عبدالله قاسم دامي - رحالة القدر

إنخفض منسوب النيل، لم يُحصد محصولٌ في ذالك الموسم المشؤوم، تجمع رجال القرية للتشاور في إحدى أمسيات الصيف أمام راكوبة حاج عبدالله الرحالة، الرّجل الستيني النحيف مستطيل الوجه بارز الإبتسامة رغم فقره، الودود رغم غربته، عُرف بالسخاء عند أزمنة الشدّة والصلح عند الفتن والرأي عند المحن، قدّم لهم الجبنة فافترشو الأرض وهم يدور بينهم الهظار تناسيا للشتات.

"أكان عندي الليلة شوال بتاع عجور ... علي الطلاق كنت بعته بعشرة ألاف" بالدارجية العامية اختلطت الونسات وارتفعت أصوات القهقهة ومُسحت الشوارب فخراً وعِزاً وإن دلّت كآبة المنظر وبؤس العراريق أمرا آخر.

تبتعد الشمس غربا، شرقا تسيل دموع النيل حزناً على قوت العيال، القدر يراقب من بعيد ليصفي معادن من في تلك القرية المتهالكة المتباعدة البيوت التي بنيت رواكيبها من فضلات الأبقار الممزوجة بالطين.

أطفال يلعبون كُرة الشُرّاب، إمرأة تركض نحو القرية المجاورة تحمل فوق رأسها بعضا من قش الحمير، بابور تآكله الصدأ منذ زمن، طيور تروح إلى النيل حيث الأعشاش حيث الماء القليل.

"يا حاج عبدالله ألم تجد لنا مخرجاً بعد" سؤال طرحه عم بابكر وأيده باقي رجال القرية ب "أي والله ياخي، شوف لينا حل ياخي".

كيف لا يجد لهم مخرجاً عن محنة الجفاف وهو الذي خمد الفتنة عندما طعن ود مهنّد بابنة كباشي في منطقة حساسة بعد رفضها بزواجه.

حك شواربه البيضاء وحفر الأرض بأصبعه ثم حك شعره الشيّب فسكت طويلا.

فجأة، سُمع صوت رجل ينادي بما أوتي من قوة "يا ناس القرية هووووي ... يا ناس القريااااا ... النيل جاي ... النيل جاي". قام الجميع مفزوعين تاركين الجبنة ليلمّمو أمتعتهم تحسّباً للفيضان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى