فاتن فاروق عبد المنعم - عودة فنانة

وحدها ترقب الوقت الرتيب، أقلتها الذكريات إلى نقطة البداية وهي تتحسس الخطى في دربها المكتشف حديثا لطفلة في السادسة من عمرها رآها مخرج إعلانات مع أمها بالنادي أعجب بها وطلب من أمها أن تعمل ابنتها معه بالإعلانات، مازال لمعة عيني أمها ببريق الفرحة ماثل أمامها وصوتها المتهدج وهي تبلغ كل من تعرف، وفرحتها وذويها برؤيتها لأول مرة بالتليفزيون، بل كل مرة حتى صار هذا هو المعتاد لها، ومع حلول أمارات الأنوثة والشباب في جسدها ليحدثا بها ما أبهر العيون بجمالها الأخاذ، فأحاط بها كل ذي هوى في قلبه كالفراش المبثوث ما جعلها سريعا أن تلحق بقافلة فن التمثيل، كانت في الثامنة عشر من عمرها ومع العمل بالتمثيل ازداد بريق نجمها في التألق، ومن بين الذين انبهروا بها فنان تشكيلي كان ضمن فريق العمل الذي يراها كل يوم أثناء التصوير، وسريعا تطورت علاقتهما فاستعرت نار الغيرة بينهما بنفس القوة، ولكنه كان أكثر غيرة عليها، جمالها المتمرد جعل الكثيرون يراودونها عن نفسها فكاد أن يصاب بالجنون، فسارع بطلب يدها للزواج. وتأرجحت رغبتها بين الموافقة على الحبيب الذي تنشده، وبين الفن التي تكاد تعبده، وتخاف أن يصبح موضع الخلاف المشتعل بينها وبين حبيبها الذي أكد لها مرارا وتكرارا أنه لا يمانع في اشتغالها بالفن، ولكن المقربين منها قالوا لها لا يغرنك أنه الشاب الوسيم الذي تخرج من الجامعة الأمريكية، فهو بداخله فلاح لا يختلف عن جده التاسع في أي شيء، وأن ما تراه عيناها قشرة هشة سرعان ما سوف تزول ويظهر وجهه الحقيقي، لن يقبل بملابسها الساخنة ومشاهدها الأسخن، ولا كلمات الثناء من المنتجين والمخرجين والمعجبين الذين لا يكفون عن إسماعها بها، ولكن سلطان الحب تغلب، وسارعت مع حبيبها يرتشفان كؤوس الطلا، وكلما شربا رغبا في المزيد.
كان زوجها حريص على أداء الصلوات في أوقاتها بينما هذا الأمر كان شاقا جدا عليها، فلا يمكنها البتة هذا الفعل، فقد نشأت في بيت لم يكن والدها يصلي سوى الجمعة أما أمها فكانت تصلي في رمضان فقط، ولم يهتما بغرس وتغذية هذا الجانب في أبنائهما، فكانت تضيق بإلحاح زوجها عليها بضرورة الالتزام بذلك وهي ترى استحالة تنفيذ هذا الأمر خاصة أثناء التصوير، فيمر اليوم بالكامل لا تصلي سوى فرض واحد الذي يصادف تواجدها بالبيت، رغم صدق ما تقول ولكن للنشأة الدور الأكبر في ذلك بالإضافة إلى أنها تبطن الخوف من عزوف المنتجين والمخرجين عنها إذا استشعروا إلتزامها بآداء الصلوات في وقتها، خاصة أنهم يكظمون استنكارهم لها لأنها لا تشاركهم مجالسهم بكل مقتضياتها.
على الجانب الآخر زوجها الذي يترمض بنار الغيرة التي يكظمها كثيرا ولكنها سرعان ما تعبر عن نفسها ليستشيطا غضبا معا ثم يقوم حبهما برتق ما تفتق، ولكن الفتق اتسع على الراتق وكان ولابد من وجود بديل أقوى منه، فأكثر زوجها في جلساتهما من الحديث عن الفنانات المعتزلات وأقوالهن عن أسبابهن وحيثياتهن في الاعتزال، فتصاب هي بالضجر والضيق ويعلو صوتها بالقول، أنت تلمح إلى شيء لن يحدث، يعود أدراجه بخيبة أمل ترسو في أعماقه، يلجأ إلى الإلحاح في رغبته في الإنجاب المؤجل منذ خمس سنوات ربما كان الطفل بوابة المرور إلى مبتغاه، فابتدأ الحديث بموافقته على أن تقوم أمها على رعايته لتتفرغ هي لعملها.
استجابت لحثه لها وانجبت ولد وبنت توأمين فشعر كأنهما طوق نجاة لأسرته، ولكنها بعد الوضع بثلاثة أشهر بدأت بعمل خطة لاستعادة قوامها الذي كان والحديث عن خطط العودة لعملها، ومع خيبة أمل زوجها كانت، هي ودون أن يدرك هو تستمع للفنانات المعتزلات عبر يوتيوب وأصبحت تستمع للشيوخ وتقرأ في الفقه حتى اكتشف زوجها فاعتبرها خطوة أشعلت شموع الأمل داخله فلم يعد يتبقى سوى خطوة واحدة لبلوغ الجنة على الأرض، وهو المرابط الصابر المحتسب كي يبلغها بهدوء ودون إجراءات تعسفية، ولكن ما يراه على الأرض أنها ذهبت خارج مصر لتشتري ملابس الفيلم الجديد التي تعاقدت معه فعادت خيبة الأمل تجره إليها مرة أخرى ولكنه سرعان ما بث الأمل في نفسه مرة أخرى وعندما شرعت في النزول مع وصيفتها التي تقوم على العناية بملابسها بمواقع التصوير قال لها أذكرك بأنك الآن أم لولد وبنت وسيرون يوما ما أمهم على الشاشات فاحرصي على أن يريا منك ما يسرهما ويشرفهما بين قرنائهم.
تجهمت وأصيبت بالوجوم وغاب الحماس الذي كان يحركها دونما اعتراض منها ومضت بخطى ثقيلة، كانه قال ما كان غائبا عنها وظلت كلماته تطن بأذنيها مع ما سمعته من الشيوخ وهذا ما لم تحسب له حساب مما أثر على آدائها حتى شكى المخرج والعاملون معها من حالة "التوهان" التي تعانيها على حد تعبيرهم، فغادرت المكان مسرعة ومعها رمادية المنطقة التي تحتلها ليحل بها لون آخر أكثر وضوحا، لا غموض فيه ولا ارتياب عازمة على فعل السابقات عليها في الاعتزال، من البقاء كزوجة وأم مع الحجاب والالتزام الديني ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، سجد زوجها لله شكرا مع بكائه وقوله هذا ما كنت أأمله منذ أن رأيتك، احتضنته ممتنة.
ولم يتركها ربان سفينة الفن من منتجين ومخرجين تمضي في هدوء وإنما ظلوا يرددون على مسامعها ليلا ونهارا، أنت تدفنين نفسك حية، الحجاب يطفيء المرأة، يقضي على جمالها بل ويورث عقلها الغباء والبلاهة، ولا دليل على صحته، كيف تكونين فنانة مليء السمع والبصر وبين يوم وليلة تصبحين أثرا بعد عين، تمضين من أفول إلى أفول، ومن ذبول إلى ذبول، كلها سنوات قليلة أقل من أصابع اليد الواحدة وتصبحين كما مهملا عند زوجك والمجتمع وتجلسين وحدك تجترين أحزانك، وإن واتت زوجك القدرة على الزواج بأخرى سيتزوج بأخرى غير آسف عليك، شيوخ السلفيين هم من أورثوك هذه الأوهام، الشارع مليء بالمحجبات، هل كل هؤلاء فضليات وما عداهن بائعات هوى.
قابلت نفثهم بالصدود تلو الصدود، ونما إلى سمعها ما يقال في مجالس النميمة أن زوجها هو السبب، لأنه فلاح لا يقبل بنجومية زوجته فتوارى خلف الدين وهي من بلعت الطعم، أغلقت على نفسها الباب راضية مرضية، ولكنها لما رفضت رسل الشيطان، جاءها بنفسه كي يوحي إليها زخرف القول وردد في نفسها أقاويلهم ولاقى لديها موضع مهتريء يستطيع منه النفاذ إليها ألا وهو حبها للظهور الذي مازال يؤرقها فيورثها كدرا يقيم سرادقه في قلبها، وهي تقاوم باللجوء إلى الله طالبة الثبات، جنود إبليس لم يملوا طيلة أربع سنوات يتحلقون حولها بينما تعاملت هي معهم كهمل سقط متاع، ولما لا وهم الذين كانوا يتكسبون من خلالها الملايين، ثم سكتت الأصوات يأسا فاتخذوها هملا غير مأسوفا عليها، عشر سنوات في الظل والهدوء الذي شملها وأسرتها، بدت في هيئة الملتزمة الراغبة والطالبة لرضا الله، حتى استمعت لمسوغات فنانة أخرى عادت من أفولها لتصعد سلم المجد كي تقبع بين الثريا مرة أخرى، ألا وهي أنها جلست بالبيت تعد سنوات عمرها انتظارا للموت هل الدين يدعونا لفتح قبورنا بأيدينا؟! فضلا عن نضوب معيني المادي حتى أصبحت تكاليف الحياة العادية صعبة عليها، ولم يكن أمامي سوى العودة إلى الحياة لأنني بالفعل كنت من الأموات، ثم من قال أن الفن حرام، الفنانة هي التي علمت السيدات كيف تختار ملابسها، كيف تتحدث، متى تصمت، كيف تكون سيدة مجتمع، الفن هو من جعل للمصريين قيمة، الفن هو الذي هذبهم ونظفهم ونقلهم من القاع إلى القمة، الرقي بأنواعه، والمتعة، وتسليط الضوء على قضايانا ومشاكلنا، وتم استصدار قوانين نافعة للمجتمع كله بعد تناول فئات المعدمين والمهمشين، كل مهنة بها الجيد والسيء وكل منا يختار طريقه الذي يمضي فيه، فلا احد يجبر أحدا على شيء.
لأول مرة تفتح قلبها لصوت مغاير، يملك من المنطق والحجة ما قض السكون وإحالته إلى ضجيج لا يهدأ داخلها، في صحوها ونومها، في اضطجاعها وسيرها، وبدأ الشيطان يعاود التلصص حتى استمع إلى ضجيجها فوجدها فرصته التي لا يجب أن تنسل من بين يديه، فعاد للظهور وعاد عليها ما قد قيل من قبل، وأنها من الممكن أن تكون فنانة وعلاقتها بربها شيء يخصها فلا رقيب عليها ولا أحد يمتلك مفاتيح الجنة والنار، وكل ما تعتقده أقاويل وتفاسير شيوخ السلطان أصل لها المنتصر سياسيا كي يبقى منتصرا.
أخذت تقلب عينيها بين ما كان منها، فنانة مليء السمع والبصر يشار لها بالبنان، تتهرب من صخب الجمهور والنقاد والصحفيين والإعلامين، وبين وضعها الآني، تمضي لا أحد يعرفها ولا يتلفت لها، فإذا ما قارنت نفسها بأخرى لم تغب عن العيون استشعرت الفارق الرهيب الذي أورثها وخزا يعاودها من آن لآخر، فقالت لنفسها لابد من المواجهة، أنا عائدة وبقوة، يبقى الجهر بهذا فبدأت بزوجها الذي صدم وعجز عن بلع ريقه الجاف، يكاد لا يصدق أنهما عادا إلى نقطة الصفر مرة أخرى، فأخذ يلقى على سمعها ما قد قيل من قبل من الحرمة الدينية وعن ما يستتبع قرارها هذا من طلاقهما وأخذ أطفالها منها ولكنها تمسكت بما قتلته تفكيرا وبحثا.
خرجت من بيتها مهرولة كمن خرجت من السجن، لم تلتفت ورائها ليغشاها دموع زوجها المتحجرة في عينيه ولا التي تسارعت تشق طريقها على وجنات ابنيها، كانت تسرع الخطى إلى بيت أبيها الذي توفى ولم يتبقى بهذا البيت سوى أمها التي استقبلتها محتفية بها، تعاضدها وتساعدها في عودتها قوية متألقة كما كانت وفتحت بابها للصحفيين والمذيعيين التي جلست بين أيهم تروي لماذا اعتزلت؟ ولماذا عادت؟ فتعللت بأسباب كثيرة واهنة تغزو أسماع المتضعضعين.
أعادت أمها معها الاتصال بمختلف ربابنة سفينة الفن كي يفتحوا لها الأبواب، فتحوا الأبواب الموصدة ولكن بحساب، فمن غابت لعشر سنوات تريد العودة بقوة، والقوة تعني أن تنتج لنفسها أو أب أو أخ ينتج لها، وهذا ما يعني غياب سند قوي يدفع بها، وهذا أيضا يتطلب أن تدفع بها أيادي الربابنة على تنوعهم في ظل كثرة المعروض اللاتي تأملن في النجومية التي يدفعون لأجلها كل شيء، وهو الشيء الذي امتنعت عنه في بداياتها فقد كانت قشيبة المكون والتفاصيل التي كانت سببا في بروز وثراء من كان يتحسس الخطى أو في أول درجات السلم، ولكن بعدت عليها الشقة ونسيها المعنيون، فماذا عليها أن تفعل؟ هل ليس أمامها سوى فعل ما فعلت الفتاتين مع أشهر مخرجي مصر؟ تنزعج ويقشعر بدنها من مجرد حتى التفكير، فتحجم ولا يغيب عنها قول زوجها يظل الباب مفتوح بيننا ما لم تذهبي لهذا الكائن.
وعلى الجانب الآخر راودها الربان عن نفسها فأبت فلم يعطها سوى دور ثانوي في مسلسل، قبلت على أن تلفت الانتباه لها مرة أخرى، ولكن مرت الشهور تلو الشهور حتى تخطت السنة دون الحصول على البطولة التي تتطلع إليها، والبطولة والنجومية لن يمنحها المخرج الشهير ما تتطلع إليه ما لم تفعل مثل السابقين عليها، ظلت التساؤلات بينها وبين أمها عالقة دون إجابة إلا من نظرات داعمة دافعة من أمها التي ترى أن ولما لا؟! بينما هي تخاف ما ستتسبب فيه لأبنائها، ثم كان الإلحاح من كثر حولها نصحوها بالانصياع فلا سبيل لها للعودة بقوة سوى تفتيح المخ، فتعدت مرحلة الرفض المطلق وأصبحت في مرحلة ما قبل الموافقة التامة، فطلبته أكثر من مرة فلم يرد، وتركها حتى تبلغ تمام النضج فتصبح كالمتعطش الذي لم يتبقى له سوى التنفيذ، وهو الذي لم يتعود الرفض بل تعود على أنه المطلوب دائما.
بعد عدة أيام طلبها قائلا، طلبتني أكثر من مرة ولكن كنت مشغول.
دون مقدمات تقول: عايزة عودة قوية، بطولة مطلقة في فيلم يكسر الدنيا.
يضحك وهو الخبير الذي استبطن موافقتها فقال: العقل زينة، ثم أعطاها الميعاد الذي تذهب فيه إليه.
عاد التردد ينازعها ويثقل خطاها، كأن في قدميها أطنان من صخور تعيق حركتها، قاومت حتى انتزعت نفسها من براثنه وأسرعت إليه، قابلها ببرود الذي يحتقر رفيقته، فتأهب لها عاريا لتقوم هي بالامساك بزمام المبادرة كاملة باذلة مهاراتها الطبيعية والمكتسبة كي يبلغ بها أقصى درجات المتعة، حتى إذا أتمت فعلها بالتمام وحصل على كامل متعته من الشراب ومنها، نزع عنه الشراب كل ما يمكن أن يتوارى خلفه فأصبح عاري الفكر كما هو عاري الجسد، وفاض لسانه بالصدق الذي يغيب عنه في وعيه بعد أن رأى تجهمها وهي تتطلع إليه وإلى نفسها وهما عاريان تماما كأن الندم يعبث برأسها وهو بعينيه المثقلتين من كثرة الشراب يرنو إليها فعلم بخبيئتها فقام محاولا الوقوف على قدميه اللتان تكادا لا تقويان على حمل جسده الذي يحاول الوقوف، وأمسك بيدها جاذبا إياها إلى الشباك يزيح الستار المسدل بعد انقضاء ليلتهما كما أراد وقال بلسان أثقله الشراب وثقلت عليه الحروف كما الكلمات:
إنظري، هذه سينما تعرض آخر أفلامي، وهؤلاء الذين يصطفون مزدحمين لشراء التذاكر، ومنهم من يعود أدراجه لأن التذاكر نفذت، هؤلاء بسمت الملتزمين بتعاليم الدين، حجاب، بعضه مفتعل، وبعضه ضافي، وزبيبة، يقفون صف للرجال وآخر للنساء، هؤلاء يستنكرون فعلنا الذي كان منذ دقائق وارتدوا ثوب الفضيلة باللفظ والملامح عندما شاهدوا الفيديو الشهير لي مع الفتاتين، هؤلاء أسوأ مني، لولاهم ما استمر فعلنا، لو لم يذهبوا لشراء التذاكر ليشاهدوا الفيلم الذي خرج من بين يدي لما استمريت أنا وأنت، لولاهم لكنت الآن موظف في أي قطاع حكومي أو خاص، وبعد الظهر أعمل على توك توك لسد حاجيات أبنائي، لولاهم ما كنا، لذا فنحن جميعا شركاء، شركاء في الإثم، وشركاء في الإدانة، وإذا شملنا الله بعقاب من عنده سيكون العقاب جماعي ولن يستثني إلا من صدق إيمانه وصدقه عمله أيضا، فهوني على نفسك ولا تحملينها أكثر مما تطيق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى