بهاء المري - حَـــيرَة أمـَـل

كان غَداءً جميلاً حرصَ فيه على اصطحابي معه. لم يَعْتَدْ مثل هذه العَزائم بصفة عامة ولكنه نزلَ على تصميم ذلك الرَّجل على دعوته إليه فاضطرَّ إلى قبول الدعوة.
تقابَل مع زوجي مُصادفةً في محافظة نائية نُقل إليها للعمل وتَعرَّفا إلى بعضهما فاكتشفا أنهما من مركز واحد واعتبر زوجي ضيفًا عليه. هذا ما فهمته عن سبب الدعوة.
لم أدر لماذا رغب أن أرافقه، هل ليُضْفي على الدعوة طابعًا رسميًا؟ أم لتوثيق علاقتهما على مستوىً اُسريّ؟ لم أفهم!
جاءت زوجته معه وتَعارَفْنا، لم أتخيَّل أن تكون هي، كل ما أعرفهُ عنها من قبل؛ أنها وزوجي تَخرَّجا معًا في كلية واحدة ثم تزوجَّت؛ وانقطعَتْ عنه أخبارها، عشرين عامًا لم يذكر لي سيرتها؛ ولم أتخيَّل أن يَتقابلا مرَّة أخرى هكذا.
تذكَّرتُ حين كنَّا نُرتِّب أوراقه ومكتبته ذات يوم؛ ورُحنا نَتفقَّد صُوَره مع زملائه في الجامعة، كانت تقِفُ إلى جواره في جميع الصُّور بشكل لافِت، تبسَّم يومها وحَكى لي عن مشروع خِطبتهما الذي لم يتِمْ، لم أعبأ حينها بما سمِعتُ.
ارتبطا عاطفيًا خلال تلك الفترة، ورفض والدها خِطبتها له لانعدام التكافؤ. أفهَمَهُ أنها مريضة بالقلب وطلب منه الانسحاب من حياتها في هدوءٍ حتى لا تنتكس؛ ثم اصطحبها معه للخارج.
أما هو فقد امتنع عن الرَّد على رسائلها، بعد أن علِمَتْ بخِدعة والدها، وراحت تراسله ولكنه لم يقوَ على التَّراجُع بعد خطبتي سألتُه حينها: هل تُحبها؟ قال إنه نسِيَها تمامًا.
رحَّبَتْ بنا وتجاذبَتْ مع زوجي أطراف الذكريات، كنتُ أراقبُ عينيه وتَعبيرات وجهه وهو يتحدث إليها، كانت كل ذرة في كيانه تَشي بسعادة بالغة لم ألاحظها في عينيه من قبل.
التقت عيناهما أثناء الحديث فإذا بحمرة ظاهرة تضرب وجهها كأنَّ بركانًا قد انفجرَ للتّو فاندفعَتْ حِمَمهُ لتكسُوَ بالنيران أرضًا كانت وادعة.
ارتبكَتْ لُغةُ جسدِها، ارتعَشَتْ أصابعها وحركة يدها، تلعْثمَتْ، نَهضَتْ واقفة لتَسْحبَ مقعدها إلى الخلف ثم تُعيده للأمام من دون سبب وتعود لتجلس.
نَشَّزَت الموسيقى التي تُذاع في المكان، لم أعُد أسمَع إلا صَخبًا يَطِنُّ في أذنيَّ، وعَصْفُ ريح باردة يَضرب في قلبي.
تَعلَّلْتُ بصداع شديدٍ مُفاجئٍ يضربُ رأسي. انصرَفْنا فور تناوُل الغَداَء، راح يُمازحَني طوال الطريق مِزاحًا مُصْطنعًا؛ لقد أدرَك الحيلة التي اخترعتُها لننصرف، ولم لا وقد لاحَظ هو الآخر على وجهها آثار تلك النَّظرة التي سدَّدها في شِبِاك عينيها؛ فأتَتْ على اتِّزانها.
لم تُغادِرني التساؤلات طَوال الطريق؛ هل قَبِلَ الدعوة لمَّا علِم أنها زوجة الداعي؟ أم كان يُتابع أخبارَها وسَعَى هو إلى اللقاء لمَّا عرف أنها هُنا مَعه؟ ولِمَ لا يكون قد طلَبَ نقله إلى هُنا على أثر عِلْمِهِ بوجودها مع زوجها؟ راح عقلي يَرسُم آلاف السيناريوهات لِما حدَث.
ثم أعودُ في مُحاولة لتبديد ظنوني لأُخَفِّفَ من ضِيق صدري فأحدث نفسي: "... وربما لم يكن يعلم أنها هنا، ولمَ لا يكون اللقاء عَرضَيًا ولكنه حرَّكَ جذوة الحب القديم تحت رُكام النسيان،و..، و... إلخ.
كادَتْ الظنون أن تقتُلني، كل ما حَدَثَ يُمكن أن يكونَ تلقائيًا، وفي ذات الوقت يُمكنُ أن يُؤجِّجَ نيران الشك في نفسي، ومن الجائز أيضًا ألَّا يكون كذلك.
في البيْت لاحَظَ وُجومًا يَلفُّني، استمرَّ في التَّلطُّفِ مَعي، ولكنَّ شرودًا عجَزْتُ عن تبديده، بَدا واضحًا على ملامحي.
ادَّعيتُ الرغبةَ في النوم مُبكرًا وسبَقتُه إلى حجرة نومي، لَحقَ بي مُتظاهرًا بأن لا شيءَ غير عادي يحدُث. لم أحتمل استمراره فيما يتظاهر به، انفَجَرْتُ فيه غاضبة :ما سرُّ السعادة التي لاحظتُها عليكَ وكادت تقفزُ من عينيكَ لمَّا وجدتها؟
اتسعَتْ عيناه في نظرة ثابتة لاحَظْتُ فيها إشْفاقًا عَليَّ، غلبني البُكاءُ فانخرَطتُ فيه كمَن استجمعَ كل أحزانه في لحظةٍ واحدة، وانتصَبَتْ كالمَارد أمامَ عينيه.
بُحْتُ له بما سَاوَرني. ربَتَ على كتفي وقال مبتسما: أمل حبيبتي: لا تجعلي أوهامكِ تتدحرج مثلُ كُرة الثلج فيكبرُ الشَّكْ بداخلك، أو تُشتِّتَ الأوهامُ أفكاركِ كضاربة ودَعْ يَصلُح كلامها لكل تأويل. أنتِ حبيبتي؛ ولا أحَد غيرك، ولن يكون.
هدأتُ قليلا. مَسَحَ على رأسي بحنان، قبَّلَ جبيني، ضَمَّني بحُب وغادَرني بابتسامة رقيقة إلى غرفة مكتبه.
لُمْتُ نفسي على ظُنوني وحَيْرَتي وقرَّرْتُ الاعتذار له، لحِقْتُ به في غرفة المَكتب، لمَحتُه وقد أمسَكَ بصورتها ينظرُ فيها ساهمًا، ودُموعه تنسابُ في صَمتٍ على وجنتَيه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى