كرة القدم عبدالسلام بنعبدالعالي - فرقنا الكروية.. أوطاننا الجديدة

يكتفي بعض بأن يطرح قضية كرة القدم طرحًا أخلاقيًّا فيستنكر الأهمية التي قد تغدو مبالغًا فيها في بعض الأحيان، وتُعطَى للكُوَيْرة الصغرى على حساب قضايا الكرة الكبرى. وهو لا يقتنع بهذا المنحى الذي اتخذته هذه الرياضة التي أصبحت «تشغل الإنسان اليوم عن أمور أخرى أكثر جدية وأعلى أهمية»، فيرى أن هذه اللعبة، رغم أنها تروّج الملايير وتشد الجماهير وتجند الطاقات، فإنها تظل لعبة في نهاية الأمر، ولا ينبغي لها أن تنسينا حروبنا وتلهينا عن صراعاتنا ومبارياتنا «الحقيقية». وعلى الرغم من ذلك فإن أصحاب هذا المنظور يظلون عاجزين أن يثنونا عن الاعتقاد بأن ما ينعتونه بـ«مجرد لعبة»، يشكل اليوم إحدى النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطلّ منها على الحياة المعاصرة. وعلى أية حال، حتى إن لم نعدّ اليوم الرياضةَ بصفة عامة، وكرةَ القدم على وجه الخصوص، مفتاحًا من أهم المفاتيح لفهم العالم المعاصر، فلن يكون من السهل علينا، على الأقل، نفي أهميتها الاقتصادية والسياحية، بل دورها السياسي.

لا يكفي، بطبيعة الحال لإدراك ذلك، الاستدلال على أهمية الرياضة على العموم، وكرة القدم خاصة، وإبراز فوائدها الصحية ودورها في تربية الأجسام والعقول، بل في تطوير القدرات الجسدية والتحطيم المطرد للأرقام القياسية؛ إذ إن الأمر الذي يعنينا هنا لا يكاد يتعلق بالرياضة الكروية بهذا المعنى حيث كان بإمكان جميع أطفال العالم، مهما كان وضعهم الاجتماعي والجغرافي، أن يصنعوا كرة من قش ويضعوا قطعتي حجر على جنبات الطريق ويخوضوا في مباراة تستغرق الساعات.

كرة القدم التي تعنينا هنا «لعبة» في غاية الجدّ، حيث غدا لاعبُها اليوم مهووسًا بقضايا لا علاقة لها إطلاقًا بـ«اللعب»؛ إذ المطلوب منه، أوّلًا وقبل كل شيء، أن يحقق الانتصار، ومن الأفضل أن يكون «انتصارًا ساحقًا»، وهذا الانتصار يقدَّر كمّيًّا قبل كل شيء، فهو عدد من الإصابات. لا يهمّ، لبلوغ ذلك، مختلف أشكال التحايل التي سيلجأ إليها من إضاعة للوقت، أو خروج عن قواعد « اللعبة»، أو مراوغة للحكم، أو حتى تعنيف الخصم. المهم هو النتيجة، ولا شيء غير النتيجة (حتى إن اقتضى الأمر دفع الكرة نحو المرمى باستعمال الأيدي كما فعل أحد اللاعبين، مضلِّلًا الحكم). النتيجة هي التي سترفع من قيمة اللاعب في«سوق» اللاعبين، هي التي سترفع ثمنه وتفتح له أبواب النوادي الكبيرة، وهي التي ستجلب لقميصه أغلى الإعلانات، هي التي ستبرز الوطن الذي ينتمي إليه وترفع «رايته» بين الأعلام الدولية. بل إنها قد تُوجِد ذلك الوطن إيجادًا فلا يعود «تلك البقعة الصغيرة المنسية على خريطة العالم». «لاعبنا» إذًا لا يلعب، ولا يحق له حتى ابتكار أساليب جديدة، بل عليه أن«ينضبط» ويمتثل للخطط المرسومة، و«الأهداف» المتوخاة. وهي أهداف تتجاوزه كلاعب، وكفرد ما دام يمثّل بلدًا بأكمله، إنه ليس لاعبًا بل هو قميص له لون ويحمل إعلانات. وإنجازه سيتخذ قيمة اقتصادية وسياحية بل سياسية. لذا فهو متيقّن من أنه يقدّم لبلده أنجع الخدمات الدبلوماسية، فهو ليس سفيرها في وطن بعينه، إنه سفير في العالم بأكمله.

يظهر إذًا أن ما يتحكم في كرة القدم في عالمنا المعاصر يكاد لا تكون له علاقة بالرياضة، أو على الأقل بالرياضة بالمعنى الذي كنا نقبله. كرة القدم ومبارياتها ومهرجاناتها ولقاءاتها تحيل اليوم إلى الرياضة بمعنى مخالف تمام الاختلاف، لا إلى الرياضة كلعبة، إنما إلى الرياضة كمؤسسة لها إدارتها وحُكّامها، والحاكمون فيها وعليها، مؤسسة لها قوانينها وبنياتها، وموازين قوة تتباين وفق البلدان والمناطق، وفق الجغرافية والسياسة. وهي مؤسسة يحكمها الاقتصاد وتحكم هي الاقتصاد، مؤسسة لها أسواقها وبورصاتها ومنطقها الاقتصادي الخاص.

ليونيل ميسي والكرات الذهبية
بُعد ميتافيزيقي

هذه «الرياضة» لم يكن لها وجود حتى وقت قريب. قد يقال: إن الألعاب الرياضية مغرقة في القدم، هذا صحيح، لكنها بالضبط كانت «ألعابًا»، ولم تكن تخضع لقواعد دولية، يسهر على تنفيدها حكام دوليون، وتنظّم على صعيد دولي، وتتبارى فيها الدول والأنظمة، بل تتصارع الأيديولوجيات، وتتنافس لنقلها كِبَار القنوات كي تخلق النجوم وترسّخ العلامات وتحتكر الإعلانات. بل إن بإمكاننا أن نذهب أبعد من ذلك بكثير، ونقول: إن لهذه الرياضة اليوم بُعدًا ميتافيزيقيًّا من ناحية أنها تروّج الفانتاسمات وتخلق الهويات، أو تكرّسها على الأقل، فتؤجج الانتماءات، وتسوّق وهْم الولاءات، وتحدد موازين قوى وتضبط علائق. وفي هذا الإطار ما زلنا نذكر ما راج في فرنسا في المونديال سنة 2006م إذ تحدّث بعض عن المفعول السياسي البعيد لذلك المونديال الذي قيل: إنه أنزل مكانة زعيم الحزب اليميني المتطرف لوبين وقتئذ درجات كثيرة، بل قيل: «إن مونديال 2006م عمل على توحيد الفرنسيين وصيانة هويتهم التعددية» لما شملته الفرقة الفرنسية من نجوم ذوي أصول متنوعة. وربما بإمكاننا أن نذهب إلى القول بأننا نعيش هذا التعدد، هذه الولاءات المتعددة، عند كل مونديال، حيث يعرف كل منا تجربة هوية لا محدودة. فقد يجد الواحد منا نفسه اليوم مع هذا البلد وهذا الفريق، كي ينتقل في الغد القريب إلى فريق آخر ربما كان هو خصم الأمس. لا يعود هذا فحسب لما يسمى عادة روحًا رياضية بقدر ما يرجع إلى «تعدد الألوان» التي تتسم بها الهوية بما هي كذلك؛ إذ تكشف الولاءات أن كلًّا منا باستطاعته أن يغير بين يوم وآخر موقعه داخل دوائر متمركزة فيخرج من إحداها ليقتحم أخرى، وهو الأمر الذي يجعلني أنتصر للفريق العربي ضد الفريق الإفريقي اليوم، لكنني سأجد نفسي مع الفريق الإفريقي غدًا ضد بلد أوربي، بل مع البلد الأوربي مرة أخرى ضد بلد أوربي آخر.

فكما لو أن الكرة «بنية تحتية» لا تكتفي بأن تحدد التراتبات الاجتماعية وترسم العلائق الدولية وتعلي من دول وتحط من أخرى، إنما تذهب حتى أن تحدد الهوية وترسم الأوطان. وهي لا تكتفي بأن تفعل في السياحة والاقتصاد، إنما هي التي تحدد اليوم الجغرافية السياسية والعلائق الدولية والولاءات للأوطان، إلى حد أن فرقنا الكروية غدت اليوم هي أوطاننا الجديدة.

في كتاب إ.غاليانو عن كرة القدم، نقرأ ما يلي: «هناك نُصْب في أوكرانيا يذَكّر بلاعبي فريق دينامو كييف في 1942م. ففي أوج الاحتلال الألماني، اقترف أولئك اللاعبون حماقة إلحاق الهزيمة بمنتخب هتلر في الملعب المحلي، وكان الألمان قد حذروهم: «إذا ربحتم ستموتون» دخلوا الملعب وهم مصمّمون على الخسارة، وكانوا يرتجفون من الخوف والجوع، لكنهم لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة. فأعدم اللاعبون الأحد عشر وهم بقمصان اللعب، عند حافة هاوية، بعد انتهاء المباراة مباشرة».

نادرون جدًّا اليوم لاعبون مثل هؤلاء الذين في مقدورهم أن يرتكبوا مثل هذه «الحماقة» ويُظهروا مثل هذه «الاستماتة» في ميدان اللعب (ليس بالمعنى المجازي هذه المرة). لا يقول الكاتب إنهم فعلوا ذلك من أجل الانتصار، إنما لكونهم «لم يستطيعوا كبح رغبتهم في الجدارة والكرامة». إنهم «دخلوا الملعب وهم مصمّمون على الخسارة»، إلا أنهم سرعان ما وجدوا أنفسهم يلعبون من أجل اللعب، سرعان ما «أخذهم اللعب» مثلما «يأخذ» منظر طبيعي «أخّاذ» الفنان وهو يرسمه، أو مثلما تأخذ المقطوعة الموسيقية العازف وهو «يلعبها». فكأنما نسوا أنفسهم، بمجرد أن دخلوا الملعب، ليضحوا غارقين في اللعبة، لا شيء يشغلهم إلا فنّها. لا يظهر أن مؤلف كتاب «كرة القدم في الشمس وفي الظل» يغفل الوجه السياسي للّعبة. وهو يبرز ما كانت هذه اللعبة قد اتخذته عند النازيين منذ الثلاثينيات من القرن الماضي «عندما أصبحت كرة القدم قضية دولة». لقد حذر النازيون فريق دينامو كييف من أن هزيمة الفريق الألماني تعني هزيمة النازية، وأن الكرة تعني بالنسبة إليهم استمرارًا للحرب داخل ميدان اللعب. إلا أن الكاتب قد أصرّ على أن يبين بالضبط عجز التفسير الأحادي عن فهم هذه اللعبة، وضرورة عدم اختزال كرة القدم في بعد واحد. فهو لا يدّعي مطلقًا نفي الأوجه الأخرى لهذه اللعبة، وأعني هنا الوجه الأيديولوجي والسياسي، لكنه لا يرى أنها لم تعد لعبة لتغدو سياسة أو اقتصادًا أو مهرجانات احتفالية، إنما يحاول أن يبيّن، أنها، إذ تتخذ كل تلك الأوجه، فهي تظل لعبة، وأن اللاعب سرعان ما يتحرر مرة مرة من ضغوطات العالم المعاصر وأسواقه وإعلاناته ويتنصل من الخنوع والخضوع و الانضباط والامتثال؛ كي يسترجع في شخصه الفنانَ الذي يسكنه، فيُؤخذ في لحظة ما باللعبة، لينسى، ولو مؤقتًا، الأرباح ونشيد الوطن، ويسترق لحظات يخوض فيها في «الرقص مع الكرة».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى