إذ فقدت الحلم. النوم بلا أحلام، أو أحلام لا أتذكرها وهو شيء لم أعتد عليه من قبل. كان يبدو صحياً ومرَضاً في نفس الوقت، كالجدل بين النحويين. أقول الحق والحق أقول، لا تقوم الساعة حتى يكون الكل. واسمع أزيز غطاء النعش.. تتساقط الورود الجافة من أطرافه، وأراهم يسجدون لي، بصمت مهيب. لكن ألماً ما يسلك طريقه داخلي. ورسالة السماء مربوطة في قدم حمامة. آه.. ها أنا أسحق المكعبات الزجاجية.. أسحقها بقبضتي. وأقرأ على الكرتون الأزرق الداكن: سكر إنجليزي English sugar. آه.. بت أتأوه كثيراً من فترة ليست بالبعيدة. المرارة في الحلق، المرارة في القلب، ولكنها تسيل من الدماغ كالعفن الأصفر. آه..
- لا تغلق غطاء التابوت يا سيدنا..
يتضرعون..
وتفر الحَمَامَات من الأضرحة القديمة ثم تدور في حلقة متصلة قبل أن تهبط فوق حيطان الضريح، وتنوح ومن حولها الصحراء.
انجدني يا مولاي..
ويتوافدون زمراً متجددين كي يجدوا النجاة.. كي يتأوهون بلا خجل.
- لا تغلق غطاء التابوت يا حضرة..
وسيقاني ترتعش من التعب.. والتعب يتزايد من وقوف أزلي..
سأزور الظلمة يوماً ما.. ولا أدري إن كان ذلك جيداً أم سيئاً.
- إنك تقول كلام مجانين.
هكذا لا يُعرِّفُها فيمضي بالجملة إلى اللا نهاية وتنغزل بها أغنيات الطوارق، وعطر الريحان الباكي.
- خذوا من زهرة الآلام بعضاً وامضغوها كما يمضغ الكلب القيئ.
فيفعلون، ويعلقون في متاهة مخيفة. لكنهم يصبرون.
لا حائط مبكى هنا.
فالبلاط الأبيض والأسود مستوٍ على مد البصر. ولن توسخوه باللعاب والبصق والتمخط.
تقول الفتاة بأسى: مشكلة. ثم تمضي مع الأثير.
آه.. إن عقلي حذاء في جمجمة. سأغلق التابوت..
يتضرعون:
- لا تغلق التابوت..
لكنني أفعل.
....
واستيقظت في التابوت، فتحت عيني، والمرأة التي أحبها مغمورة في طبق المكسرات. كان طعم القهوة مراً.. وكان مسمار صدئ محاصر في مسار القلب نحو الذاكرة.. الأشياء تبدو رتيبة كالشِّعر، مملة كالشعراء.
..
لا اعرف لماذا تذكرت رواية فالس الوداع حين استمعت لفالس المكياج الفظيع والذي لم يكن مضحكاً كاسمه بل مغرقاً في الحزن.
لقد مضت سنوات منذ أن شاهدت الصباح كما يجب أن يُشاهد. لا تسأل تلميذاً عن جمال الصباح حين ينهض والقذى في عينيه ليذهب إلى المدرسة، ولا عاملاً ذاهباً إلى المصانع الضخمة. بل اسأل عجوزاً حصل على تقاعده في مدينة اسبانية ساحلية.
نحتاج أن نرى الصباح كما يجب. وكان ذلك سر الدفق الحزين لفالس المكياج الفظيع لسكوت برايز.
لم أعد أعرف إن كان يجب أن أغلق غطاء التابوت أم أخرج منه لأحترق بضوء الصباح. ولكن في كل الأحوال فإن على مصاص الدماء أن يضع المكياج الفظيع على وجهه. المكياج الذي يحميه من نظرات الآخرين الحارقة.
......
وترقص البنات والأولاد في صفين متوازيين، هنا، وفي كل شعوب أفريقيا، وأوروبا وآسيا والأوقيانوس والأمريكتين، وفي الكواكب الأخرى. هناك صراع محموم بين الرقص والموت. لذلك يتضرعون وهم يبسطون أذرعهم على الأرض والأشواك تخترق جلدهم فيسيل الدم الأخضر ليروي الأعشاب الموغلة في القِدم.
- أنا لست إلها..
أُنكر ولا يصدقون.
فالخلود تحتكره الآلهة ومصاصو الدماء.
لكن الكاهن ممتلئ بالغبطة، ويقترب من بوابة قلعتي. عيناه تزفان فرح الميتين قبل موتهم.
...
وخرجت من التابوت
اليوم بحثت عن الأجندة القديمة
؛الناس القديمين. كما أفعل دائماً وأنا أعود واستبصر حقيقتي ككائن ميت يظن نفسه حياً.
تذكرتها.. الحب القديم، مصاصة الدماء، وتذكرت آخرين أقل أهمية منها، ثم تبين لي أنها لم تكن أكثر أهمية منهم.
أزَّ غطاء النعش وانغلق بعنف. فالتفت. ولم تكن تلك علامة على شيء.
وكان قلبي يحدثني عن كل شيء. القلب الذي ليس سوى رماد دموع الملائكة.
كلما خفق، تناثر الرماد تحته. فأمد يدي المعروقة وأخرج الصليب الحديدي وأضعه فوق جبيني. ولكنني لا أحترق، وتغلي جمجمتي تحت شمس النهار، ولكنني لا أحترق. صحت:
أي مصاص دماء أنا.. عليك اللعنة.. متى ستعتق رقبتي..
وحاولت خنق رقبتي ولكنني فشلت.. إنه جرثومة..
ولا أعرف من قال جملة "إنه جرثومة" هذه.
ولكنها جملة كاملة العناصر. جملة صغيرة شاملة. تشير إلى أياً كان. وتصلح لكل شيء، وتصلح لكل زمان ومكان. لأن صفارة الألم لا تتوقف عن النفخ في لهب الصداع.
"من يكمل هذه الجمل بحق اللعنات الكونية؟
وأصرخ.
وتنزح المرارة في شفرة سكين مغروسة في الحلق المغطى بالشعر.
...
وأرهف الناس أسماعهم لرعد بلا برق، كان رعداً كعويل الدببة. ولكنه لم يكن إلا مصاص الدماء يتقيأ في البئر التي جفت منذ آلاف السنين.
وعيناي تزدادان حمرة وتنزفان المهل الحار. لا تستطيع الإبر خرق جلدي، فيظل المرض محتجزاً في الحوايا. فيأتلف معي، وءأتلف معه، ونتشارك عذب الألم وعذابه. وقد يبلغ الإشفاق أن نحمي الجراثيم داخلنا كما نحمي الجراثيم خارجها، وقد نعبدهما كي نملك لذة الأمل. ولكن لحظة الاستبصار أقوى من كل شيء، وهي اللحظة التي نتقيأ فيها التسويف على أنفسنا كي لا نعترف بالحقيقة. ونتقيأ المِرَّ والحنظل والماضي والذكريات والهواجس والحنين والغربة والوحشة والتجاهل والصور المرسومة والتاريخ والموتى ثم تنتفض الحقيقة وتنتصب لتهبط أمام أعيننا بساقين مفرجتين ونقف أمامها كخيط دخان، ثم نقتلع قلوبنا الرمادية ونبكي ضاحكين.
وها قد أتى الليل، بسرعة كما لا ينبغي، والسماء بلا قمر، بلا صوت عواء الذئاب. صمت كلهاث السمك.
وتنحدر الدروب اللولبية بين الصخور والأحجار في الأرض الوعرة، وتتقزم النقطة التي خلفنا، ويبدو كما لو كان السقوط مجرد انحدار نحو الأمان. لكنه كذب.
انشر أجنحتي السوداء الواسعة على بهو البرية، وأرى بين الأدغال كوخاً تستضيء نافذته الصغيرة بلهب فانوس زيتي صغير. أجمع أشلاء الأجنحة الممزقة وأضعها في جيبي، وأجر عضلة الجناح الأيمن الممزق بكتفين واهنين.
إنه صمت مطبق، لذلك تردد صدى طرقات أصابعي وصدى فتح المرأة العجوز للباب.
- من أنت؟
- مصاص الدماء..
تضحك بفم ليس به سن واحدة.
- جفت دمائي منذ عقود..
- بللي عروقك من بقايا قطرات الخريف السابق..
- لا تمطر السماء دماً
- بل لا تمطر إلا دماءً
تضحك وتحنى رأسها للخلف، فتظهر دمامل رقبتها خضراءة مستديرة كالليمون.
- اشرب إذاً..
- من قال أنني أود مص دماءك؟
- وماذا تريد.. وأيا كان ما تريد.. فلن تجده هنا.. فابحث بنفسك في القصر..
وتضحك وهي تعود محدودبة الظهر إلى كرسي قرب النافذة والمصباح الزيتي، فتتهالك فوقه وتدخن سجائرها بلا انقطاع.
- لا شيء سوى الدمامل.. وأنا أربيها كالدجاج.. ولكنك لا تعلم كم أحب دماملي الخضراء.. أتعلم لماذا أحب دماملي الخضراء؟ طبعا لا تعلم.. ولكن هذه الدمامل سرطانية وهي تعدني بالفناء.. تعدني بالفناء منذ وقت بعيد.. فأنميها دملة دملة.. وكل دملة مطلوب منها أن تأكل سنة من عمري..
-ولماذا ترغبين بالموت؟
- كما ترغبه أنت..
- وكيف عرفتِ بأنني أرغب في الموت؟..
تدخن وتقول والدخان يغطي دماملها:
- عيناك تفضحانك.. أنك كالذكر المنتصب..
- عليكِ اللعنة..
- هيا اغرب عن وجهي.. ولكن هناك قصعة عليها توت بري.. أعصره على عينيك..
فأبحث عن القصعة وأعصر التوت البري على عيني فتضحك العجوز ساخرة وهي تراني أحاول تلمس طريق عودتي دون جدوى..
ويلفظني العالم.. كعادته.. حتى عندما أمرر الموس على جوانب وجهي ولحيتي وذقني ورقبتي خالعاً تلك الشعيرات البيضاء -بعدد سهام الحب- من تربتها. يلفظني العالم السعيد مع ضب منزلي قبيح اتخذ ركن تابوتي مقبرة يلعق فيها جراحه بعينين قبيحتين.
"إنها الحياة"
أقول وأحدق فيه فتهبط جلدة صفراء تُنَشِّف عدساته الكروية المخيفة من زيت دموعه ثم تعود وتختفي خلف جفنيه المنتفخين.
وأتخيله يقول:
"سأبقى معك أو أنتحر فلا مأوى لي غير تابوتك"
ولما كان مبرره منطقياً فقد دخنا سجارة واحدة سوياً.
كانت حواف التابوت تظهر ضوءاً خافتاً قادماً من الخارج قبل أن يتبدد رويداً رويداً ليصبح الكون مسالماً.
...
المصاصون الهزليون، الهزليون الذين يوصلون الطعام إلى المنازل مقابل بقشيش كما لو كانوا مصاصين محنطين. هؤلاء الذين يفتحون أعينهم على اتساعها بغير سبب منطقي.
ها هي طلبية رؤوس العصافير. يطرقون غطاء التابوت. وتزقزق رؤوس العصافير في أوانيها ثم يغمى عليها. فابتلعها رأساً رأساً كما يفعل الفقراء في أحياء الصفيح والكرتون، أبتلعها وأحيانا أقرمشها، وأحيانا أشعر بملمس أعينها السوداء الباردة في حلقي فأتقيأؤها، ثم تتجمع الحشرات حول بقاياها فيجد الضب وليمته بدوره.
التابوت هو المكان الوحيد الذي لن تجد فيه عصافير حية ولن تجد فيه أي ساعات.
....
إنها ليلة الخروج.. المحاولة الفزعة للهروب. سأدفع غطاء التابوت ببطء وأزيزه يقض مضجع الضب. وظلالي داخل الظلام تسبق أقدامي المهرولة فوق أسقف المنازل والمعابد والمباني الحكومية وأبراج الشركات الشاهقة والفنادق والمراقص والحانات والأسواق المتخاذلة في الشتاء. سأهرول حتى أسقط من السماء إلى السماء. فأرى فتاة تترنح من السُّكر في درب خالٍ لاستصحب حينها فزعي السرمدي وأنا أغرس أنيابي الواهنة في جيدها المتسخ بلعاب قبلات من يدفعون بسخاء. ويتسرب حب الحياة إلى أوردتي، فهو ليس مجرد دم بشري، بل دم أنثى معبق بعطر المعاني الخفية للوجود ومحلى بخداع ودلال الحياة. يرتخي جسدها، فأسجيه على الأرض، ثم أطير محلقاً بجلال الخلود وبنظرات الأبهة العارمة. أصعد إلى السماء. هل أعود إلى تابوتي. أرى من تحتي الجسور تربط المدن العتيقة تاركة المياه تعبر من تحتها متجهة نحو معاركها التي لا تنتهي. هل أعود إلى تابوتي؟ فأفتح عيني حين أشعر ببطن وأقدام الضب وهي تترك خطاً بارداً فوق وجهي. تبقى عيناي مفتوحتين داخل ظلام التابوت. إذاً فقد غفوت.
...
إن اليأس الإنساني اللا محدود يتعاظم. فكل سلعة تُصنع تسرق رقعة من جنته القديمة. وكل سلعة تُصنع تزيد عزلته عن محيطه. يُداس ويُداس.. وكلما تحامل على نفسه ديس أكثر وأكثر.. حينها يتساءل: هل كانت الأم رحيمة أم مجنونة أم خليطاً من الرحمة والجنون. وتتوازى مستطيلات الالمونيوم ثم تتراكب لتحاول خلق مثلثات مفككة، الأم، الطفل والأب.
يتجدد الفزع في كون متناوب على تكوره اللا نهائي محيطاً تلك المثلثات بالمجهول. الطفل الذي تنمو أنيابه وتنمو عشبتان من الشعر خلف أذنيه، وداخل منخريه وإبطيه وعانته ليتهيأ لدخول التابوت، كان يمثل حاجة عاجلة للدراسة، لأنه لم يكن يخشى الظلام بل يشعر فيه بالكآبة.. ثم غاص فيه كلما طالت أنيابه وازداد بروز الشعر من منخريه.. كان يفقد آدميته كلما طالت أنيابه.. وكانت معدلات خسائره ترتفع. ولم تكن أمامه فرصة التحالف مع الشيطان أو حتى التمرد كهالفارد في درامية ابسن. لم يتمتع بتلك الرفاهية. وكان على المجتمع أن يلفظه، بل أن يقيده بالسلاسل ويلقي به في جوف التابوت داخل قبو قصر قديم. ثم يُنسى. سقط المثلث المعدني، فلقد كان حضوره في العالم حفنة من تخالط كيمياوي متعفن بين ذكر وأنثى، ولعنته وحده.. وحده فقط..
هل أنت مصاص دماء؟
كانت الطفلة تسأله قبل اقتياده خارج المدرسة. وكان ينظر إليها بحيرة ويتابعها من خلف نافذة العربة هامساً: لا أعرف.
ولم يزل حتى اليوم يتذكر وجهها وسؤالها بعد ثلاثين عاماً، ولا زال حتى اليوم لا يعرف الإجابة.
هل أنا مصاص دماء حقاً؟
والهمس يخترق الظلام ورائحة الضب الرابض بحرص لاقتناص الفرائس.
ويحفني الألم، العقل يتقيأ في العروق، والعروق تحمل رائحتها الزفرة، لتجوب الجسد بالسم. والتابوت لا يتيح فرصة التكور على الذات. إذ يجب أن أنام واقفاً واستيقظ واقفاً وأعيش واقفاً وسأموت واقفاً.. إن الرماد يخلف النهارات المحجوبة بالصمم. شجرة الريحان القديمة تطلق ذاكرتي تحت انصهار الشمس في بيت جدي الحجري، والسلام يظل مفقوداً منذ الطفولة، حيث يحولك الصراع اللا إنساني لوطواط.. والأعداء الذين لم يمنحك القدر فرصة الانتقام منهم؛ بل تركهم في قعر عقلك الباطن لكي ينغصوا ما تبقى من حياتك حتى لحظة الموت. الروح المكبلة تهمهم بالحزن وترفرف بلا أجنحة كي تقاوم العجز. وهنا فقط تتدلى الرغبة في المطلقات بلا جدوى ولا أمل. تزهر أطراف التابوت بالفطر وينمو الضب حتى يضحى بحجم تمساح، ثم يبدأ في قضم جسدي قطعة قطعة، من أطراف أصابع قدمي وحتى عيني.. ولن أعرف الحد الذي سيتوقف فيه عن أكلي..ولا أريد أن أسأله حتى لا يعرف أنه المسيح.
(تمت)
- لا تغلق غطاء التابوت يا سيدنا..
يتضرعون..
وتفر الحَمَامَات من الأضرحة القديمة ثم تدور في حلقة متصلة قبل أن تهبط فوق حيطان الضريح، وتنوح ومن حولها الصحراء.
انجدني يا مولاي..
ويتوافدون زمراً متجددين كي يجدوا النجاة.. كي يتأوهون بلا خجل.
- لا تغلق غطاء التابوت يا حضرة..
وسيقاني ترتعش من التعب.. والتعب يتزايد من وقوف أزلي..
سأزور الظلمة يوماً ما.. ولا أدري إن كان ذلك جيداً أم سيئاً.
- إنك تقول كلام مجانين.
هكذا لا يُعرِّفُها فيمضي بالجملة إلى اللا نهاية وتنغزل بها أغنيات الطوارق، وعطر الريحان الباكي.
- خذوا من زهرة الآلام بعضاً وامضغوها كما يمضغ الكلب القيئ.
فيفعلون، ويعلقون في متاهة مخيفة. لكنهم يصبرون.
لا حائط مبكى هنا.
فالبلاط الأبيض والأسود مستوٍ على مد البصر. ولن توسخوه باللعاب والبصق والتمخط.
تقول الفتاة بأسى: مشكلة. ثم تمضي مع الأثير.
آه.. إن عقلي حذاء في جمجمة. سأغلق التابوت..
يتضرعون:
- لا تغلق التابوت..
لكنني أفعل.
....
واستيقظت في التابوت، فتحت عيني، والمرأة التي أحبها مغمورة في طبق المكسرات. كان طعم القهوة مراً.. وكان مسمار صدئ محاصر في مسار القلب نحو الذاكرة.. الأشياء تبدو رتيبة كالشِّعر، مملة كالشعراء.
..
لا اعرف لماذا تذكرت رواية فالس الوداع حين استمعت لفالس المكياج الفظيع والذي لم يكن مضحكاً كاسمه بل مغرقاً في الحزن.
لقد مضت سنوات منذ أن شاهدت الصباح كما يجب أن يُشاهد. لا تسأل تلميذاً عن جمال الصباح حين ينهض والقذى في عينيه ليذهب إلى المدرسة، ولا عاملاً ذاهباً إلى المصانع الضخمة. بل اسأل عجوزاً حصل على تقاعده في مدينة اسبانية ساحلية.
نحتاج أن نرى الصباح كما يجب. وكان ذلك سر الدفق الحزين لفالس المكياج الفظيع لسكوت برايز.
لم أعد أعرف إن كان يجب أن أغلق غطاء التابوت أم أخرج منه لأحترق بضوء الصباح. ولكن في كل الأحوال فإن على مصاص الدماء أن يضع المكياج الفظيع على وجهه. المكياج الذي يحميه من نظرات الآخرين الحارقة.
......
وترقص البنات والأولاد في صفين متوازيين، هنا، وفي كل شعوب أفريقيا، وأوروبا وآسيا والأوقيانوس والأمريكتين، وفي الكواكب الأخرى. هناك صراع محموم بين الرقص والموت. لذلك يتضرعون وهم يبسطون أذرعهم على الأرض والأشواك تخترق جلدهم فيسيل الدم الأخضر ليروي الأعشاب الموغلة في القِدم.
- أنا لست إلها..
أُنكر ولا يصدقون.
فالخلود تحتكره الآلهة ومصاصو الدماء.
لكن الكاهن ممتلئ بالغبطة، ويقترب من بوابة قلعتي. عيناه تزفان فرح الميتين قبل موتهم.
...
وخرجت من التابوت
اليوم بحثت عن الأجندة القديمة
؛الناس القديمين. كما أفعل دائماً وأنا أعود واستبصر حقيقتي ككائن ميت يظن نفسه حياً.
تذكرتها.. الحب القديم، مصاصة الدماء، وتذكرت آخرين أقل أهمية منها، ثم تبين لي أنها لم تكن أكثر أهمية منهم.
أزَّ غطاء النعش وانغلق بعنف. فالتفت. ولم تكن تلك علامة على شيء.
وكان قلبي يحدثني عن كل شيء. القلب الذي ليس سوى رماد دموع الملائكة.
كلما خفق، تناثر الرماد تحته. فأمد يدي المعروقة وأخرج الصليب الحديدي وأضعه فوق جبيني. ولكنني لا أحترق، وتغلي جمجمتي تحت شمس النهار، ولكنني لا أحترق. صحت:
أي مصاص دماء أنا.. عليك اللعنة.. متى ستعتق رقبتي..
وحاولت خنق رقبتي ولكنني فشلت.. إنه جرثومة..
ولا أعرف من قال جملة "إنه جرثومة" هذه.
ولكنها جملة كاملة العناصر. جملة صغيرة شاملة. تشير إلى أياً كان. وتصلح لكل شيء، وتصلح لكل زمان ومكان. لأن صفارة الألم لا تتوقف عن النفخ في لهب الصداع.
"من يكمل هذه الجمل بحق اللعنات الكونية؟
وأصرخ.
وتنزح المرارة في شفرة سكين مغروسة في الحلق المغطى بالشعر.
...
وأرهف الناس أسماعهم لرعد بلا برق، كان رعداً كعويل الدببة. ولكنه لم يكن إلا مصاص الدماء يتقيأ في البئر التي جفت منذ آلاف السنين.
وعيناي تزدادان حمرة وتنزفان المهل الحار. لا تستطيع الإبر خرق جلدي، فيظل المرض محتجزاً في الحوايا. فيأتلف معي، وءأتلف معه، ونتشارك عذب الألم وعذابه. وقد يبلغ الإشفاق أن نحمي الجراثيم داخلنا كما نحمي الجراثيم خارجها، وقد نعبدهما كي نملك لذة الأمل. ولكن لحظة الاستبصار أقوى من كل شيء، وهي اللحظة التي نتقيأ فيها التسويف على أنفسنا كي لا نعترف بالحقيقة. ونتقيأ المِرَّ والحنظل والماضي والذكريات والهواجس والحنين والغربة والوحشة والتجاهل والصور المرسومة والتاريخ والموتى ثم تنتفض الحقيقة وتنتصب لتهبط أمام أعيننا بساقين مفرجتين ونقف أمامها كخيط دخان، ثم نقتلع قلوبنا الرمادية ونبكي ضاحكين.
وها قد أتى الليل، بسرعة كما لا ينبغي، والسماء بلا قمر، بلا صوت عواء الذئاب. صمت كلهاث السمك.
وتنحدر الدروب اللولبية بين الصخور والأحجار في الأرض الوعرة، وتتقزم النقطة التي خلفنا، ويبدو كما لو كان السقوط مجرد انحدار نحو الأمان. لكنه كذب.
انشر أجنحتي السوداء الواسعة على بهو البرية، وأرى بين الأدغال كوخاً تستضيء نافذته الصغيرة بلهب فانوس زيتي صغير. أجمع أشلاء الأجنحة الممزقة وأضعها في جيبي، وأجر عضلة الجناح الأيمن الممزق بكتفين واهنين.
إنه صمت مطبق، لذلك تردد صدى طرقات أصابعي وصدى فتح المرأة العجوز للباب.
- من أنت؟
- مصاص الدماء..
تضحك بفم ليس به سن واحدة.
- جفت دمائي منذ عقود..
- بللي عروقك من بقايا قطرات الخريف السابق..
- لا تمطر السماء دماً
- بل لا تمطر إلا دماءً
تضحك وتحنى رأسها للخلف، فتظهر دمامل رقبتها خضراءة مستديرة كالليمون.
- اشرب إذاً..
- من قال أنني أود مص دماءك؟
- وماذا تريد.. وأيا كان ما تريد.. فلن تجده هنا.. فابحث بنفسك في القصر..
وتضحك وهي تعود محدودبة الظهر إلى كرسي قرب النافذة والمصباح الزيتي، فتتهالك فوقه وتدخن سجائرها بلا انقطاع.
- لا شيء سوى الدمامل.. وأنا أربيها كالدجاج.. ولكنك لا تعلم كم أحب دماملي الخضراء.. أتعلم لماذا أحب دماملي الخضراء؟ طبعا لا تعلم.. ولكن هذه الدمامل سرطانية وهي تعدني بالفناء.. تعدني بالفناء منذ وقت بعيد.. فأنميها دملة دملة.. وكل دملة مطلوب منها أن تأكل سنة من عمري..
-ولماذا ترغبين بالموت؟
- كما ترغبه أنت..
- وكيف عرفتِ بأنني أرغب في الموت؟..
تدخن وتقول والدخان يغطي دماملها:
- عيناك تفضحانك.. أنك كالذكر المنتصب..
- عليكِ اللعنة..
- هيا اغرب عن وجهي.. ولكن هناك قصعة عليها توت بري.. أعصره على عينيك..
فأبحث عن القصعة وأعصر التوت البري على عيني فتضحك العجوز ساخرة وهي تراني أحاول تلمس طريق عودتي دون جدوى..
ويلفظني العالم.. كعادته.. حتى عندما أمرر الموس على جوانب وجهي ولحيتي وذقني ورقبتي خالعاً تلك الشعيرات البيضاء -بعدد سهام الحب- من تربتها. يلفظني العالم السعيد مع ضب منزلي قبيح اتخذ ركن تابوتي مقبرة يلعق فيها جراحه بعينين قبيحتين.
"إنها الحياة"
أقول وأحدق فيه فتهبط جلدة صفراء تُنَشِّف عدساته الكروية المخيفة من زيت دموعه ثم تعود وتختفي خلف جفنيه المنتفخين.
وأتخيله يقول:
"سأبقى معك أو أنتحر فلا مأوى لي غير تابوتك"
ولما كان مبرره منطقياً فقد دخنا سجارة واحدة سوياً.
كانت حواف التابوت تظهر ضوءاً خافتاً قادماً من الخارج قبل أن يتبدد رويداً رويداً ليصبح الكون مسالماً.
...
المصاصون الهزليون، الهزليون الذين يوصلون الطعام إلى المنازل مقابل بقشيش كما لو كانوا مصاصين محنطين. هؤلاء الذين يفتحون أعينهم على اتساعها بغير سبب منطقي.
ها هي طلبية رؤوس العصافير. يطرقون غطاء التابوت. وتزقزق رؤوس العصافير في أوانيها ثم يغمى عليها. فابتلعها رأساً رأساً كما يفعل الفقراء في أحياء الصفيح والكرتون، أبتلعها وأحيانا أقرمشها، وأحيانا أشعر بملمس أعينها السوداء الباردة في حلقي فأتقيأؤها، ثم تتجمع الحشرات حول بقاياها فيجد الضب وليمته بدوره.
التابوت هو المكان الوحيد الذي لن تجد فيه عصافير حية ولن تجد فيه أي ساعات.
....
إنها ليلة الخروج.. المحاولة الفزعة للهروب. سأدفع غطاء التابوت ببطء وأزيزه يقض مضجع الضب. وظلالي داخل الظلام تسبق أقدامي المهرولة فوق أسقف المنازل والمعابد والمباني الحكومية وأبراج الشركات الشاهقة والفنادق والمراقص والحانات والأسواق المتخاذلة في الشتاء. سأهرول حتى أسقط من السماء إلى السماء. فأرى فتاة تترنح من السُّكر في درب خالٍ لاستصحب حينها فزعي السرمدي وأنا أغرس أنيابي الواهنة في جيدها المتسخ بلعاب قبلات من يدفعون بسخاء. ويتسرب حب الحياة إلى أوردتي، فهو ليس مجرد دم بشري، بل دم أنثى معبق بعطر المعاني الخفية للوجود ومحلى بخداع ودلال الحياة. يرتخي جسدها، فأسجيه على الأرض، ثم أطير محلقاً بجلال الخلود وبنظرات الأبهة العارمة. أصعد إلى السماء. هل أعود إلى تابوتي. أرى من تحتي الجسور تربط المدن العتيقة تاركة المياه تعبر من تحتها متجهة نحو معاركها التي لا تنتهي. هل أعود إلى تابوتي؟ فأفتح عيني حين أشعر ببطن وأقدام الضب وهي تترك خطاً بارداً فوق وجهي. تبقى عيناي مفتوحتين داخل ظلام التابوت. إذاً فقد غفوت.
...
إن اليأس الإنساني اللا محدود يتعاظم. فكل سلعة تُصنع تسرق رقعة من جنته القديمة. وكل سلعة تُصنع تزيد عزلته عن محيطه. يُداس ويُداس.. وكلما تحامل على نفسه ديس أكثر وأكثر.. حينها يتساءل: هل كانت الأم رحيمة أم مجنونة أم خليطاً من الرحمة والجنون. وتتوازى مستطيلات الالمونيوم ثم تتراكب لتحاول خلق مثلثات مفككة، الأم، الطفل والأب.
يتجدد الفزع في كون متناوب على تكوره اللا نهائي محيطاً تلك المثلثات بالمجهول. الطفل الذي تنمو أنيابه وتنمو عشبتان من الشعر خلف أذنيه، وداخل منخريه وإبطيه وعانته ليتهيأ لدخول التابوت، كان يمثل حاجة عاجلة للدراسة، لأنه لم يكن يخشى الظلام بل يشعر فيه بالكآبة.. ثم غاص فيه كلما طالت أنيابه وازداد بروز الشعر من منخريه.. كان يفقد آدميته كلما طالت أنيابه.. وكانت معدلات خسائره ترتفع. ولم تكن أمامه فرصة التحالف مع الشيطان أو حتى التمرد كهالفارد في درامية ابسن. لم يتمتع بتلك الرفاهية. وكان على المجتمع أن يلفظه، بل أن يقيده بالسلاسل ويلقي به في جوف التابوت داخل قبو قصر قديم. ثم يُنسى. سقط المثلث المعدني، فلقد كان حضوره في العالم حفنة من تخالط كيمياوي متعفن بين ذكر وأنثى، ولعنته وحده.. وحده فقط..
هل أنت مصاص دماء؟
كانت الطفلة تسأله قبل اقتياده خارج المدرسة. وكان ينظر إليها بحيرة ويتابعها من خلف نافذة العربة هامساً: لا أعرف.
ولم يزل حتى اليوم يتذكر وجهها وسؤالها بعد ثلاثين عاماً، ولا زال حتى اليوم لا يعرف الإجابة.
هل أنا مصاص دماء حقاً؟
والهمس يخترق الظلام ورائحة الضب الرابض بحرص لاقتناص الفرائس.
ويحفني الألم، العقل يتقيأ في العروق، والعروق تحمل رائحتها الزفرة، لتجوب الجسد بالسم. والتابوت لا يتيح فرصة التكور على الذات. إذ يجب أن أنام واقفاً واستيقظ واقفاً وأعيش واقفاً وسأموت واقفاً.. إن الرماد يخلف النهارات المحجوبة بالصمم. شجرة الريحان القديمة تطلق ذاكرتي تحت انصهار الشمس في بيت جدي الحجري، والسلام يظل مفقوداً منذ الطفولة، حيث يحولك الصراع اللا إنساني لوطواط.. والأعداء الذين لم يمنحك القدر فرصة الانتقام منهم؛ بل تركهم في قعر عقلك الباطن لكي ينغصوا ما تبقى من حياتك حتى لحظة الموت. الروح المكبلة تهمهم بالحزن وترفرف بلا أجنحة كي تقاوم العجز. وهنا فقط تتدلى الرغبة في المطلقات بلا جدوى ولا أمل. تزهر أطراف التابوت بالفطر وينمو الضب حتى يضحى بحجم تمساح، ثم يبدأ في قضم جسدي قطعة قطعة، من أطراف أصابع قدمي وحتى عيني.. ولن أعرف الحد الذي سيتوقف فيه عن أكلي..ولا أريد أن أسأله حتى لا يعرف أنه المسيح.
(تمت)