عبدالنبي النديم - «ولسه في العمر بقية».. قصة قصيرة

تشير عقارب الساعة إلى الثانية ظهراً، لم يتبق من كسح الألغام سوى مساحة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الكليو متر المربع، وتعد أشد المناطق خطورة، بعد أن تراكمت عليها كميات كبيرة من الرمال، جعلت تطهير الأرض ونزع الألغام أشد خطورة إذا خف ضغط الرمال من عليها.

الكل في حالة تأهب وحذر ..وشوق إلى تطهير سيناء من مخلفات من أرادوا فصلها عن جسد مصر، بعد أن غسلتها دماء شهداء أكتوبر73 من دنس العدو.

اللواء مهندس «متقاعد» صبيح العادلي المشرف على فريق عملية نزع الألغام، يطلب من الفنيين والعمال مواصلة العمل بالمنطقة المتبقية..

يطلق جهاز كشف الألغام صافرة تحذير في يد أحد الفنيين المتخصصين، يتوقف الفني تماما مكانه، يطلب منه المهندس صبيح أن يعود للخلف، بحذر..

ينظر صبيح إلى أشرف الجزار، أمهر الفنيين في فرقته، يشير إليه بتولي مسئولية الحفر بالبقعة التي حددها الجهاز.

تردد المهندس صبيح في طلبه من أشرف الحفر حول اللغم في بداية هذه المنطقة الصعبة، لكن أشرف أرسل إليه إبسامة ثقة قائلا: مش أول مرة يا سيادة اللواء، دقيقتين وأجيبلك اللغم متكف..

كانوا يعلمون جيدا العواقب التي يمكن أن تقع في حالة انفجار اللغم في أحدهم ..

تحمس الفنيون والعمال من حديث أشرف الجزار، رغم علامات القلق التي ارتسمت على وجوههم، ناظرين إلى السماء طالبين المدد، يتطلعون إلى رؤية سيناء واحة وارفة تسر الناظرين, الكل يعلم أن هذه الألغام هى الحائل بين سيناء وفتح أبوابها لأبناء مصر لتعميرها والاستثمار في خيراتها.

اندفع أشرف متحمسًا تتابعه نظرات المهندس صبيح، الذي أمر بقية العمال والفنيين بأن يستتروا خلف أحد التلال القريبة من مكان اللغم..

نهش أشرف الأرض بمعول صغير في يده، يحث الأرض على لفظ اللغم من بطنها، وخلال انهماك أشرف في حفر الأرض وتوسيع الحفرة فوق اللغم، وعلى عمق أكثر من مترين انهار جانب من الحفرة فسقطت الرمال من جانب الحفرة على كعب قدم أشرف، أحس بسخونة الرمال على قدمة، فأغمض عينيه ..لم تحن اللحظة بعد .. التفت ببطء وحذر إلى الخلف, وقعت عينيه على العدو الذي طل بجانبه، في عمق الحفرة ولحسن الحظ كان الحفر بجوار اللغم وليس فوقه مباشرة، فظهر اللغم مطلاً على الحفرة، وأحكمت الرمال السيطرة عليه.

طلب المهندس صبيح من أشرف ألا يتحرك بسرعة ويخرج ببطء شديد من الحفرة، ينظر أشرف إلى المهندس راجياً منه أن يترك له التعامل مع اللغم، فقد تعلم على يديه وأصبح من أمهر الفنيين في التعامل مع نزع الألغام، على أطلقوا عليه لقب الجزار من كثرة الألغام التي قام بإزالتها، ولم يستعصي عليه لغم واثبت قدرته على التفوق في هذا المجال.

يأمره المهندس صبيح بالخروج بهدوء من الحفرة..

ارتدى المهندس صبيح الملابس المخصصة لهذه العمليات الخاصة بإزالة الألغام، واقياً لصدره ورأسه, طالبا من أشرف بأن يبتعد ويتخذ ساتراً هو الآخر.

تردد أشرف في ترك المهندس وحده داخل الحفرة طالباً منه أن يبقى بجواره، بادره المهندس صبيح «كفاية عليك كده يا بطل».. ولوقدر الله يتصاب واحد فقط مش احنا الاتنين..

قفز بهدوء داخل الحفرة ..

نزل المهندس صبيح إلى الحفرة ..التي اتخذ منها ساتراً في حرب أكتوبر 1973, بعد أن سقطت قنبلة بالقرب منه وأصابت شظية ذراعه .. فلم يعرها اهتماماً وربط ذراعه بمنديل ليوقف نزيف الدم وليكمل المسيرة مع زملائه .. حتى لا تفوته معهم لذة النصر والاستيلاء على الموقع المحدد لفرقته.

الكل في حالة رباط وإصرار، يتحلون بالعزيمة لا يهابون قذائف الطائرات من فوقهم، ودانات الدبابات والمدافع، يواجهون الدبابات بصدورهم ويحولونها إلى حطام، يصادون جنود العدو الذين هربوا من الجحيم الذي أشعله المصريون، لتطهير الأرض، يسطرون ملحمة يسطرها التاريخ بحروف من نور ودماء..

ينزف ذراع صبيح من تحت الرباط بشدة ..

لم ينتبه لجرحه.. أخذته نشوة وفرحة النصر، فسقط مغشيًا عليه ..

أفاق صبيح على طلة اللغم الظاهر أمامه بالحفرة ..أخذ يتحسسه بحذر شديد، يجس التربة من حوله .. يزيل الرمال ببطء شديد من فوق اللغم، يتخذ من الوسائل الفنية التي تدرب عليها طوال خدمته بالقوات المسلحة، لترويض اللغم، محاولا ألا ينفلت الضغط من على اللغم..

ربما في بعض الأوقات تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن..

هبت رياح لا تتناسب مع قيظ الصحراء ..حملت رمالاً ناعمة أصابت عينى صبيح، حاول البقاء ثابتاً محله دون حركة، لم تسعفه عيناه، دارت به الدنيا .. مع انهيار الحفرة وهو بداخلها, قبل أن يفكر صبيح الخروج منها..

انفجر اللغم.. ودارت به الدنيا ..

يحمل صبيح زميله التي أصابته رصاصة في ساقه، خلال إحدى عمليات حرب الاستنزاف بعد عبور قناة السويس ليلا، ومهاجمة أحد النقاط الحصينة للعدو على الجانب الآخر من القناة، التي بثت الرعب والخوف من الجنود المصريين بعد أن ظنوا أن الجيش المصري لن تقوم له قائمة مرة أخرى، ولكن سرعان ما عادت الأمور لمسارها الطبيعي ليثبت الجندي المصري أنه صانع ماهر للتاريخ، ويهوى دائما صناعة المعجزات، وأن الوطن يعيش بداخله.

بقارب مطاطي عبرت كتبية الجنود بقيادة صبيح، للغارة على نقطة العدو الحصينة شرق القناة، لم يتركوا فيها شيئا إلا وأبدوه عن بكرة أبيه، نجحت العملية وزادت من الرعب في صدور جنود العدو، وهموا في العودة، بعد أن حمل صبيح على كتفه جندي زميله أصابته طلقه طائشة أصابت ساقه.

في طريقهم للعودة، وقبل أن يخرجوا من الموقع، كانت هناك نقاط حراسة تراقب النقطة الحصينة للعدو، فتتبعتهم دبابة نجت من تدمير المعسكر لبعدها عنه وقت الهجوم للحراسة، اقتربت مذعورة من الجنود المصريين غير مصدقين لما رأوا من تدمير لأقوى النقاط الحصينة لديهم، تعوى على كلابها التي نهشتها الأسود المصرية..

يطلب صبيح من الجنود أخذ ساتر، واضعا زميله من كتفه، خلف صخرة في حضن الجبل المحيط بالموقع وعاد لمواجهة الدبابة، بـ«سلاح أربي جيه»، فقد تعاهدوا ألا يخرج أحد من الموقع حيًا، فكيف تبقى دبابة بطاقم جنودها أحياء؟

على بعد أمتار من الدبابة اختار موقعاً مواجهاً لها، ليجعل منها صيداً سهلاً أعلى لوح خشبي يغطي حفرة عميقة، مواجهاً ماسورة الدبابة، حاملاً فوق كتفه سلاحه المضاد للدبابات، وارتكز على إحدى قدميه مصوبا تجاهها، انطلقت القذيفتان.. فاهتز اللوح الخشبى..

أفاق صبيح على هلع عماله ونثرهم الماء على وجهه, أزالوا الملابس الواقية من على صدره ورأسه، وقدمه ، بعد أن أزاحوا الرمال التي غطت جسده قبل انفجار اللغم الذي أمهل الحفرة فرصة للانهيار عليه.. ذعر وقلق بين العمال..

يحاول أشرف حمل المهندس صبيح إلى المستشفي..

يضحك صبيح قائلاً: مستشفي تاني!!

أنا رجعت لوعيى مرة أخرى متقلقش.

ومش هنخرج من سينا إلا لما نطهرها طول ما فينا نفس..

ينظر أشرف معاتباً..

فيبتسم المهندس صبيح متفائلاً: ولسه في العمر بقية..

يقبِل أشرف رأس المهندس صبيح على أرض سيناء الطاهرة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى