سامح رشاد - امرأة محفوفة بالعطب

أخذ ضوء النهار ينحسر تدريجيًا، واللّيل يتقدم عليه ببطء. شدت "جميلة" شالها البالي حول كتفيها لاتقاء برد الغرفة، وحاولت تحريك أناملها برفق علّها تُرخي مفاصلها التي تجمدت بفعل البرد. خاطبت نفسها وهي تتنهد: "وحشتيني يا ابنتي".

عند منتصفِ الليلِ فتحتْ عينيها، وشعرتْ بالعطشِ. مدتْ يدها إلى كوبِ الماء الموضوع إلى جانب سريرُها، كان الكوب فارغٍ.

قررتْ أن تنهض وتجلب ماءً، لكنها شعرتْ أنّ قدماها مشلولتين. وضعتْ رأسِها على الوسادة وطلبتْ النوم أن يأتيها. جاء النوم على شكل أحلام مزعجة، فتحت عينيها وأنصتت للّهاث خوفِها. جلستْ على السرير وظلت تحدق في زوجها النائم لجوارها.

ناداها من خلفها صوت متهدّج تتطاحن فيه ذكريات أليمة. تسمرت مكانها مطأطة الرأس، ران عليها صمت هائل

، هامت خلاله في صحراء من الذكريات.

لم يداعب النوم جفنيها في ليلّتها، فلم تكن تلك اللّيلة إلا لمحةٌ واهيةٌ من أضغاث أحلام. فبعد تلك الليلة ولمدة سبعة ليالٍ أخرون ظل القلق يساورها، والخوف يحتضنها.



إذ رأت، ولم تقص، ورأت ولم تقص وفي الليلة الثالثة رأت وسُّهدت، وبعد ليالٍ طوالٍ دان وهنُها، وازدادت دموعها التي لم تنضب ولم تجف من على خديها، ولم تعد" جميلة" قادرة على القبض على الحلم.

لم يلحظ "زوجها" أي أثر للحزن أو الكمود قد يكون بائن على مظهرها، وذلك حتى لا تثقل عليه، فكم خبأت دموعها في محجريها، خشية من تألمه، محاولة كل يوم الابتسام بجهد يستحق أن يحقق الرضا له.

" تناغش سمعها ريحٌ عقور، وتأوه نصل ينغرز في القلب، تُسدل" جميلة" على عينيها طرفَ وشاحها الأبيض، وبطرف عينها ترى ظل طائر جارح يأتي من السماء، يقبض على النصل بمنقاره الحاد، فيخرجه من قلبها

تزاحمت الدموع واندفعت كالسيل إلى مقلتيها، ارتعدت شفتها، وتذكرت نفسها حين اُلتقطتْ من الشارع في ليلة باردة غير مُنعمة بضوء قمر. وكأن تلك الأحلام تحمل رسالة من ماضٍ تحاول نسيانه.

. قصّت "جميلة" رؤيتها وقد خبا من روحها شعاعه، وشحب محياها، وانطفأت عيناها على مسامع جارة لها. مرّ دقائق والجارة تغوص في صمت مطبق، هالها من خلاله جمودًا ينوء تحت وطأة خوفٌ، ثم ارتسم على قسماتها السرور في محاولة بائسة في إخفاء تأويلها المحفوف بالخيبات.

قفلت "جميلة" باب شقتها، بعد أن غادرت جارتها وجلست مكدورة مهمومة، لا تدري من أين تبدأ في جمع لمام الامور، فتكرار حلمها يُعني إزدواجيتها في ذاتها، فالذات الأولى "الجسد" يريد شيء قد مضى، والذات الثانية "الروح" تحاول مطابقة هذه الرغبة ولا تقبل بغيرها لكنها تعجز عن كسر قوانين الطبيعة وفصلها عن القيام بمقتضى أمورها.

فمنذ وفاة ابنتها الوحيدة، وهي لم ترى لحياتها أي معنى ظاهر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى