محمد مصطفى العمراني - هند والضحية الأخيرة !

بعد أيام من بقائي في الفندق انتقلت للتو إلى هذه الشقة في الفيصل بالقاهرة ، ما كدت أستقر وأرتب ملابسي في الدولاب حتى طرق البواب بابي ، سلمني عقد الإيجار وأعاد لي الجواز بعد أن صوره ثم حك رأسه قائلا :
ـ مش عايز حاجة يا أستاذ محمد ؟
ـ لا متشكر
الشقة أستأجرها صديق لي ، وبدوري دفعت الإيجار ودفع هو البقشيش للبواب ، لكنه يريد مني أيضا بعض النقود ، دسست يدي في جيبي وأعطيته 150 جنيه قائلا :
ـ ما تغلاش عليك .
ما إن تسلم النقود حتى أشرق وجهه بفرحة كبيرة ، أغلق الباب ثم جلس على أقرب كرسي قائلا :
ـ سجل نمرتي عندك ولو تحتاج حاجة من البقالة أو المطعم ، أو أي حاجة أديني رنة ودقائق أكون عندك .
سجلت رقم هاتفه وشكرته مرة أخرى ، نظرت إليه كأنه يريد أن يقول شيئا لكنه أستأذن وخرج .!
أغلقت الباب خلفه وعدت لترتيب الأشياء ، أذن المغرب فصليت ، وحين بدأت أتجهز للخروج طرق الباب ، هو البواب سيشغلني ولكني سأضع حدا لتصرفاته ، فتحت الباب ، امرأة تحمل طفلا وتجر آخر سألتني :
ـ لا مؤاخذة مش دي شقة غادة ؟
ـ لا مش شقتها
ـ أومال شقتها فين ؟
ـ مش عارف ، أنا ساكن جديد اسألي البواب .
خرجت إلى الدقي للقاء صديق ، وضعت عنده نقودي إلا ألف جنيه أبقيتها معي ، بقينا نتحدث وتعشيت عنده ثم ذهبت إلى وسط البلد ، اشتريت من مكتبة الشروق بعض الكتب ثم عدت .
ما كدت أبدل ملابسي حتى طرق الباب ، سألت نفسي :
ـ هل ستأتي إحداهن تبحث عن شقة غادة ؟
فتحت الباب فأندفع البواب إلى الداخل :
ـ مساء الخير
ـ مساء النور
ـ مبسوط بالشقة يا أستاذ ؟ ما يلزمكش حاجة ؟
ـ لو يلزمني كنت أتصلت بك
همس لي كأني يفشي لي سرا :
ـ لو عايز بنت تونسك وتسليك وتبيت معاك بدل ما أنت لوحدك أنا مستعد أجيبها
ـ لا مش عايز
ـ يا جدع هيص وعيش أنت لسه شباب
أغلظت له القول فأنصرف :
ـ كان قصدي أخدمك .
لم تتركني الزوجة لأقرأ الكتب ، أمطرتني برسائل واتصالات بالنت ، بعد أن شاهدت الشقة كاملة قالت :
ـ حلوة ، بس لو كانت على الشارع الرئيسي .
ثم ظلت توجه لي نصائحها ، وتحذرني من بنات مصر حتى غلبني النوم .
في اليوم التالي صحوت متأخرا ، كنت متشوقا لزيارة سور الأوزبكية الشهير ، لقد قرأت عنه كثيرا وهاهي الفرصة قد جاءت لزيارته ، اشتريت بعض المجلات القديمة والكتب وعدت ، وضعت الكتب والمجلات وخرجت أجرب النصيحة التي تلقيتها من كثيرين عن الحمام المحشي في مطعم المنوفي بالفيصل ، كانت النصيحة في محلها .
ما كدت أبدل ثيابي وأجهز لي قهوة للسهرة حتى طرق الباب ، فتحت فاندفعت فتاة داخلة إلى الشقة تسألني :
ـ أنت الأستاذ محمد ؟
أدهشتني المفاجأة ، تجمدت لساني ، بلعت ريقي ، ثم تماسكت :
ـ أيوه أنا
ـ أنا الشغالة
ـ بس أنا ما طلبتش شغالة ، مين جابك ؟
كان الباب لا يزال مفتوحا ، وحينها أندفع البواب :
ـ أنا جبتها ، بنت غلبانة ومنكسرة وبنت ناس أعرفهم ، هتكنس وتمسح وتطبخ وتغسل لك هدومك وكل دا بمية جنية باليوم .
ـ بس أنا مش عايز شغالة
قاطعني :
ـ سيب البنت تسترزق ، أسرتها مش لاقيين يأكلوا .
ـ أسرتها مش مشكلتي ، وبعدين زوجتي ستصل غدا
ـ خلاص تقعد معاك لحد ما تجي زوجتك
صرخت فيه :
ـ مش عايز حد يقعد معي
غادرت فهمس لي :
ـ خلاص ما تزعلش أديك مشيتها ، البنت جاءت من حلوان على ملا وشها ، على الأقل إديها أجرة المواصلات ، اعتبرها صدقة يا أخي .
أعطيته 100 جنيه فلحق بها ، أغلقت الباب كأنني تخلصت من كابوس .
عكر دمي الله يعكر دمه .
لم تمض ساعة حتى طرق الباب ، قلت لنفسي :
ـ والله لو يطرق الباب للصبح ما أفتح له
زاد الطرق بقوة وسمعت صوت أجش :
ـ إفتح بوليس
فتحت الباب فاندفع خمسة من الأشخاص بملابس البوليس البيضاء صرخ أحدهم :
ـ عندك دولارات ؟
ـ لا ما عنديش لا دولارات ولا دينارات
وأضفت :
ـ معك إذن بتفتيش الشقة ؟
كنت قد رأيتهم في الأفلام والمسلسلات يطلبون الإذن ، أخرج من جيبه ورقة رسمية تفيد بتكليفه بالتفتيش في شقق الأجانب عن الدولارات المزيفة .
أعادها إلى جيبه :
ـ لو عندك دولارات هنفحصها ونجيب لك سند استلام رسمي تستلم بموجبه دولارات صحيحة من البنك بكرة .
فتشوا الشقة بشكل دقيق ولم يجدوا شيئا ثم غادروا .
صباح اليوم التالي حين ذهبت للبقالة المقابلة رأيت البواب والفتاة بجواره فسألت البقال العجوز :
ـ لو سمحت يا عم أنت تعرف البنت اللي مع البواب ؟
ـ أيوه دي هند بنته
وأضاف :
ـ ليه في حاجة ؟
ـ أصله جابها أمس لعندي على أنها شغالة من حلوان
بصق البقال قائلا :
ـ تف عليه إخص منك يا دسوقي يا كلب الفلوس
غلي الدم في عروقي فعدت إليه وأمسكت بتلابيبه :
ـ مش عيب عليك ؟ كل يوم تعمل علي مسرحية جديدة .!
وأضفت :
ـ مش حتبطل حركاتك دي ؟!
أرتبك وتلعثم قائلا :
ـ ما أنت طلعت ناصح وما خدوش منك مليم أحمر
ـ هما مين يا ظلالي ؟
ـ اللي جم علشان الدولارات
ـ وكمان دول بتوعك ؟!
حينها أرتفع عندي السكري وفقدت أعصابي فعلا وشددت الخناق عليه وأنا أصرخ فيه :
ـ أنا هلم كل اليمنيين سكان العمارة ونروح لصاحبها يشوف صرفة معاك يا نصاب
وفوجئت به ينهار باكيا ويترجاني :
ـ أبوس إيدك توبة لو زدت عملت لك حاجة ، أنا غلبان ألم حق الدواء لأمي
دفعته بعيدا :
ـ وكمان حتكذب روح الله لا يكسبك
كان بعض سكان العمارة والمارة قد تجمعوا حولنا وهم في ذهول ودهشة ، لقد أعجبهم ما عملته بالبواب ، ورأيت في وجوههم شماتة بالبواب الذي ظل لأشهر يكذب عليهم بشتى الوسائل ، بينما مضى يمسح دموعه حتى أختفى في قبوه .!

******

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى