مقتطف محمد الدويمي - من رواية: "جرادة... بقايا أيام متمردة"..

كان الوالد يوقظني كل يوم عقب رجوعه من المسجد بعد أداء صلاة الصبح..
أقصد الجامع وأنا أغالب النوم والغلس..
أُقبّل يد الفقيه الذي يتربع بهيئته الموقرة الجليلة على سجادة صوفية في مكان يتيح له مراقبة "المحَّضْرَه"..
أجلس حيث ينتهي بي المجلس..
أعانق لوحتي الخشبية..
أشرع في تهجّي ما كتبته سابقا استعدادا لاستظهاره على الفقيه..
كنا نجلس على شكل هلال مفترشين حصيرا من الحلفاء..
الأولاد في المقدمة والبنات في الخلف، مُمسكين الواحنا المزيّنة بالحروف الذّهبية المخطوطة بـ "السّْمَقْ"..
بين الفينة والأخرى يقف الفقيه ملوحا بسوطه في الهواء، وصادحا بصوته الجهوري الذي يملأ أركان الجامع، ويبعث الحماسة في نفوسنا..
تتعالى أصواتنا كطنين النحل، ونصْفُنا العلوي يتمايل إلى الأمام والوراء في إيقاعات منتظمة وبوتيرة واحدة..
بينما نحن منهمكون ذات مرة في قراءة جماعية، استغل "مْبارَكْ" انشغال الفقيه فنهض بهدوء وغادر الجامع بخطى خافتة..
لم ينتبه الفقيه لخروجه.. لكن أحد زملائه وشى به، فأُصدرت الأوامر بالبحث عنه أينما كان وإحضاره.
تطوع اثنان من "المَحّضْرَة"..
انطلقا خلْفه يتعقبان أثره..
كان صاحبنا مولعا بقنص العصافير..
يقضي غالب وقته في مطاردتها باحثا عن أعشاشها بين الأشجار وأعمدة الكهرباء...
من خلال تغاريدها يعطيك نبذة عن أسمائها وأقواتها المفضلة وأنواعها...
لقّبناه "الدَّسِّيسْ" نسبة لأحد أنواع الطيور...
بعد مغادرته الجامع، قصد "مْبارَكْ" الرّحى حيث ينصب الفخاخ والشِّراك للعصافير التي تجتمع لتقتات من مخلفات الطحين وبقايا الحبوب.
بينما هو يراقب حركاتها، انقضّ عليه الاثنان.
حملاه قسرا وعنوة إلى الجامع.
لم تنفعه توسلاته وصراخه.
تقدم الفقيه نحوه بتؤدة.
سأله :
- فينْ كُنت؟
- كنت ف...ف...ف...الرّحى.
- تْصَيَّدْ "الزّاوَشْ"...
- لاّ يا سيدي...(كنّا نخاطب الفقيه ب"سِيدِي" تأدبا)...
- اسكتْ... يا الْكذّابْ!...
- والله أسيدي م...ك...ن...كْ..ذَ...ب.
ك...ن...ت....
نفذت بطّارية صاحبنا، استهلك كل مخزونه من الأعذار والمبررات التي يمكن أن تشفع له وتدفع الفقيه لتغيير رأيه...
وجّه الفقيه أوامره المطاعة:
- حَمْلّوهْ؟؟
انقض عليه الاثنان دون رحمة أو شفقة..
طرحاه أرضا..
أحكم أحدهما قبضته على يديه بحيث لا يستطع معها الإفلات..
شدّ الآخر على رجليه بقوة ورفعهما مجتمعتين إلى أعلى..
استسلم صاحبنا بعد أن أنهكته المقاومة وأعياه التوسل..
توالت الضربات بالسياط على رجليه..
تعالى صراخه الذي لم ينفعه في شيء..
بعدما أشفى الفقيه غليله، أشار إلى الطاقم المساعد له بإخلاء سبيله ثم خاطبه:
- تْعاوَدْ تهْربْ من الجامع؟
- والله ما نْعاوَدْ أسيدي!!!!
تُرك "امْباركْ" شبه جثة ساكنة يسبح في حمّام من العرَق والدموع..
لم يستطع تحريك رجليه اللتين انتفختا واحمرتا من شدة الضرب..
انزوي إلى ركن من الجامع يجفف عرقه ودموعه ويحاول جاهدا تدليك رجليه في محاولة لتحريكهما.
الْتَفت إلينا الفقيه مزهواً، وآثار الانتشاء بالنصر بادية على محياه..
تحسسنا مذعورين لوحاتنا الخشبية، وانطلق كل واحد منا يتلو ما كتب عليها وأصواتنا تتعالى كطنين النحل، ونصفنا العلوي يتمايل إلى الأمام وإلى الخلف بتلك الطريقة النمطية التي ألفناها خشية أن يصيبنا ما لحق "مْبارَكْ" خاصة وأن الفقيه كان على ما يبدو مستعدا لجولات إضافية من "الفلقة"...

محمد الدويمي
* من رواية: جرادة... بقايا أيام متمردة..





362223403_3402844990043848_2533637814097722883_n.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى