مارا أحمد - حوائط باهتة

فتح لها الباب بعد سنوات غابت فيها عن بيته وحضنه، يشتاق إليها وإلى حضورها الذي أعتاد أن يملأ فراغ حياته وخواء غرفه، دخلت ومدت يدها بالسلام، أمسك يدها في حب وبقوة وكأنه يخشى أن تضيع ثانية من يده، قبّل جبينها، حاول أن يمد شفتيه ليقبل شفتيها، ولكنها بنت حاجزا بيدها بين شفتيها وشفتيه.

- أنرت بيتك حبيبتي، يا غالية.

- تسلم.

اتجهت للكنبة المجاورة لباب الشقة، لكنه أمسك بيدها متوجها بها إلى غرفة المعيشة، حاولت أن ترفض وتقنعه بالجلوس بجوار الباب، ولكنه صمّم على دخولها ليبعد بها عن الباب الذي يُقرّب من موعد انصرافها ويُقصّر المسافة بينها وبين الرحيل، وما قد يصدر منهما من نقاش ربما يعلو ليصل لأسماع الجيران.

جلست على (الفوتي) المنفرد؛ حتى لا تتيح له فرصة الجلوس بجوارها.

تجولت بعينيها داخل الغرفة وتأملت كل ركن، وجلس هو صامتا يتأملها بكل تكويناتها وملابسها وتفاصيلها.

- لم يتغير شيء بالبيت، كما هو وكما نظمته، لكن هناك بعض التغيرات البسيطة.

- ما هي؟

- الألوان، باهتة، ضاعت الملامح الربيعية للأغطية والحوائط، وكأن البيت يشيخ.

- بالفعل؛ فلقد غادرته الروح لعدة سنوات، ولكن ها هي تعود.

- لقد طلبت أن تقابلني ورفضت أن نلتقي في أحد المطاعم، وأصررت على أن نلتقي هنا، وها أنا قد جئتك ملبية دعوتك، ماذا تريد أن تقول؟

- هل تعتقدين أن التواصل بيننا يحتاج إلى الكلمات؟! أعرف أنك تفهمينني دون كلمة، كنت لي كما الأم، تقرأ ما سطر على جبين أبنائها وبداخل صدورهم بل وما يدور داخل أعينهم.

- هذا لأن ما يحرك قلب الأم هو الحب، الانغماس داخل كينونة أبنائها الذين هم قطعة منها،

لكن حين يحدث الانفصال ومغادرة الحب لقلوبنا، تُخلق الغربة، الاغتراب، فيسوء الفهم ويصعب قراءة الإشارات، ابتعدنا سنوات وكل منا خلق عالما له جديدا، وزادت الدوائر، واتسعت الفراغات بيننا، فكيف أقرؤك؟

- أريد أن أعتذر لك عمّا صدر مني، وأريدك أن تغفري لي زلاتي التي أوقعت بي في أرض بعيدة عنك، لنعد.

- أعود؟! هل تعلم كم مرة انتظرت عودتك؟ وكم عدد الساعات والأيام التي كنت أحصيها استعجالا لعودتك؟ كنت أتلهف على انقضاء الأيام التي تبعدني عنك، أملا أن تلقي بك بين أحضاني حين تقترب المسافة وتضمحل الساعات.

بكيت كما لم أبك عمري، كنت أتلصص على الجدران حتى أتحسس عنك خبرا، كنت أرى صورتك معها وضحكتك تملأ الفضاء وتتكثف كما الغبار الرمادي ليسقط فوق رأسي لعنات حزن ومطر وغضب، كانت أيامي كلها غامقة اللون وكأنني أعيش ليل ألاسكا الطويل، غير أنه بلا نهار، عيّرتني بحبي، عيّرتني بعطائي، عيّرتني بإخلاصي. كم كنت محبة! وكم كنت أنت شقيا!

- أعترف لك بحمقي، وأعترف لك أنه لم يحبني أحد كما أحببتني، ولكنك كنت تتجاهلين رغباتي، تمنيت أن تغيري من مظهرك وتجملي وجهك حتى لا أفكر في أي امرأة غيرك.

- هل كنت تدرك كم قاسيت حتى أنجح في دوري كأم وزوجة وامرأة عاملة؟

كنت ترى معاناتي وتتجاهل إرهاقي ولا تمد يدك لتعاونني وترفع عني بعض تلك الضغوطات،

لقد كنت أجري كما ثور في ساقية لحل مشكلات أولادنا، وأجري لألحق بالسوق لأجهز وجبات الأسبوع، لأوفر بعض الجنيهات التي قد تحتاجها أنت أو أولادك.

تعبت؛ كنت أحاول أن أحافظ على أنوثتي التي تم وأدها مرارا من تجاهلك وأنانيتك، كنت أنتظرك كما الغانية المستأجرة حتى أرضي ذكورتك، غير أني غانية بلا مقابل.

كم كنت أضحك حينما أسمع عن حقوق المرأة وتحرير المرأة وحق المرأة في التعليم والعمل، حقها في أن تثبت ذاتها.

لقد نصب علينا دعاة تحرير المرأة، نصبت علينا المؤسسات والحكومات، بل ونصب علينا رجال بلدتنا؛ لقد أطلقوا لنا الحبل ولكن طرفه بأيديهم، كنا كما الثور المغمى، كانت جدتي أميرة في بيتها تشرف على البيت وأبنائها فقط، لتأتي حركات تحرير المرأة وتزداد الحمولات فوق ظهورنا، صرنا خادمات في بيوتنا وعاملات في المصانع والمدارس والمستشفيات؛ لندر دخلا يصب في البيت أيضا، تحولنا إلى مخلوق مشوّه؛ نصفه أنثى ونصفه الآخر ذكر. وفي النهاية ألقيت أنت بكل اللوم والتقصير عليَّ أنا، صرت تسخر من شكلي ومن جسدي ومن صوتي، كنت تتأمل الفنانات في حسرة وتنظر لي نظرة اشمئزاز، كم ضقت بنفسي وكرهتها!

حطمت بعدك كل المرايا حتى لا أرى ذلك الكائن المشوّه، وضقت بكل الرجال وكل منظمات حقوق المرأة المتشدقة بكلمات سخيفة وخطب لم تحل مشكلاتنا بقدر ما أغرقتنا أكثر وأكثر، ومجتمع يكيل القبضات في وجه المرأة ويعيقها، لا يمد لها يد العون لتخفيف الأعباء عنها ...

حين أخذت قرار الطلاق وتركتني، كنت كمن تم الإلقاء به في وسط المحيط بلا عوامة أو طوق للنجاة، ولكنني تخلصت من قيدي وتخلصت من رغبتي فيك وانتبهت لقيمتي، انتبهت إلى أنني إنسان يجب أن يكون له استقلاليته، أكملت مهمتي مع أبنائي وتفرغت لنفسي.

- نعم لقد تغيرت إلى امرأة تمنيتك أن تكونيها حينما كنا معا، صرتِ أجمل، ليتك تظلين هكذا، أتمنى أن تنقصي من وزنك قليلا وتضعي عدسات زرقاء وتلوني شعرك أصفر، ليتك ترتدي البنطال الجينز الضيق أو الفستان القصير، وتضعي عطرا ناعما يفوح أنوثة، أريدك أن تكوني أنثى من الستينيات، كما ممثلات هذا الجيل، ترتدين الكعب العالي وفستانا يفصح عن الصدر المرتفع الناهد ...

- أعتقد أنه حقك، ولكنك أتيت بعد أن أنهيت مهمة تربية أبنائنا الذين هم أبناؤك أيضا، عدت بعد أن أكملت أنا مهمتك، بعد أن تخليت عني وعنهم. عدت بعد أن تحول اسمك لمجرد أحرف تلي اسماء أولادنا. أنت لا تريدني أنا، بل تريد امرأة تخلقها على صورة حبيبتك التي تخلت عنك؛ أنت لم تحبني، بل أحببت نفسك وأحببتها هي؛ فمن يحب إنسانا يتقبل عيوبه قبل مميزاته، وأنت ما زلت ترى عيوبي ولم تنطق بما فيّ من مميزات، ما زالت عيناك تنتقي وتبرز المساوئ، تترصد نواقصي.

وأنا أيضا حين أتيت إلى هنا، كان رغبة مني أن أختبر مشاعري تجاهك، أردت أن أطمئن أنني قد شفيت منك، برئت من حبك.

البيت لم يعد بيتي، ملامحه صارت كما صورتك داخلي، لم أعد أشعر بين جدرانه بالأمان، ولم أعد أراك حبيبا؛ رائحتك صارت غريبة على أنفي، صوتك يسبب لي القلق.
مارا
مارا أحمد
البيت لم يعد بيتي، ملامحه صارت كما صورتك داخلي، لم أعد أشعر بين جدرانه بالأمان، ولم أعد أراك حبيبا؛ رائحتك صارت غريبة على أنفي، صوتك يسبب لي القلق.

المكان ربما كما هو، ولكن أنت لم تعد كما رأيتك أول مرة؛ لقد تغيرت أنت وأنا أيضا تغيرت، صرت أمرأه اليوم، وقد غادرتني صورة زوجتك التي غرقت حتى أخمص قدمها في المسؤولية والبيت.

يقول (هيرقليطس): نحن لا ننزل إلى ماء النهر مرتين.

ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها وتركته مع الجدران الباهتة.

مارا أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى