو غائب عن الوعي؟

لا غائب عن الوعي يبحث عن الجمال، بل يبحث عن إشباع غريزته التي يناصفها الحيوان.

وأنا أريد أن أعيش مع الفائقين لا السكارى، لتسمع صوتي، إن راق لك اقبلني كمطربة، وإن لم يعجبك، فأجبر أن أعمل في الليل كما الخفافيش في الكهوف المسماة بالملاهي الليلية.

غنّت وحررت صوتها من سلاسل الخجل، وكانت كما حورية نزلت من السماء، صفّق لها كل من كان بالمكان عمالا وراقصين.

- لنكتب عقدا لك كمطربة، بل كفنانة استعراضية، تغني وتؤدي رقصات.

- لا بأس؛ طالما سأكمل لوحة.

أذكر الآن كل ذلك بعد أن صعدت سلم الشهرة ولمعت كما نجمة في سماء الفن وقراري أن أعتزل تلك السماء الوهمية لأهبط أرضا ألمس ترابها وأختلط بأرصفتها، وأرتاد بيوت الأيتام؛ ألاعبهم، وألتمس الدفء في أحضانهم، أسافر إلى القرى البعيدة لأقدم خدماتي لفقراء يتجرعون الماء بالطين.

فمنذ أن غادرني رفيق الفن وسندي ومنقذي من أظافر الغواية ذلك الذي رفض أن يجبرني

على أن أقاسمه جنونه ومنحني ثروته وغاب؛ سافر بعيدا ولم أعد أراه، لا أدري: هل فارق الأرض وصار نجما يراقبني؟ أم صار شجرة كافور تمنحني الظل والعطر؟

أشعر به حولي، أراه في الليل حين أجتمع والحلم في مكان أو عدة أماكن، صار الليل رفيقي، أعيش حياتي به، وأمارس إنسانيتي في النهار، في حالة انتظار له دائمة؛ لقد منحني بعضا من ثروته وغاب، ليته منحني قلبه وبعضا من مساحة حياته.

أما أمي، فاكتفيت أن أضعها في بيت بخادمة، أمنحها ما يكفيها من مصروفات وكذلك أخواتي.

هل تصدقون أنني حتى تلك اللحظة ما زلت عملا إبداعيا لم يفسده ذوق لكائن عفش، ما زلت جسدا بكرا وروحا في ولادة مستمرة؟! لم يكن لي من اختيار في أن أخلق، ولكني اخترت ألا أتسبب في إفساد جمال.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى