في محطة سيدي جابر؛ تعلن الإذاعة الداخلية عن القطار المتجه إلى القاهرة:
"نداء أخير؛ على رصيف القاهرة؛ قطار "ڤي أي بي" المتجه إلى القاهرة، درجة أولى مكيفة، فاخر بنظام الحجز، يقف بمحطة طنطا فقط".
هَرولتُ مُسرعًا إلى العربة (3)، عند الباب اِنْتَزَع أحد الحمالين حقيبتي اِنتزاعًا؛ خَطَفَها كالصقر، يُزعِجني أن يلمسَ مِقبض حَقيبتي أحد، لكنه باغتني، أصابني الخَرس!
انطلق الرجل داخل القطار؛ مُحطمًا عَجلات الحقيبة، ارتطامِها بالفواصل الحديدية بين العربتين مزَّقها!
صَرختُ:
- الشنطة.. الشنطة حرام عليك!
- رقم الكرسي كام يا أستاذ؟
- شكرًا كده.. سيبها!
احتويت حقيبتي بين ذراعَيِّ، كأبٍ عثر على طفلته بعد شتاتٍ؛ الحمال وقف واجمًا، ينزف عرقًا، مُتكئًا على ظَهرِ مقعد بمرفقه الأيمن، باسطًا إليَّ كفه، بينما الكف الآخر في جيب سترته الصفراء، ربما صفراء باهتة، قد تكون رمادية كالحة! بها زرٌ واحدٌ عند المنتصف، معقود في آخر عروة، فبدا جسده أكثر ضَخامَة، منحنيًا قليلًا ناحِية اليسار.
عابسًا.. أعطيته خمس جُنيهاتٍ ومشيت؛ عند المقعد، أُخرجت من الحقيبة ما أحتاجه أثناء الرحلة، كي لا أفارق الكرسي أبدًا! نظارة القراءة، الموبايل، قنينة ماء، البُؤساء، الرواية التي لا أملُ من قراءتِها.
وضعتهم جميعًا فوق مِقعدٍ خاوٍ على يميني؛ جلست بجوار النافذة كي أقرأ أسماء المحطات التي يجتازها القطارُ. الصدق أني أعشق التطلع وكشف المستور.
أُتابع بشغفٍ -رغم سرعة القطار- بيوتًا تتزاحم، تتملص، حوائطها تؤازر بعضها، تجور وتأكل حواف الطريق الزراعي. البيوت على كثرتِها تبدو كبيتِ واحدِ، العائلات من خلال النوافذ المفتوحة والشرفات المُشرَّعة الأبواب، توحي إليك أنها أسرة واحدة، سرعان ما تتفكك، تتباعد، تختلف، لحظة يهدأ القطار، على مشارف المحطة الأخيرة!
كانت العربة شبه فارغة؛ بضع ركاب، جميعَهم أسدل ستائر النوافذ، تأهبًا لنوم عميق. المقعدان اللذان على يميني من الناحية الأخرى -لحسن حظي- كانا خاوييَّن، فلا فضول أو ضوضاء.
وضعت نظارتي على عينَّي؛ انحنيتُ على البؤساء، لم أتركها إلا عندما كَبَّلَ السكون ضَجيجُ القطارِ، داهمني الصمتُ، تطلعت من خلاله، عبر هَرَجَ المسافرين؛ إنها مدينة طنطا.
لم تلج العربةَ سوى سيدةٌ واحدةٌ؛ ترتدي مِعطفًا أسود أنيقًا، له غطاء رأسٍ من الفرو، رمادي اللون. تتبختر في أنوثة طاغية؛ صدق حدسي حين لمحتها من بعيد، كانت تنتعل حذاءً مرتفع الكعبين، تتهادى كالطاووس، يدها اليُسرى داخل جَيبَ المِعطَفِ، تضُمُ طَرفيهِ باليد اليمنى التي تتدلى منها حقيبة سوداء، بريقها زُجاجي.
عند المقعدين الفارغين على يميني؛ وضعت حقيبة يدها على الكرسي الخارجي، في أرستقراطية مُفرطة خلعت مِعطَفها الأسود، دثرت به ظهر مقعد يقابلها، فبدا منها ما كان يحجبه المعطف.
فستانٌ أحمرٌ قصيرٌ، يكشف عن ساقين من المَرمَر، بدايات لفخذين جَسورين، خاصرة يحيط بها الفستان أجْمَلَ إحاطة، فبدت من الخلف، ڤينوس، إلهة الأنوثة والحب والجمال!
أُرَاقِبها بدهاء، نظرات خاطفة، أسرع من القطار؛ جَلسَت السيدة بجوارِ النافذة، أخرجت هاتفها المحمول.
رُغم الحذر شَعُرتُ أنها انتبهت، أيقَنَتْ أني أُراقِبُها! تَعَمَدتْ النظر من خلال النافذة حينًا، العبث في هاتفها أحيانًا، لكنها لم تلتفت ناحيتي قط!
رَجِعتُ إلى البؤساء؛ عبقرية "فيكتور هوجو" استطاعت صرف انتباهي عن سيدة أربعينية، في ذروة مجدها الأنثوي الشرس، رائحة عطرها تَراودني من حينٍ لآخر؛ تُرغِمُني على المعاودة، ألمحها بنظرة، نظرتين، الثالثة الأخيرة هبطت على ساق نامت على أختها، فزادتا من مساحة ما يشرئبُ من بين ثنايا فستانها الأحمر!
مر القطار مُسرعًا على مدينة بنها؛ كأنها لا تليق بوقوف قطارٌ مثله على أعتابها دقيقة! أو أن يتمهل ذلك الفاخر المُكَيف كي يُلقي سلامًا على نيلها العظيم، المنزوي بشاطئيه، منحصرًا عن مدينة تتشبث ببعض جمالٍ يُقاوم صَدأ السنين!
رنين هاتفها المحمول انتزعني من بين أحضان عَروس النيل؛ تتحدث بهمسٍ:
- يا بنتي كفاية حرام عليك؛ أنا اللي فيه مكفيني.
لم أنصرف عن البؤساء، بل تعمدتُ أن أبدو أشدَ انشغالًا بهم، ثم استدرتُ ناحيةَ الشُباك كي تواصل البوح بلا خجلٍ، لكنها أنهت المكالمة سريعًا. صوت الضغط على لوحة المفاتيح يصدر نغمات سريعة، متتاليةً، تحت وطأة أصابعٍ تمَلَّكها الغيظ والضجر!
فجأة.. الصوت الملائكي الرقيق تحول إلى صوتٍ خشن، صوتُ امرأة تتسكع في طرقات وسط البلد:
- شوفتِ بنت الكلب مبهدلاني إزاي! والله يا شيخة ما حطيت لقمة في بُقي طول النهار، سيبتلها طَقِتي، مشيت لأكل عيشي على لحم بطني. سِبتلها عشرين جنيه، كل اللي حلتي؛ يدوبك معايا حق المواصلات؛
خليها تطفح أي حاجة، أنا راجعة بكرة الصبح!
استشف في صوتها نبرات حزن واستعطاف؛ لكنها عادت سيرتها الأولى فور انتهاء المكالمة!
مَدَت يَدَهَا لِتلتقط حقيبتها، أخرجت أدوات المكياج، جعلت شاشة المحمول مرآتها، لتُصلح أحمر الشفاه، تسوي حاجبيها، تصفيف خصلات شعرها بكفيِّها، بينما القطار يَدخُل محطته الأخيرة؛ رمسيس.
رصيف القطار يبدو من خلال النافذة خاليًا من البشر؛ نَهَضْتُ، أنزَلتُ حقيبتي من الرف الذي يعلو هامتي، رمَيتُ البُؤساءَ بقسوةٍ داخلَ غياهِب الشنطة، كأن لم تكن يومًا جُزءًا من حياتي، تاريخي! ألقيت فوق الحياة والتاريخ كل أغراضي التي أخرجتُها من قبل، حتى نظارتي التي بدونها لا أجيد الإبصار.
انتظرتُها حتى تهيأت للخروج؛ تابعتها بنظرة رابعة، ليست كأخواتها الثلاث، تفحصت جسدها كله للمرة الأخيرة، ترجمتُ لغتهُ الشاذة. ارتدت معطفها، تمايلتْ، تمايلتُ معها، ابتلعتْ ريقها، ابتلعتُ، تخاطرتْ نحو الباب، تَمَهلتُ حتى أتقن أبعاد جسدها الثائر، المتزن بالثقة والعزيمة.
نًزَلت مُسرعةً، تابعتُها، كانت تسير بصورة أكثر اتساقا مع شخصيتها، وضعت هاتفها المحمول على أذنها، حذاؤها المرتفع لم يستطع احتواء غَضبها الفُجائي.
على باب استراحة المحطة؛ وقفتْ، لوحتْ بيدها كغريق، لمح منقذه من بعيد، أغلقتْ هاتِفَها، هرولتْ نحوه، صارتْ تختفي، تلاشتْ رويدًا بين غُرباءٍ، جلسوا خلفَ موائدٍ رماديةٍ عتيقةٍ، داخل استراحة مظلمة تشبه فم أسد عجوز تثائب دون زئيرٍ!
علي حسن
"نداء أخير؛ على رصيف القاهرة؛ قطار "ڤي أي بي" المتجه إلى القاهرة، درجة أولى مكيفة، فاخر بنظام الحجز، يقف بمحطة طنطا فقط".
هَرولتُ مُسرعًا إلى العربة (3)، عند الباب اِنْتَزَع أحد الحمالين حقيبتي اِنتزاعًا؛ خَطَفَها كالصقر، يُزعِجني أن يلمسَ مِقبض حَقيبتي أحد، لكنه باغتني، أصابني الخَرس!
انطلق الرجل داخل القطار؛ مُحطمًا عَجلات الحقيبة، ارتطامِها بالفواصل الحديدية بين العربتين مزَّقها!
صَرختُ:
- الشنطة.. الشنطة حرام عليك!
- رقم الكرسي كام يا أستاذ؟
- شكرًا كده.. سيبها!
احتويت حقيبتي بين ذراعَيِّ، كأبٍ عثر على طفلته بعد شتاتٍ؛ الحمال وقف واجمًا، ينزف عرقًا، مُتكئًا على ظَهرِ مقعد بمرفقه الأيمن، باسطًا إليَّ كفه، بينما الكف الآخر في جيب سترته الصفراء، ربما صفراء باهتة، قد تكون رمادية كالحة! بها زرٌ واحدٌ عند المنتصف، معقود في آخر عروة، فبدا جسده أكثر ضَخامَة، منحنيًا قليلًا ناحِية اليسار.
عابسًا.. أعطيته خمس جُنيهاتٍ ومشيت؛ عند المقعد، أُخرجت من الحقيبة ما أحتاجه أثناء الرحلة، كي لا أفارق الكرسي أبدًا! نظارة القراءة، الموبايل، قنينة ماء، البُؤساء، الرواية التي لا أملُ من قراءتِها.
وضعتهم جميعًا فوق مِقعدٍ خاوٍ على يميني؛ جلست بجوار النافذة كي أقرأ أسماء المحطات التي يجتازها القطارُ. الصدق أني أعشق التطلع وكشف المستور.
أُتابع بشغفٍ -رغم سرعة القطار- بيوتًا تتزاحم، تتملص، حوائطها تؤازر بعضها، تجور وتأكل حواف الطريق الزراعي. البيوت على كثرتِها تبدو كبيتِ واحدِ، العائلات من خلال النوافذ المفتوحة والشرفات المُشرَّعة الأبواب، توحي إليك أنها أسرة واحدة، سرعان ما تتفكك، تتباعد، تختلف، لحظة يهدأ القطار، على مشارف المحطة الأخيرة!
كانت العربة شبه فارغة؛ بضع ركاب، جميعَهم أسدل ستائر النوافذ، تأهبًا لنوم عميق. المقعدان اللذان على يميني من الناحية الأخرى -لحسن حظي- كانا خاوييَّن، فلا فضول أو ضوضاء.
وضعت نظارتي على عينَّي؛ انحنيتُ على البؤساء، لم أتركها إلا عندما كَبَّلَ السكون ضَجيجُ القطارِ، داهمني الصمتُ، تطلعت من خلاله، عبر هَرَجَ المسافرين؛ إنها مدينة طنطا.
لم تلج العربةَ سوى سيدةٌ واحدةٌ؛ ترتدي مِعطفًا أسود أنيقًا، له غطاء رأسٍ من الفرو، رمادي اللون. تتبختر في أنوثة طاغية؛ صدق حدسي حين لمحتها من بعيد، كانت تنتعل حذاءً مرتفع الكعبين، تتهادى كالطاووس، يدها اليُسرى داخل جَيبَ المِعطَفِ، تضُمُ طَرفيهِ باليد اليمنى التي تتدلى منها حقيبة سوداء، بريقها زُجاجي.
عند المقعدين الفارغين على يميني؛ وضعت حقيبة يدها على الكرسي الخارجي، في أرستقراطية مُفرطة خلعت مِعطَفها الأسود، دثرت به ظهر مقعد يقابلها، فبدا منها ما كان يحجبه المعطف.
فستانٌ أحمرٌ قصيرٌ، يكشف عن ساقين من المَرمَر، بدايات لفخذين جَسورين، خاصرة يحيط بها الفستان أجْمَلَ إحاطة، فبدت من الخلف، ڤينوس، إلهة الأنوثة والحب والجمال!
أُرَاقِبها بدهاء، نظرات خاطفة، أسرع من القطار؛ جَلسَت السيدة بجوارِ النافذة، أخرجت هاتفها المحمول.
رُغم الحذر شَعُرتُ أنها انتبهت، أيقَنَتْ أني أُراقِبُها! تَعَمَدتْ النظر من خلال النافذة حينًا، العبث في هاتفها أحيانًا، لكنها لم تلتفت ناحيتي قط!
رَجِعتُ إلى البؤساء؛ عبقرية "فيكتور هوجو" استطاعت صرف انتباهي عن سيدة أربعينية، في ذروة مجدها الأنثوي الشرس، رائحة عطرها تَراودني من حينٍ لآخر؛ تُرغِمُني على المعاودة، ألمحها بنظرة، نظرتين، الثالثة الأخيرة هبطت على ساق نامت على أختها، فزادتا من مساحة ما يشرئبُ من بين ثنايا فستانها الأحمر!
مر القطار مُسرعًا على مدينة بنها؛ كأنها لا تليق بوقوف قطارٌ مثله على أعتابها دقيقة! أو أن يتمهل ذلك الفاخر المُكَيف كي يُلقي سلامًا على نيلها العظيم، المنزوي بشاطئيه، منحصرًا عن مدينة تتشبث ببعض جمالٍ يُقاوم صَدأ السنين!
رنين هاتفها المحمول انتزعني من بين أحضان عَروس النيل؛ تتحدث بهمسٍ:
- يا بنتي كفاية حرام عليك؛ أنا اللي فيه مكفيني.
لم أنصرف عن البؤساء، بل تعمدتُ أن أبدو أشدَ انشغالًا بهم، ثم استدرتُ ناحيةَ الشُباك كي تواصل البوح بلا خجلٍ، لكنها أنهت المكالمة سريعًا. صوت الضغط على لوحة المفاتيح يصدر نغمات سريعة، متتاليةً، تحت وطأة أصابعٍ تمَلَّكها الغيظ والضجر!
فجأة.. الصوت الملائكي الرقيق تحول إلى صوتٍ خشن، صوتُ امرأة تتسكع في طرقات وسط البلد:
- شوفتِ بنت الكلب مبهدلاني إزاي! والله يا شيخة ما حطيت لقمة في بُقي طول النهار، سيبتلها طَقِتي، مشيت لأكل عيشي على لحم بطني. سِبتلها عشرين جنيه، كل اللي حلتي؛ يدوبك معايا حق المواصلات؛
خليها تطفح أي حاجة، أنا راجعة بكرة الصبح!
استشف في صوتها نبرات حزن واستعطاف؛ لكنها عادت سيرتها الأولى فور انتهاء المكالمة!
مَدَت يَدَهَا لِتلتقط حقيبتها، أخرجت أدوات المكياج، جعلت شاشة المحمول مرآتها، لتُصلح أحمر الشفاه، تسوي حاجبيها، تصفيف خصلات شعرها بكفيِّها، بينما القطار يَدخُل محطته الأخيرة؛ رمسيس.
رصيف القطار يبدو من خلال النافذة خاليًا من البشر؛ نَهَضْتُ، أنزَلتُ حقيبتي من الرف الذي يعلو هامتي، رمَيتُ البُؤساءَ بقسوةٍ داخلَ غياهِب الشنطة، كأن لم تكن يومًا جُزءًا من حياتي، تاريخي! ألقيت فوق الحياة والتاريخ كل أغراضي التي أخرجتُها من قبل، حتى نظارتي التي بدونها لا أجيد الإبصار.
انتظرتُها حتى تهيأت للخروج؛ تابعتها بنظرة رابعة، ليست كأخواتها الثلاث، تفحصت جسدها كله للمرة الأخيرة، ترجمتُ لغتهُ الشاذة. ارتدت معطفها، تمايلتْ، تمايلتُ معها، ابتلعتْ ريقها، ابتلعتُ، تخاطرتْ نحو الباب، تَمَهلتُ حتى أتقن أبعاد جسدها الثائر، المتزن بالثقة والعزيمة.
نًزَلت مُسرعةً، تابعتُها، كانت تسير بصورة أكثر اتساقا مع شخصيتها، وضعت هاتفها المحمول على أذنها، حذاؤها المرتفع لم يستطع احتواء غَضبها الفُجائي.
على باب استراحة المحطة؛ وقفتْ، لوحتْ بيدها كغريق، لمح منقذه من بعيد، أغلقتْ هاتِفَها، هرولتْ نحوه، صارتْ تختفي، تلاشتْ رويدًا بين غُرباءٍ، جلسوا خلفَ موائدٍ رماديةٍ عتيقةٍ، داخل استراحة مظلمة تشبه فم أسد عجوز تثائب دون زئيرٍ!
علي حسن
